الفصل الأول
سوداوية الوحوش
سحقُ
الأرواح ورائحةُ الجُثث غُرزت في ذكريات الربيع الذي انطوى داخل ريتو أوريا ،
المُتعيّن في سرب رأس الحربة للخط الأول الدفاعي للجناح في منطقة الستة وثمانون من
الجمهورية. والمُنضم منذ عامين آنذاك ليصبح معالجًا. عُرفَ خط الدفاع الأول
بالمقبرة الجماعية وموقع التخلص النهائي من أولئك المعالجون الذين نجوا لفترة
طويلة جدًا. مؤكدًا بلا هوادة على موتهم في ساحةِ المعركة. وعادة يُرسل المعالجون
في السنة الرابعة والخامسة من خدمتهم ولكن أُرسل ريتو الذي مكثَ عامين في الخدمة
فقط والذي كان مبكرًا جدًا.
سادَ
اعتقادٌ للجمهورية على أنّ انتهاء الحرب ضد الفيلق سيأخذ عشر سنوات ، وكان من
المفترض أن ينتهوا بالفعل إلا أنّ ريتو والآخرون من الستة وثمانون علموا أنّ الأمر
مغايراً لهذه الأكذوبة ، وأبَت الخنازير البيضاء أن تخطو خطوةً إلى ساحة المعركة
لتعرف على الأقل مجرى الحقيقة وبدلًا من ذلك فرضت التخلص سريعًا من الماشية التي
احتفظوا فيها للحرب.
لن ينسى
أبدًا اليوم الذي بدأ فيه الهجوم واسع النطاق.
اهربوا
يا أطفال! لا أهتم إن اختبأتم خلفَ الجدران أو في أيّ مكان فقط اخرجوا من هنا
وابقوا على قيدِ الحياة!
اندفعت
صيحاتٌ خدشها الغضبُ من فاهِ قائدِ فريق الصيانة الأقدم في القاعدة ، محرّكًا
بكلماته جسد ريتو والاثنان وعشرون معالجًا إلى مركباتهم الجاغرنوت ليتّجهوا نحو
الجنوب. وقتئذ بفترة وجيزة انتشرت أنباء عن سقوط غران مور عبر الخطوط الأمامية ،
واندلع صوتُ قائد من المعالجون ، صوتٌ لفتاة أكبر سنًا منهم حيث أعلنَت عن نهاية
الجمهورية والستة وثمانون.
لم يكونوا
يريدون الموت في ظلِّ الجمهورية. إذا وُجبَ عليهم الموت ، فإنهم يفضلون ساحة المعركة
في قطاع الستة وثمانون مع رفاقهم الذين سقطوا من قبلهم. ولهذا السبب استوطن الفكر الذي
قادهم إلى السربِ الذي دعا إلى تأسيس قاعدتهم الخاصة داخل قطاعهم وليس إلى أحضان الجمهورية.
أخبرهم رئيس الصيانة ليف ألدريخت ، إنّ فتاة تعملُ بثقة وهي شخصٌ جديرٌ باتباعها
والذي سيزيد من فرصهم في البقاء أحياء ، لكن وجد ريتو صعوبة في الوثوق بخنزيرٍ أبيض
لم يقابله من قبل.
ومن
ثمّ لم يأت ألدريخت وطاقمه معهم.
سنكون
قذرون إن وقفنا مكتوفي الأيدي ونشاهدكم يا أطفال تسيرون نحو موتكم.
وقتئذ
أدلى ألدريخت وطاقم الصيانة ابتساماتٍ حرّة على تقاسيمهم بينما يصرخون بذلك.
لقد
بدوا مرتاحين بغرابة من نظراتِ أعينهم وبينما يؤدون وطنية عملهم حتى الرمقِ
الأخير. تألّف طاقم الصيانة لقطاع الستة وثمانون من الجنود الجمهوريين السابقين
المتخلّى عنهم والذين جُنّدوا مبكرًا في الحرب.
حيث
تطلّب خدمة الجاغرنوتز مهارة كبيرة ومعرفة فنية ، وبما أن لديهم تلك المعرفة لم يتم
التخلص منهم حتى لو أصيبوا بجروح وغير قادرين على القتال ، وكانت حياتهم قيمة نسبيًا
بين الستة وثمانون.
هذا هو السبب في أنهم اضطروا إلى الوقوف متفرّجين
لمدة عشر سنوات على الجنود الصبيان الذين من السهل التخلّص منهم ، الذين حملوا
أرواح رخيصة ، وقد استنفدوا وتركوا ليموتوا. من المحتمل أن يلعن ألدريخت وطاقمه عجزهم
وعدم جدواهم من أعماق قلوبهم.
ألا
ترى إن الالتفاف هنا وترك أكوام الخردة المعدنية لنا هو العقابُ المناسب...؟ ليس لدينا
مكان آخر نذهب إليه إلا هنا.
سيتحررون
أخيرًا من هذا الذنب. سوف يكفرون أخيرًا عن خطايا ترك الآخرين ليموتوا... لذا همست
الابتساماتُ على وجوههم وهم يحملون بنادق هجومية قديمة ومدافع رشاشة متعددة الأهداف
وقاذفات صواريخ الرب وحده يعلم أين اختبأت.
ثمّ سمعوا
بمجرّد فرارهم أصوات الأسلحة وهي تغزو بنيرانها من القاعدة. ولكن تلك الأسلحة هشّة
حتى بمقارنتها مع الجاغرنوت لم ترتقي لتكون وسيلة لمواجهة الفيلق. كان الصوت المألوف
للغاية لبرج لوي مقاس 120 ملم مدويًا عبر المناظر الطبيعية ، ووصلت نيران المدفع الرشاش
أمايزي المضادة للأفراد إلى آذانهم.
ثمّ هوَت القاعدة في صمتٍ أبدي.
عندما
خطَت أقدامهم القاعدة الدفاعية بالقربِ من الجبهة الجنوبية ، قابلوا بقيادة رازور
إيدج سرب الوحدة الأولى للجناح الذي تمثّلَ بالقوة الرئيسية. وكانت هذه المرة الأولى
التي يُبصر فيها ريتو هذا العدد الكبير من القوى في مكانٍ واحد ، لكن أعدادهم تناقصت
بسرعة في غمضةِ عين.
كان الصراعُ
مستمرًا بحلول الوقت الذي وصلت فيه المساعدات من البلدِ المجاور لهم جياد. حيثُ عبرَت
قوة من الوحدات المكونة من أسلحة متعددة الأرجل وسرب المشاة المدرعة أراضي الفيلق.
لقد كانوا من نوع فيلدري ßلم
يسبق له أن رآه من قبل ولكنهم مألوفين بشكلٍ غريب. بإعادة النظر آنذاك أدرك ريتو
أنّ أحد هذه الريغينليفز ربما ستكون جيدة جدًا لشين.
"...كابتن
نوزين."
لفظَ
اسم الصبي الذي خدمَ كقائد للسرب الأول الذي عُيّنَ ريتو فيه. فتى يكبره بثلاث
سنوات وأربعة من حيث الخبرة القتالية. ثمّ أنهى شين سيادته في نهاية فترة الستة أشهر
التي قضاها في هذا السرب ، وتقرّرَ إرساله إلى سرب رأس الحرب... أينَ افترضَ ريتو
بعد حين أنّه ربما قد ماتَ في القتال أو مهمة الاستطلاع الخاصة.
أخبرَ
ريتو شين أنّ ألدريخت قد مات ، لكنه أخفى عنه أيضًا اللحظات الأخيرة والكلمات التي
هُمست. اعتقدَ... أنّ شين سيجتاحه الحزن إن علم. لأنّه الذي تولى دور حاصد الأرواح
، والذي حمل أسماء وذكريات أولئك الذين حاربوا إلى جانبه ، وبالتأكيد أراد أن يأخذ
رئيس الصيانة العجوز العنيد معه.
حدثت
أعلى نسبة من الضحايا بين المعالجين إما في موقع التخلص النهائي أو عندما كانوا مبتدئين
في بداية خدمتهم عندما لم يعرفوا شيئًا عن ساحة المعركة. كانت أي موهبة مخفية لديهم
لا تزال غير مستغلة ، ويمكن أن يموتوا على أقل تقدير من حظّهم السيئ. في الفترة التي
مات فيها معظم المبتدئين قضى ريتو الأشهر الستة الأولى من حياته ، في سربٍ من حاملي
الألقاب مثل شين ورايدن. لقد كان سربًا من المحاربين القدامى ، لذلك كان لديه عدد قليل
من الضحايا مقارنة بالآخرين في قطاع الستة وثمانون...
لقد اعتاد
القائد على القتال دون أن يضطر إلى رؤية الرفاق إلى جانبه محطّمون إلى أجزاءٍ صغيرة
، وكانت لديه فرصة لتعلم كيفية القتال والبقاء على قيد الحياة. وبحلول الوقت الذي غادر
فيه ريتو ورفاقه ، كان قد اكتسب المهارة اللازمة للدفاع عن رفاقه في المعركة ، ولو
إلى حدٍ ما.
ولكن
لا يزال ريتو غير معتادًا على هذا الرعب بعد. لن يفهم أبدًا شين الذي غرق في مثل
هذه الأشياء كثيرًا لدرجة أنه لُقِّبَ حاصد الأرواح.
باختلاسِ
نظرة من نافذةِ القطار ، كل ما يمكن أن يراه ريتو هو الظلام الدامس. ولكنّه حدق في
انعكاس صورته التي طفت أثرَ الإنارة الداخلية ، جالسًا ومتجهًا مرة أخرى إلى ساحة المعركة
التالية ، همسَ بنبرةٍ حزينة حتى لا يوقظ أصدقاءه النائمين بجانبه. بصوتٍ لا يصلُ إلى
حاصد الأرواح الذي يمكن أن تلتقط آذانه حتى أصوات الأشباح.
" كابتن لأقول الحقيقة. ما زلتُ... ما
زلتُ خائفًا من الموت. وأخشى رؤية الآخرين يموتون أيضًا."
-
هدرَ
صوتٌ يصمُّ الآذان لوحشٍ سُحقت حنجرته ، قد صدى بصوتٍ عالٍ من الجانب الآخر من
النافذة. أينَ يدوي أيضًا صوت القطار فائق السرعة الذي يسير على طول المسار عبر
النفق الضيّق كاحلُ السواد. مما أثارَ مزاجًا سيئًا لشين جاعلًا من الذكرياتِ
تنبشُ قبرها والذي فضّل أن تظل مدفونة. وأجبرَ على الاستماع إلى الأصوات المتناوبة
المستمرة بين الجهيرة والمنخفضة ، متتبعًا عبرها الذكريات التي كانت تتأرجح على
حافّةِ النسيان.
كانوا
على السكك الحديدية عالية السرعة بين البلدان الغربية وتحديدًا على طريق إيجل
فروست الذي يمر عبرَ نفق سلسلة جبال جثّة التنين ، وهو أطول نفق للسكك الحديدية في
العالم ، وقد فتح مؤخرًا للاستخدام العسكري مما أدى إلى استعادة جزء من الطريق الذي
كان يربط ذات يوم إمبراطورية جياد والمملكة المتحدة.
في
ذلك الوقت استفاد الفيلق من كل ما وجدوه في الأرض التي سرقوها من الجنس البشري لإفادة
عملياتهم ، ولكن الشيء نفسه ينطبق على البشرية. احتفظ الفيلق بخطوط السكك الحديدية
القديمة عالية السرعة للسماح بحركة مورفو ، والآن همّوا في ترميمه بعد أن استعاد الممر
إلى أيدي البشر للاستخدام العسكري.
وتألفت سيارة الركاب الخاصة بالضباط من صفوفٍ من المقاعد مقابل بعضها البعض على الجانبين.
كان معظم الجالسين فيها يرتدون الألوان الزرقاء الفولاذية
للجيش الفيدرالي ، لكن تواجدَ أيضًا بعض جنود الستة وثمانون الذين أضفوا ألوانًا أخرى
إلى هذا المزيج.
آنذاك
ضاقت عينا شين وانزلقت تنهيدة صغيرة من شفتيه راميًا بصره إلى النافذة المظلمة.
ثمّ شقّت إحدى الذكريات قبل أحد عشر عامًا ، أثناء القافلة إلى معسكرات الاعتقال ،
أينَ سمع نفس الصوت من خلف جدران عربة الشحن. لقد قاموا بحشوهم في قطار شحن مصنوع لتوصيل
الماشية الذي تلقّبوه ، وكان مكتظًا للغاية لدرجة لم يُفسح المجال لموضع قدم أن
تتحرك.
في
كلّ مرة يجتاحُ التفكير في الأمر ، يلتمسُ مشاعر الارتباك والخوف اللذان وخزاه
عندما كان صغيرًا أمام هذه الأحداث. عندما تراكمت حرارة الأجساد المتقاربة وتقلّصت
ظروف التهوية جاعلةً التنفسَ صعبًا. ملأت هذه الذكرى شعور خانق قبضَ قلبه لوهلة. لقد
تعرض فجأة للسخرية والنكاية ونقلَ إلى مكانٍ غريب ، ولم يستطع تذكّر وجوه والداه
وأخاه الذي يكن درعًا قوي له وحموه من الناس.
ليس الأمر
أنه لا يمكنكَ تذكر طفولتك. أنتَ من لا يريد أن يتذكر.
ضاقت
عيناه أكثر من دون قصد عندما صدى صوتُ الجرس الفضيإ الذي يميّزه في ذكرياته.
لأنك
بهذه الطريقة يمكنك الاستمرار في الاعتقاد في أنّ ما فقدته وما سرقَ منك لم يكن
موجودًا أصلاً.
بهذه
الطريقة يمكنك الاستمرار في الإيمان بأنّ الناسَ حُقراء.
…الأمر
ليس كذلك. ليس أنني لا أريد التذكر ولكن تبقى حقيقة أنني لا أتذكر لا تزعجني بأي شكلٍ
من الأشكال.
"—شين."
استدار
ناحية الصوت العائد لرايدن والجالس في المقعد المقابل له مكمًلا قوله :
"
نحن على وشكِ الوصول إلى مدينة روجفولود. وقالوا إنّ الجو هناك أكثر برودة مما هو عليه
في الفيدرالية ، لذا تذكر ارتداء معطفكَ قبل النزول."
"
حسنًا."
يُسمح
للقطار بالوصولِ إلى المحطة الأولى بعد النفق فقط. ومن هناك لا بدَّ من استبدال القطارات
نفسها بسبب السكك الحديدية المختلفة. ولم يحمل القطار آلاف الجنود فحسب ، بل أيضًا
الجاغرنوتز التي تزن كل منها أكثر من عشرة أطنان. وسيستغرق الأمر وقتًا طويلاً لنقلها.
بُنيت السكك الحديدية خصيصا بخطوطٍ سريعة مما مكنها من نقل عدد أكبر بكثير من القوات والمعدات بزمنٍ قياسي. لذا وإن كانت الفيدرالية دولة صديقة في العصور الماضية ، وحتى لو كانت حليفًا للمملكة المتحدة في الحرب ضد الفيلق ، فإن القوى الشمالية العظمى ليست ساذجة للسماح لعدد كبير من الأسلحة والقوات بالدخول مباشرة إلى العاصمة الملكية.
"
يا رجل إنها حقًا المملكة المتحدة...؟ إنها مثل ، نحنُ حقًا ذهبنا إلى أبعد مما توقعنا
في أي وقت مضى ، أليس كذلك؟ "
"…بالتأكيد."
لم
يكن لأحدٍ منهم مقدار بسيط من التخيل أنهم سيغادرون حتى قطاع الستة وثمانون. والآن
عبر نفقٍ أساسي يمر عبر سلسلة جبال جثة التنين على الحدود الشمالية للاتحاد ،
فإنهم يتّجهون إلى دولةٍ مجاورة لم يعرفوها من قبل.
المملكةُ
المتحدة لروا جراسيا. أرضُ الأسلحة وإنتاج النفط وتعدين الذهب. الإمبراطورية الحليفة
الوحيدة لجياد وعدوّها الافتراضي الدائم. بعد سقوط الإمبراطورية أصبحت الآن آخر نظام
ملكي استبدادي متبقٍّ في القارة.
وساحة
المعركة التالية لمجموعة الضربات المتنقلة للستة وثمانون.
-
" —الهدف الأساسي لعمليتنا
القادمة هو الاستيلاء على وحدة القائد للفيلق الموجودة في الجبهة الجنوبية للمملكة
المتحدة ، والمعرّفة بـالـملكة عـديمة الـرحمة."
بالرغم
أنّهم ضباطًا مثل المعالجين ، ولكن خصّص سيارة منفصلة للضباط الميدانيين أمثال لينا
وجريث وأنيت. وأقيمَ ذلك للحفاظ على سلطة الضباط المتفوقين ولضمان السرية. حيثُ
كشف عن معلوماتٍ داخل الجيش على أساسِ الحاجةِ إلى المعرفة ، ولكن مقدار المعلومات
الحاصلة التي يجب أن يكون الضابط القائد والمعالج على دراية بها متفاوتة بشكلٍ
كبير.
احتوت
سيارة الركاب من الدرجة الأولى والمبطنة بألواحٍ خشبية بلون العنبر ، على طاولة مجتمعون
حولها وفوقها فناجين الشاي الساخن بينما لينا تومئ برأسها قائلة :
"
رسالة الفيلق التي شهدها النقيب نوزين أثناء عملية محطة مترو الأنفاق في شاريتيه كانت
دليلاً من المفترض أن يؤدي إلى وحدة قائدهم ، أليس كذلك؟ "
كانت
وحدة أمايزي الوحيدة المتبقية التي صُنعت في حياة الرائدة زيلين بيركنباوم ،
مبتكرة الفيلق والباحثة من إمبراطورية جياد السابقة. ولم تضيع بيانات زيلين الشخصية
في فوضى الاضطرابات السياسية ، لذا احتفظَ بالصورة الفوتوغرافية المصاحبة لوجهها. وأكدت
المخابرات مع شين ، الشاهد الوحيد على حدث "الرسالة" ، على اعتقاده
بأنّها تتطابق مع الوجه الذي رآه.
تعال
وجدني.
كلماتٌ غامضة التفسير بالنسبة للبشرية ، قادمة من الفيلق الذي لم يسجن أسرى ولم يحاول أي مفاوضات خلال حربهم أحادية الجانب من أجلِ بلدٍ لم يعد موجودًا بعد الآن. ربما كان لظهور شين الدّال مظهره إلى حدٍ كبير على أصله النبيل الإمبراطوري أحد المسببات في ذلك. أًصبح الفيلق حاليًا نظامًا مستقلًا لا يمكن السيطرة عليه ، ليس وكأنهم في حالة هياج ولكن قادتهم الذين أعطوهم الأوامر قد رحلوا منذ فترة طويلة. واستمروا هم في القتال لأنه كان الأمر النهائي الذي تلقوه. لذلك حتى الآن كان الفيلق يطيع الوصية الأخيرة وإرث أمّتهم المدمرة.
فإن كان
هذا هو الحال ، فماذا لو حكمَ الفيلق على حالة عدم تلقي أوامر جديدة لسنوات عديدة بحدثٍ
غير عادي وبدأ في البحث عن سيدٍ جديد لقيادته.
"
من المعتقدِ أنّ أي معلومات جديدة نكتسبها من خلالها قد تكون تلميحًا نحو إنهاء الحرب."
حتى وإن
لم تحمل زيلين نيّة ذلك فإنّها المسؤولة عن تطوير الفيلق. ومن المنطقي أن يكون
لديها رموز الإغلاق في حالات الطوارئ للفيلق أو نوعٌ من كلمات المرور لتصريح
الوصول إداريًا.
"
نعم. كما وافقت المملكة المتحدة على تسليمها مقابل تواجدها في جميعِ التحقيقات والكشف
عن جميع المعلومات التي تُوصلنا إليها ، لذلك يرجى بعد الاستيلاء على أمايزي أو تعطيلهم
أن تعاد زيلين إلينا. ولا نمانع الحالة التي تكون عليها طالما يبقى معالجها
المركزي سليمًا."
أمالت
أنيت رأسها في حيرة.
"
أنا مندهشة من قبولِ المملكة المتحدة لتلك الشروط. إنهم نظامٌ ملكيٌّ استبدادي ، وبالتالي
من وجهة نظرهم فإن مواطني الجمهورية والفدرالية هم مجرّد عامة الشعب. اعتقدتُ أنهم
سيكونون أكثرُ تعالٍ وسيمنحوننا وقتًا عصيبًا."
"
هذا لا يعني سوى أنهم ليس لديهم وقت الفراغ للقيام بذلك بعد الآن. رغم هدف هذه الرحلة
الاستكشافية هو تبادل التكنولوجيا معهم ، لكنها في الواقع جهود إغاثة فعّالة من الفيدرالية
إلى المملكة المتحدة."
"
ولكن هل هذا صحيح حقا؟ أنّ المملكة المتحدة وملكها البومة خائفين منذ ما قبل بدء الحرب
مع الفيلق والآن هم على وشك الانهيار...؟ "
تُعدّ
المملكة المتحدة لروا جراسيا حاليًا ثاني أقوى دولة على قيد الحياة ، بعد جمهورية جياد
الفيدرالية.
على الرغم
من أنها متخلّفة عن الاتحاد من حيث عدد السكان ومساحة الأرض ، إلا أنّها تتمتع بالقوة
العسكرية لتحمّل الهجوم واسع النطاق وإرسال القوات للمساعدة في هزيمة عملية مورفو.
ويبقى
السؤال لماذا مثل هذا البلد القوي فجأة يفعل هذا الآن ؟
"
الإجابة أبسط مما تعتقدين. منذ أن أًصبح نوع كلاب الراعي الجزء الأكبر والدعامة
الأساسية لقوات العدو ، أصبح القتال أكثر صعوبة على كل جبهة في كل بلد."
تجهّمت
ملامح لينا عند إدراكها أنّ جريث أكملت ارتشافها لبديل القهوة باعتيادية. صنّف نوع
الكلب الراعي ضمن الفيلق الذكي الذي أنتج بكمياتٍ كبيرة وأُنشئَ من أدمغة جثث مواطنين
جمهوريين أُسروا في الهجوم واسع النطاق. وبدا أنّ خلال العملية السابقة لاجتياح محطة
مترو الأنفاق قد قام الفيلق بنقل البيانات حول بنية أدمغتهم إلى مركز قواتهم العسكرية
قبل التخلي عن موقع إنتاجهم.
أصبحت
استراتيجيات الفيلق منذ تلك العملية أكثر تعقيدًا على جميع الجبهات في الاتحاد
والبلدان المجاورة.
ويبدو أن استبدال الخراف السوداء - وهو الفيلق الذي
استوعب الشبكات العصبية التالفة للموتى - مع نوع كلب الراعي يتقدم بشكلٍ ملحوظ.
" على أيّ حال ، كما هو مخطط سنكون أنا
والرائدة بينروز مسؤولين عن تبادل التكنولوجيا. والعقيد ميليزي ستكون مسؤولة عن القيادة
في الخطوط الأمامية. ثمّ بعد الانتهاء من هذه العملية سينضم جزء من وحدة القوات
الحليفة من المملكة المتحدة إلى حزمة الضربات المتنقلة ، لذا كوني على دراية بقدراتهم
في أسرع
وقتٍ ممكن."
رُسمت
على شفاه جريث ابتسامة بينما تقول هذا.
"
سنحشد أربعة آلاف منا لهذه المهمة. لقد حان الوقت لحزمة الضربات المتنقلة الستة
وثمانون لإظهار ما يمكنها فعله حقًا."
استمرّت
أنيت بإمالة رأسها قائلة :
"
كان هناك الكثير من الناس الذين لم يتطوعوا أيضًا. سمعتُ أن حوالي عشرة آلاف ناجٍ من
الستة وثمانون قد أُخذوا وآووا من قبل الفيدرالية."
أثناء خدمتهم في الجيش الفيدرالي مُنحَ للستة وثمانون تعاملًا كضباطٍ خاصين تلقوا تعليمًا عاليًا. بسببِ إرسالهم إلى معسكرات الاعتقال منذ طفولتهم المبكرة ، لم يتلقوا حتى التعليم الابتدائي. لهذا كانت مدة تعليمهم أطول من فترة الضابط الخاص العادي ، وبينما يُدرّس هذا التعليم من خلال المراسلة ، فقد نُقلوا إلى الدراسة الخصوصية في مدرسةٍ خاصة أقيمت بالقرب من مقرهم الرئيسي.
نظرًا لإمضاء ربع القوات بين التعليم والتدريب ، والأخذ بالاعتبار فترات إجازاتهم المقررة ، فقد بلغَ أكبر عدد ممكن نشره في حزمة الضربات المتنقلة أربعة آلاف جندي مشترك.
كانت
أحد الأسباب بعدم تحويل المدرسة الخاصة إلى تعليم نظام المراسلة هم شين ومجموعته
الذين آووا من قبل الفيدرالية. حيث تخلّوا عن دراستهم عن بُعد بسبب انشغالهم
المستمر بتأسيس حزمة الضربات المتنقلة بعد الهجوم واسع النطاق. ولكن حتى مع افتراض
أنّ نصف القوات التي أُنقذت فقط والحاضنة لعشرة آلاف فرد في حالةٍ نشطة ، تظل
الحسابات غير موفّقة مع حقيقة أنّ لديهم أربعة آلاف جندي فقط.
"
أصبحَ بعض هؤلاء الأطفال أعضاء طاقم الصيانة السابقون لريغينليفز غير قادرين على
القتال... والقسمُ الآخر قاتلَ كثيرًا حتى فقد رغبته في الاستمرار وغادر."
واستُثنى
من العدد الأطفال الذين عُنّفت طفولتهم بإرسالهم إلى معسكرات الاعتقال في سن مبكر
للغاية ، والذين يعانون من إعاقاتٍ جسدية ومشاكل في الصحة العقلية وأولئك من
انحدرت رغبتهم في المشاركة بالتجنيد.
"
وكيف حالُ الأطفال الآن... آه... هل يتلقون علاجهم؟ "
نتجَ عن حماية الأعداد الهائلة من جرحى وأيتام الحرب الذين استمروا بالظهور طوال السنوات العشر منذ بدء الحرب مع الفيلق مشاكل مسّت الفيدرالية.
"
أُرسلوا إلى مؤسساتٍ متخصصة أو أُخذوا من قبل الأوصياء... لقد تعاملت الفيدرالية
مع الستة وثمانون مثل ما تلقّاه الكابتن نوزين ومجموعته. حصلوا على التبنّي من قبل
النبلاء السابقين وكبار المسؤولين. والبعض أعارهم أسماءهم وألقابهم ولكن لا يمكنهم
معاملتهم بإهمالٍ شديد لأنّ أسماؤهم بحوزتنا هنا. "
طالَ
الزمنُ عشرة سنوات منذ أن هُلكت سلطة الإمبراطورية ونُصبَ حُكم الديمقراطية ، ومع
ذلك فإنّ الأخلاق النبيلة التي لازمت أرواح السادَة محتوية أعمال الخير لا تزال
بأوجِ قوّتها. وربما كانت هذه الوسيلة الوحيدة التي ورّثها النبلاء السابقون
لتمييز أنفسهم عن الجماهير بعد إلغاء النظام الطبقي رسميًا. لذا تسلّلت الأنفاس من
صدر لينا إلى الخارجِ حرّة ومرتاحة.
"
فهمت. هذا... جيدٌ إذن."
"
وشملَ هذا النُبل أيضًا التعاون مع المملكة المتحدة. ، هناك أوقاتٌ يمكن أن يكون
فيها هوس النبلاء بالحفاظ على شرفهم وكرامتهم مفيدًا."
جاء
الرد بإرسال المملكة المتحدة القوات بعد انتهاء العملية المشتركة بفضلِ فكرة
الالتزام النبيل. وقُرّرَ إرسال أحد ضباط القيادة كضابط زائر تحت إشراف لينا
مباشرة ، وعليه ستُخفض رتبته كجنرال إلى رتبة عقيد حتى لا يتعارض مع رتبة لينا.
" سمعتُ أنّ ضابطَ المملكة المتحدة ذو نسبٌ ملكي."
"
نعم إنّه الأميرُ الأصغر الخامس فيكتور إديناروك. شخصيةٌ مؤثرة كقائدٍ أعلى لجيش
الجبهة الجنوبية وهو يبلغ الثامنة عشر فقط. ونائبُ المعهد التكنولوجي الملكي
والإسبير لهذا الجيل."
ألقت
جريث كلماتها بشكلٍ عابر بعكس لينا التي جذبها الاهتمام. بالنسبة لنشأتها في
الجمهورية كانت كلمة الإسبير لا تزال تحمل حلقة غامضة. عُرف عنهم في مناسبةٍ
نادرةٍ حيث أظهر أعضاء من سلالةٍ قديمة بشكلٍ خاص قدرات خارقة للطبيعة. واتحاد
جياد الذي حكمه الملوك حتى قبل أحد عشر عامًا لا يزال يحتفظ بالعديد من هذه
العائلات المميزة. أينَ يلتحقون في الجيش ويتصرفون كمتخصصين يقدمون بوثوق يساوي أو
يفوق المعدات الحديثة.
وعلى
العكس في الجمهورية ، فقد تخلّصت من نظام الإسبير قبل ثلاثمائة عام في فترة إلغاء
النظام الطبقي. من أجل تجنّب الدم المختلط ودون الآثار السلبية لزواج الأقارب ،
وتطلبت العشيرة عددًا كبيرًا من أفراد الأسرة والموارد المالية والقوة للحفاظ
عليها. بينما النبلاء القدامى الذين فقدوا ممتلكاتهم وأراضيهم في الثورة ، لم
يتمكنوا من الحفاظ على هذا النظام.
احتوت
حزمة الضربات المتنقلة اثنين من الإسبير وهما شين وفريدريكا. ومن منظور لينا الذي
يعد من الفطرة السليمة ، فإن شيئًا ما عن تلك القدرات خارج الحواس بدا غير طبيعي
بشكلٍ رهيب. وبعد العملية الأخيرة ، تسببت قدرة شين في تدهور حالته الجسدية بشكلٍ
كبير.
لم يكن هذا حدثًا معتادًا ، ونتج عن الإجهاد الناجم بسبب ظهور كلب الراعي.
ولكن
إذا كانت قدرته ترهقه كثيرًا ، فلن تجبر لينا نفسها على الاعتقاد أنه شيئًا يمكن
اعتباره أمرًا مفروغًا منه. وقد وصفت جريث إسبير المملكة المتحدة بأنه " إسبير هذا الجيل معدودين "... إذا
عنى ذلك أنّ الكثيرين لم يكن موجودًا في نفس الجيل ، فقد يعني جيدًا أن هذه
القدرات كان لها تأثير سلبي كافٍ على صحة المرء في تقليص أعمارهم...
"...هممم
، وما نوع القدرة الخاصة التي تتمتع فيها العائلة المالكة؟ "
"
طوّرَ الأمير فيكتور بمفرده نموذج الذكاء الاصطناعي ماريانا للفيلق ، لكن ربما
القول أنه طوره عندما كان عمره خمس سنوات فقط سيضع الأمور في نصابها. إنهم سلالة
تنتج عباقرة وهذا المعجزة. لديه أيضًا إنجاز مثير للإعجاب يتمثل في تطوير وتحسين
نظام التحكم فيلدريß في
المملكة المتحدة... ويُعرف باسم ملك الجثث
وأفعى الأغلال والانحلال. كما أن هناك شائعات بأن حقه في المطالبة بالعرش قد
ألغي."
وقتئذ
شلّت حركة أنيت وكرّرت كلماتها بصدمة.
"
إبطال ؟! ألم يتنازل عنها؟ أحقًا أُبطِلت...؟ "
"
ومن ثمّ ما 'ثعبان الأغلال و
الانحلال'...؟ هذا فظيع…! "
اعتُبرَ الثعبان في ثقافات القارة الغربية رمزًا للفساد والشر. ولا سِيَّما الأفعى التي لها سم قوي قادر على إذابة جسدها ودمها. ولم يكن اسمًا سيطلقه المرء على أميرهم بمحبة.
"
باستثناء هذه الغرابة فإنّ السلطات الممنوحة له كثيرة ومهمة ، كما أنّ ولي العهد
يشاركه بذات الأُم لذلك حصل على اعتزازه. وهناك صراعٌ على حقوق الخلافة في المملكة
المتحدة بين ولي العهد وأشقاؤه الأمير الثاني والأميرة الأولى من المحظيات. عُرف
الأمير فيكتور بكونه جزءًا من منصب ولي العهد زافار القدير الشهير ، وأُشيد
باعتباره اليد اليمنى له."
"...من
أين لكِ كل هذه المعلومات...؟ "
هزّت
جريث كتفيها بلا مبالاة.
"
لقد أعدنا فتح خط السكة الحديدية هذا الشتاء قبل وصولكم ، وكان لبعض أفراد جيش
المملكة المتحدة وعدد قليل من الجنود حريّة الذهاب والإياب منذ ذلك الحين."
"…نعم."
"
منذ آنذاك كان ضباط المخابرات يتسللون ، واستعادوا الاتصال مع القدامى.... ليس
غريبًا أن ينطبق الأمر على كلا الجانبين لحدوث التعاون."
تألّقت
إمبراطورية جياد السابقة والمملكة المتحدة لروا جراسيا بممالكِ استبداديةٍ وحلفاء
قدامى ، والوجه الآخر أعداء افتراضيين لبعضهم البعض. وبقي الحال حتى الآن بعد سقوط
الإمبراطورية ودخول البشرية في حربٍ مع الفيلق...
" بالمناسبة ، العقيد ميليزي."
أدلَت
جريث بنبرةٍ غير رسمية تلمّح عن جوٍّ ما لأحدهم ، قد أشعرت لينا بالقبضِ عليها في
وضعٍ غير مستقر وأنيت التي فهمت ما القادم تسللت من مقعدها خلسة.
"
هل تشاجرتِ مع الكابتن نوزين؟ "
تلبّكَ
ريقها عند ارتشفاها الشاي واختنقت.
"
هااااه...؟! "
"
لم أراكما قط تجتمعان وتتكلّمان منذ عودتكِ من الجمهورية."
"
آه هذا..."
توسّلت
لينا بنظراتها لأنيت كي تساعدها لكن الأخرى تجنّبت تلاقي أعينهما.
"
أنا لا أريد الحديث عن الأمر."
"
ليس لدي النيّة بإقحام نفسي في شؤونكم الشخصيّة ولكن لاحظت استمرار حدوث ذلك لفترة
طويلة جدًا. وعليه إذا كان لدى قائدتنا التكتيكية وقائد وحداتنا المدرعة مشاكل في
التواصل بينهما ، فقد يؤثر على العمليات المستقبلية."
"
صحيح…"
لقد
كان الأمر على هذا النحو منذ ذلك الحين.
"
ما زلتم محاصرون من قبل الجمهورية. من قبلنا نحن — الخنازير البيضاء."
"
هذا يجعلني... حزينة جدًا."
منذ
آخر حوار بينهما لم يجتمعا مرّة أخرى في حديثٍ مناسب. وليس الأمر أنهم يتجنّبون
بعضهم البعض ، كان هناك التبادلات المتعلّقة بواجباتهم في العمل عدا عن ذلك فانعدم
كليًا. مثل المواضيع التافهة التي كانوا قد تشاركوها بعد الانتهاء من تقاريرهم
ومصادفات بعضهم البعض في الردهة والتّحية كل ذلك توقّف وحلّ صمتًا متوترًا وإحراجًا أعاق محادثاتهم.
لم
يخالجها الندم على ما قالته حينئذ ، ولكن مع استمرار الوضع تداركت خطأها في إبداءِ
ملاحظاتٍ أحادية الجانب والحكمية. ثمّ أوضحت ذاكرتها هالة شين الغاضبة والتي قمعها
دون أن يخلو صوته من الانزعاج عندما بصقَ كلماته :
"
لا... أفهم. "
تحفّظَ
في لهجته قدر الإمكان ومستمرًا
"
أحقًا الأمر سيئ للغاية لينا؟ "
وقتئذ
تملّكهما الحيرة والارتباك.
رُقّت
عيناه بعدم استيعاب الأمر ، بعدم فهم القلق الذي يهلك لينا ويجعلها حزينة دومًا ،
كما لو أنّ أيًّا من كلماتها وعواطفها لا تنتقل إليه ، كما لو كان وحشًا مشوّهًا
بقالبِ إنسانٍ فقط.
شعرَت أنّ الارتباك الذي استوطنه عند اعترافها المفاجئ أرادت أن يحدث.
لكنني
مختلفة تمامًا عنهم. لم أحبذ التفكير أنه على الرغم من أننا نتحدّث نفس اللغة ونرى
نفس العالم ونتواجد في نفس المكان ، ولكننا لا نفهم بعضنا البعض.
لا.
إنه
أكثر من ذلك.
آنذاك
خدشَت عيونه القرمزية نظرات من السخطِ وغضب. وخلفَ ذلك ومضَ بتردّد ظلٌّ لطفلٍ
جريح. وتأكدّت أنّه صُدم من قبل شخص لم يتخيله أبدًا أنه سيهاجمه. كما لو أنّ لينا
ستكون آخر شخص قد يفكر في قول ذلك له.
رنينُ
كلماتٍ احتضنتها مسامع لينا ذات مرّة عن أنّ الفخرَ وحريّة الستة وثمانون تتغنّى
بالقتالِ حتى النهاية المريرة والانتقال إلى خلاصِ وجهتهم الأخيرة. وكانت الكلمات
قد خرجت من أفواههم بأنفسهم. وللحفاظ على هدفهم عادوا إلى المعركة حتى بعد إنقاذهم
من قبل الفيدرالية. لذا فإنّ إخبارهم بأنهم ما زالوا محاصرين... أنهم ما زالوا في
قطاع الستة وثمانون ، وأنهم لم يخطو للأمام ولو خطوة واحدة من حيث كانوا من قبل ،
كان مهينٌ لدرجة لا توصف.
اختبأت وراء ستار حزنها لتكن حجّة ، ولكنها داست على الإحساس الوحيد بالفخر الذي كان مسموحًا لهم بالحصول عليه.
وصارعت
التفكير في أنّها قد آذتهم. وبعد استيعابها أغرقَت لينا نفسها بكراهية الذات في
بحرٍ من النار. والواقع أنّها هي من تجنّبت شين للهروب من حقيقة أنّها أهانته...
وآذته.
"…كولونيل؟
"
حقيقة
أنّها كرّرت ذات الأسلوب منذ عامين. كيف اعتقدت أنّها وقفت بجانبهم وفهمتهم. وهي
لم تحاول معرفة أي شيء عنهم ، ولا حتى أسمائهم. لقد دفعت بقصد الخير مشاعرها
وانطباعاتها عليهم من جانبها فقط ، وفي النهاية أساءت إليهم.
"
العقيد ميليزي."
لم
يتغير شيء. لم أتعلم شيئًا بعد كل هذا الوقت. يا له من عار. كم هذا محرج.
"
العقيد ، أنا أتحدثُ معك."
…لا
انتظر لحظة. ماذا سأفعل إذا كَرهني على هذا…؟!
"
يا ، توقّفي. فقط اهدئي."
رفعَت
وجهها لتلتقي نظراتها مع أنيت وجريث اللتان تحدّقان فيها. وانقشع الانغماسُ بعد
تداركها لأناملها التي أحاطت رأسها المُتدلي على الطاولة بلا وعي.
رأت
جريث ترتدي ابتسامةً خلفها ضحكة مكتومة.
"...يبدو
الأمر أشدّ جديّة مما اعتقدت."
"
أ- أنا آسفة..."
"
لا عليكِ فقد قابلتهِ للتو. الخلافُ والجدال لا بُد من توقّعه."
امتدّت
شفاه جريث الحمراء إلى الأعلى مبتسمة مرّة أخرى.
"
لن يتوقف الكابتن نوزين في القاعدة التي ستتمركز فيها وحدتنا ، وسيأتي معنا إلى
العاصمة الملكية. سيكون لديكِ متسعٌ من الوقتِ للتحدّث حتى العملية ، استغلّيه
لإصلاح الأمور."
* * *
"…بالمناسبة…"
كان شين منغمسًا بالنظرِ إلى
النافذة المظلمة رغم فقدان الوضوح خارجًا ولكن صوت رايدن الذي قفزَ فجأة جعله
متوترًا.
" هل تشاجرتَ مع لينا ؟
"
فقدَ بالفعل لحظة الانغماس
بسكونه الخاص وشفنَ رايدن الذي أراح مرفقه على النافذة ضاغطًا بقبضته خدّه
ومنتظرًا ليردّ شين بكلمة وحاجب مرفوع :
"…كيف؟ "
" ماذا تعني بكيف…؟ هل
تحاول إخفاء الأمر؟ يا رجل ليسَ لديكَ بحق خالق الجحيم حقًا وعي ذاتي ومطلقًا.
"
اعتبرَ شين صوت رايدن المندهش
مزعجًا وتنهّد كاسرًا الوهج الذي لم يتعمّد إظهاره وهو يحدّق في الأعين ذات
الألوان الحديدية ، وأعادَ بأنظاره إلى النافذة السوداء.
"...لا أظن أنه كان
قتالًا كبيرًا حقًا."
نظرًا لخبرته الواسعة جدًا في
المعارك حتى الموت والمعاملة البغيضة المروعة التي تلقاها أولئك المنحدرين من
سلالات الإمبراطورية في بعض الأحيان لا يمكن أن يسمّيها شين قتالًا.
مقارنةً حقًا بما حدث ، فإن
الاختلاف البسيط في الآراء لم يُطلق عليه كنزاع.
أو بالأحرى لا ينبغي أن يكون
، ولكن...
" قالت إننا نحن...
الستة وثمانون ، ما زلنا محاصرين في ذلك القطاع."
صمتٌ للحظة قد ابتلعَ رايدن.
"... ها؟ "
قلبَ
عيناه بامتعاضٍ لثانية ثمّ كبت أي عاطفة قادته لهذا الفعل ، ربما لأن لينا هي التي
قالت ذلك. وهي بالتأكيد لم تقلها نكاية. لكنهم ما زالوا يضايقونه ، وهو شعورٌ
اختبره شين جيدًا.
"هذا
يجعلني حزينة جدًا."
في
اللحظة التي وقعَ طنين هذه الكلمات على أذنه ، شعرَ بشيء ما دفعه إلى النفور بشكلٍ
غريزي. ولكن ما ظهر بجانب تلك المشاعر هو الارتباك وألم غير ظاهر. إنّ عدم قدرته
على فهم ما كانت لينا قلقة بشأنه هو جزء منه بالطبع ، لكن أكثر ما أربكه هو أنه لم
يفهم سبب شعوره بالحاجة إلى الجدال.
هل
لأنه إذا فعل ، سيستمر في الاعتقاد بأنّ الناس حقراء...؟ هل كان ذلك حتى لا يتخلى
عن هذا العالم البارد والقاسي كما كان؟
ولكن هذا هو بالضبط ما كانت عليه الأمور.
هذه
طريقة عمل العالم. لم يتمحور الأمر حول الجنس البشري. إنه فقط غير مبالٍ وبارد...
وعاجزٌ كذلك. بينما ما انطبق على من يحتويه من البشر ، الذين على عكس هذا العالم ،
تصرفوا بناءً على الحقد الذي شعروا به اتجاه الآخرين. كان هذا شيئًا تعلّمه شين
جيدًا في معسكرات الاعتقال وفي ساحة المعركة في القطاع الستة وثمانون. إن رؤيته
لتكرار الحال مرة تلو الأخرى أعطته كل الدروس التي سيحتاجها.
لذا
فقد أشار ببساطة إلى... ما الشيء الغير سار في حالنا ؟ لقد ذكر الحقائق فقط. هل هو
هذا سبب حزنها؟ لأنها أشفقت عليه؟ كما قالت جريث ذات مرة ، لا يحقُّ لأحدٍ أن يشفق
عليهم. وفي هذه المرحلة التي وصلها شين فلم يعد مهتمًا بذلك بعد الآن. أعطى للطرف
الآخر حرّية الشفقة عليهم وبكل العواطف التي تدفعهم ، أما هو فلم يكن ينوي اللعب
معهم في المسرحية.
لكن
إذا كان الأمر كذلك... لماذا؟
مجددا
لم يفهم شين بصدقٍ ما كانت لينا حزينة بشأنه. لم يكن لديه رغبة في أن يُحزنها
بالطبع ، لكن بما أنه لم يستطع الفهم ، فقد جهلَ كيفية التعامل معها. كان من
السهلِ أن يشعر تجنّبها له ، ولم يتحدثا منذ ذلك الحين إلا بصعوبة. في النهاية
سقطَ من كلاهما الاستعداد لطرحِ الموضوع ، تاركين الأمرَ في حالةِ صمتٍ مُحرج.
" —شين. يا ، شين."
ضلّ
شين طريق أفكاره لفترةٍ ليست قصيرة متناسيًا ملاحظة رايدن وهو يلوّح بيده أمام
وجهه. ثمّ عاد للتركيز نحو الذي ابتسمَ بتكلّف.
"
أتعلم ، أنتَ حقًا... لقد تغيرت حقًا."
"
؟ "
ردّ
رايدن غاضبًا: " انسَ الأمر." وزفرَ مكملاً " حسنًا بمعرفتي لك ،
سينتهي أمرك في التخلص من مهمة متعهّد دفن الموتى قريبًا بما فيه الكفاية ، لذا
تحدث معها بعد ذلك... أعني ، الحفارة خاصّتك هي جحيم ملكة الحظ في النهاية."
كانت
هذه لغة عامية لوحدة تتعطّل دائمًا وتقضي وقتًا أطول في الإصلاح في حظيرة الطائرات
أكثر من الوقت الذي تقضيه في ساحة المعركة. وبغض النظر عن المناوشات الصغيرة ، كان
لدى الأندرتيكر طريقة لإلحاق أضرار جسيمة دائمًا أثناء المعارك الكبيرة ، لذلك
ربما كان من الطبيعي أن يُطلق عليه هذا الاسم.
"...لطالما
أمطرني ألدريخت بالشتائم من أجلِ ذلك..."
"
نعم…"
أنا
لا أخبركَ بالاعتذار — إنني أقول لكَ أن تغيرَ
طرقك!
أسلوبُ
قتالكَ المجنون هذا سيقتلكَ يومًا ما!
أخبرهم ريتو أنه مات خلال الهجوم واسع النطاق ، إلى جانبِ أعضاء طاقم الصيانة الآخرين وجميعهم في نفس اليوم.
شعرَ شين بنوعٍ من العاطفة عندَ سماعه ذلك ، لكن
جزءًا منه كان يعرف أن هذا مآل الحال. جعلَ الستة وثمانون ساحة المعركة موطنهم
وافتخروا بالقتالِ حتى النهاية المريرة. وكتبوا الموت لحكايتهم في النهاية.
وهذا
ينطبق تمامًا على رئيس الصيانة القديم الذي وقف إلى جانبهم على الرغم من كونه ألبا.
لكن
مازال…
"...أتمنى
لو كان على قيد الحياة."
التفّت
عينا رايدن إلى شين الذين استمرّ قولاً دون أن يلتقي بصره.
"
لو كان بإمكانه البقاء حيًّا حتى جاءت قوات الإنقاذ ، فقد يكون قادرًا على الأقل
رؤية ضريح لعائلته. سيكون البحث عن رفاتهم أمرًا صعبًا ، لكنه كان ليتمكن من
الذهابِ إلى ساحة المعركة الأخيرة."
خلافًا
لي ، الذي لا يتذكر عائلته... استحضرَ ألدريخت ذكرى زوجته وابنته على الدوام ،
وكان يمكن أن ينعم بالقليلِ من السلام.
كل
الستة وثمانون ماتوا في نهاية المطاف... لقد استوعبَ شين ذلك. لكن هذا لا يعني أنه
لم يكن متأثرًا بالقدر الهائل من الموت الذي شهده.
"...صحيح
، بمجرّدِ انتهاء الحرب مع الفيلق ، سيكون من الممكن زيارة قبورٍ كهذه."
ثمّ
بعد تنهيدةٍ ثقيلة ، أحنى رايدن جذعه إلى الأمام باهتمام.
"
ما رأيكَ يا شين؟ هل كانت 'زيلين' التي رأيتها تبدو وكأنها
أرادت إنهاء الحرب؟ "
"…من
يعلم؟ "
لم
يكن لتلك الآلات الدقيقة السائلة التي شكّلت امرأة مُيّزت بإصدار الصوت بالنسبة
لشين أي وسيلة لالتقاط أي عاطفة أو فارق بسيط في نبرةِ صوتها. كل ما استطاع
استخلاصه هو الرسالة.
تعال
وجدني.
ذُوّبت
نيّة الرسالة بقالبٍ من غموضٍ محير ، حتى بالنسبة لشين الذي وُجّهت إليه تلك
الكلمات.
"
إنه شيء نفترض من خلاله إرادتهم للتفاوض أو تبادل المعلومات ، لكنّي بصراحة أعتقد
أنها قفزة كبيرة جدًا للاستناد على أنّها تلميح لإنهاء الحرب. حتى لو كانت هناك
معلومات تُحجبها المملكة المتحدة عنّا... لا أرى هذه الحرب ستنتهي بهذه
السهولة."
لم
يكن هناك مكانٌ واحدٌ في القارة يمكن للمرء أن يحلم بالهرب إليه من الحرب ، ولا
يمكنهم تذكر وقت قد خلى الأمر من ذلك. لكن…
"...لكن
إذا بلغ مآلُ الحرب... سيكون هذا شيئًا جيدًا بطريقتهم الخاصة."
أريدُ أن أريها البحر.
أرادَ
أن يريها شيئًا لم تلتمسُ معرفته ، شيءٌ لم تره من قبل. أن يهديها كل ما استحوذ
عليه الفيلق من العالم. تلكَ الكلمات التي همستها لم ينسها شين مطلقًا. ولعلّها
كانت سببًا لمواصلة القتال أينَ لم يكن لديه أي توقّعات ومن المرجح أن تحترق الرغبة
دون تحقيق مع نيران الموت.
ولكن
في يومٍ من الأيام إذا انتهت الحرب...
صمتَ
رايدن مستمعًا حتى اللحظة.
"
نعم. إذا انتهت الحرب... "
تراجعت
كلماته التي وقفت على طرفِ لسانه في منتصفِ الجملة ، ولم يقل أي شيء آخر. كان صمته
يروي آلاف الكلمات التي فهمها شين.
راودهم
إحساس روعة انتهاء الحرب في نهاية المعركة. لكنهم لم يستطيعوا تخيل مثل هذا المشهد
لأنهم لم يعرفوا شيئًا سوى ساحة المعركة.
في
أقلّ من عشرين دقيقة ، اجتازت قطارات القطار فائق السرعة النفق الذي استغرق حفره
عامين بصوتٍ مدوي. ثمّ كأنّه وُلدت شمسٌ جديدة داخله أعمت قرنية الأفراد التي عاشت
الظلام للحظات ، حتى اعتادوا تدريجيًا على السطوعِ الناصع وفي صمتٍ حدّق الاثنان
لما وراء النافذة.
أعاق الزجاج المضاد للرصاص لألواح النوافذ
نفاذية الضوء مما أعطى المنظر الخارجي لونًا مزرقًا. ورغم كونها دولة مختلفة ، لكن
الكآبة ظلّت كما هي. لم يعيش أي مقاتلين بالقربِ من الجبهات. كل من نجوا تركوا
أوطانهم ورائهم.
تطايرت
رقائق سميكة فضية رمادية على الأرض. وانتشرت الأنقاض القديمة في الحقول الثلجية
ليجعل المنظر يبدو مقفرًا تقريبًا مثل ساحة معركة قطاع الستة وثمانون ؛ هنا بدا
أنّ كل شيء قد تجمد ، وامتدت الأرض القاحلة على مدِّ البصر.
-
تمركزوا
في محطّة مدينة روجفولود التابعة للمملكة المتحدة في روا جراسيا.
"
إذن نحن سنتّجه إلى القاعدة أولاً. آه... إنها قاعدة قلعة ريفيتش أليس كذلك؟
"
"
نعم... وآسف لرَمي جميع الأعمال الثقيلة عليك."
"
حسنًا ، أنتَ المسؤول الرئيسي التكتيكي هنا ، وسيتوّلى ضباط الأركان والتخصصات
عملية النقل بنفسها. فلا تقلقوا يا رفاق وفقط اهتموا بمرافقة العقيد ولينا."
لوّحَ ثيو بيده شاقًّا طريقه إلى القطار التالي حيث ستفرّغ ويعاد تحميل حاويات الجاغرنوتز إليها. انقسمت الوحدة إلى نصف سيسبق اليوم والآخر سيلحق في النقل التالي ، بأعدادٍ تجاوزت آلافٌ من جنود حزمة الضربات المتنقلة وفيلدري ßإلى قاعدة قلعة ريفيتش الواقعة على الخطوط الأمامية للمملكة المتحدة. كانوا يقومون بالنقل على مراحل وبفواصل من أجل التملّص من العين الساهرة لنوع تحكم المراقبة رابي.
بعد
أن انتهى شين من مراقبة رفاقه وهم يرحلون بعيدًا ، وجّه نظراته تاليًا إلى مشهد
مدينة روجفولود. وكما قيل له وهم في القطار كانت هذه المدينة واقعة عند سفح سلسلة
جبال جثة التنين ، ومكسوّة بالثلجِ الباردِ الخفيف. بُنيَ عمارها في أقصى الجنوب
ويعيشها المدنيون بينما تخضع حاليًا للتيار الكهربائي ، والذي أعطاها وصفٌ عن مدى
قوّتهم في الكهرباء.
لاحَ
نورُ النجوم مبرزًا ظلّ هيكل مقبّب ضخم يحوز على محطةٍ من الطاقة النووية ، حيثُ
تزوّد من مشارِف المدينة دفئًا لهذه المملكة الباردة.
وقعَ
خلفه صوتٌ لشخص يدوس واقترب.
"...
نوزين."
استدارَ
ليتبادل النظر مع صاحب الصوت الذي حملَ على صدره ميدالية بصورةِ مركبة. أوضحَت
أنّه أحد المتحكمين في مركبةِ القيادة فاناديس التابعة للينا ، وأيضًا زميل سابق
له من أكاديمية الضباط الخاصة إروين مارسيل.
"
ألم تتقاعد من الجيش؟ "
"
حاليًا لا يمكنني قيادة فاناغاندر بسبب إصابة أنهكت ساقي خلال الهجوم واسع
النطاق."
نظرَ
مارسيل إلى ساقه اليمنى مقتربًا بخطاه والتي بدَت أنّ الإصابة لم تعيق سيره.
وتحدّث قائلًا إنها كسرٌ مفتوح... فقد اخترقَ عظمه المكسور جسده وشقّ جلده ولا
مفرّ من قطع أحد الأعصاب.
لم يعيق الحادث حياته اليومية ولكنّه كان مدمرٌ
بدرجةٍ لم يعد فيها قادراً على مواكبة سرعة ردة الفعل اللازمة لاتخاذ القرار في
أجزاءٍ من الثانية التي استغرقها أثناء قيادة فيلدريß.
"
ثمّ ماذا تقصد بحق خالق الجحيم بـِـ' ألم
تتقاعد؟ ' على عكسكم أيّها الستة وثمانون فلا يمكننا نحن
الضباط الخاصين كسب لقمة العيش إذا تركنا الجيش."
"
حُذفتَ بعد إعادة التنظيم من سجل الوحدة 177 للفرقة المدرعة ، ولم يُعلن عن اسمك
في إذاعة قتلى الحرب. لذلك اعتقدتُ أنكَ تقاعدت... لم أتصوّر أنني سأرى اسمكَ في
سجل وحدة مركبة القيادة لحزمة الضربات المتنقلة."
"...لم
أعتقد أنكَ ستهتم. كنتُ أفكّر دائمًا أنكَ لا تبالي بأيّ شخص وأي شيء حولك."
كان
الافتقار إلى العاطفة والاهتمام شيئًا كرهه مارسيل بشأن شين منذ أكاديمية الضباط
الخاصة. تمثّل هذا بالطـريقة التي كان ينفصل فيها عن جحيمِ ساحة المعركة...
الطريقة التي يمكن أن يرى خلالها الرعب في قلوب الآخرين أشعرته كما لو أنّه يسخر
منهم.
"...حول
نينا."
ضاقت
أعين شين عند ذكر الاسم فجأة. كانت نينا الأخت الصغرى ليوجين الذي وقع صديقًا
مشتركًا وزميلًا لهما. ومرّ زمنٌ طويل منذ أن مزّق شين رسالتها التي أرسلتها له
تطالبه فيها بمعرفة سبب قتله لأخيها.
"
ما كان يجب أن أخبرها كيف مات يوجين... تلكَ الرسالة لم تكن ما يحتاجه الشخص قبل
العملية التي من الممكن أن يموت فيها. آنذاك كان يجب أن أخبرها فقط أنّ يوجين مات
لأنّ المعركة مأساوية وقد غادر فقط ، لكن انتهى الأمر بقولي الكثير. أردتها بشدّة
الاعتقاد أنّ موته نتاج خطأ شخص ما ، وقد ألقيته عليك... أنا آسف."
طأطأة
رأسه بعمقٍ معتذرًا بإخلاص. ولم تكن هناك حيلة للمقابل سوى أن يومئ برأسه متقبّلًا
وسائلًا : " كيف حالها؟ "
فقدَت
ذاكرتها بعد خسارتها لوالديها ، وماتَ شقيقها الوحيد الذي تُركَ لها أيضًا.
"
في الحقيقة... حسنًا ، إنها بخير... بعد كل ما حدث مع الجمهورية ، فإنّ الألبا في
الوطن يشعرون بالعار نوعًا ما. ولكن كما تعلم كان شقيقها جنديًا ، لذا فهي لا
تتعرض للمضايقات ، كما أنّها أوقفت تعلّقها وقلقها بوفاة يوجين أيضًا."
في
لحظةٍ أسدلَ شين جفنيه.
هي
لم تعد قلقة بشأنه. ولم تعد تنتظره ، لأنها تعلم أنه لن يعود أبدًا.
"
إذن... هذا جيد."
لمسَت
الدهشة وجهَ مارسيل للحظات قبل أن يُشعَّ بابتسامة خفيفة.
"…نعم."
ثمّ
أكمل مارسيل مغادرًا لتسير فريدريكا خفية نحو شين ، والتي اختبأت من قبل تراقب
التبادل بينهما حتى الآن.
"...هل
أنتَ بخير حقًا مع ما حدث؟ هذا الرجل... حسنًا... "
"
أنا لا أهتم... ليس في هذا الموضوع."
رفعت
رأسها الصغير ناظرة إليه بأعين نصف مفتوحة ثمّ هزّت كتفيها غير مبالية. كانوا
المتّجهون الوحيدون إلى العاصمة الملكية آركس ستيري هم قائدة اللواء جريث ،
القائدة التكتيكية لينا وأنيت. وعدد قليل من المسؤولين الفنيين المختارين وكبار
قادة السرب ونوّابهم من شين ورايدن ، شيدن وشانا.
"
من السخفِ ذكر هذا الآن ولكن هل من المناسب أن تأتي معنا إلى العاصمة؟ "
يعدّ
تورطها في عمليةٍ شارك فيها جنود من دولة أخرى بمثابة مشكلة. كانت إمبراطورة ،
ومجرد طفلة عندما بدأت الحرب ولم يتم تتويجها رسميًا. ثمّ منذ أن انتقلت إليها
قدرتها عبر سلالتها ، رأى شين أنه سيكون من الخطر أن يراها أحد من خارج البلاد.
ولقد بدأ هذه المحادثة الآن لأنه لم يكن هناك قلق من تنصّت شخص ما عليهم هنا.
" أنا هنا الآن للإجابة أليس كذلك؟ " زفرَت بعد أنفاسٍ مأسورة وأكملت : " لقد كان أفراد أسرة جياد الإمبراطورية من النبلاء العظماء على مدى قرنين من الزمان. ومنذ بزوغ فجر الإمبراطورية ، اضطرّت العائلة المالكة إلى خلطِ دمائها بدماء الأعراق المختلفة التي دخلت البلاد.
ولم يكن وجه الإمبراطور معروفًا للناس حتى
بالنسبة للنبلاء الأدنى ، ونما الاعتقاد أنّ قدرات البيت الإمبراطوري قد تضاءلت مع
تكرار الزيجات المختلطة التي أضعفت دمائنا. حتى الأميثيستا من الإديناروك سيتعرضون
لضغوط شديدة إن علموا أنني الإمبراطورة أوغوستا...
وأضافت
بعد صمتٍ قصير : " كان الأميثيستا
مصطلحًا يًستخدم لوصف الإسبير من الإديناروك على مدى أجيالٍ عدة." لقد أنتجت
هذه السلالة عباقرة قادرين على إنجاز مآثر مثل تطوير نماذج ذكاء اصطناعي جديدة لكل
جيل.
"
وأعتقد أنّ بعض جنرالات الجبهة الغربية لديهم شكوك في أنني على قيد الحياة... وإلا
فإنّ سجل تبادلك مع ميليزي بعد تدمير كيريا ما كان ليُعرض أمام الجنارلات كما
كان."
تجهّم
شين عند إجباره على الحضور برفقة الجنرالات وتشغيل التسجيل الذي قضى وقته
كالتعذيب. لم يرغب في إحياءِ هذه الذكرى وظلّ حتى هذه اللحظة يصرفها عن ذهنه. ولكن
حتى لو كان المسجّل قد خزّن صوت المعالج الداخلي وصوت تبادله مع الخارج ، إلا أنه
لم يلتقط صوت فريدريكا التي جلست في قمرة القيادة معه.
صحيح.
صدحَ في ذلك الوقت صوت إرنيست مكلّمًا فريدريكا.
"
بكونه يعلم الآن ، فلا يوجد خطرٌ من أن يخونك؟ "
"
على العكس تماما…"
برفقٍ
أمالت فريدريكا رأسها وعلى محياها حزن عميق...
"
لا ريبَ في أنكَ قد شكّكت فيه... لكن هذا الرجل هُو تنينٌ ينفثُ النار. إنه يعلو
المُثُل قبل كل شيء ، ويُلقي بنفسه وبقية العالم في ألسنةِ اللّهب من أجلِ التمسك
فيها ، بهوسٍ وتثبيتٍ لا يمكن تقييدهما. هذا الرجلُ حقًا مثل التنين. "
"..."
نسجَ
تعبيرٌ كان يظهره أحيانًا والده بالتبني والذي يتناقض مع نظرته الودية المعتادة.
الكلمات التي ارتوَت أجزاء متساوية متعاطفة ولكنها جوفاء ، مع قشرة رقيقة من
الإخلاص على سطح الوهم. لذا مرّت أوقات لاحظ شين القسوة الخفية وراء كلماته.
إن
لم تستطع البشرية البقاء سوى بقتلِ أولئك الأطفال لأنهم غرباء ، فمن الأفضل ألا
يكون لبشرية كتلك وجود.
"
إذا عُيّنتُ كرمز لانقلاب الفيدرالية... إذا كانت البشرية حمقاء بما يكفي
للمخاطرة بالفيدرالية وبقية العالم ، مدفوعين بالجشع الذي لا طائل من ورائه حيث لا
توجد نهاية ترنو في الأفق مع الفيلق... فأعتقد من الأفضل لنا جميعنا
الانقراض."
* * *
عنى
التغييرُ في الديمقراطية الانتقالُ وتقسيم الثروة. وُزّعت الممتلكات والسلع التي
احتُكرت سابقًا في أيدي الملكية الذين كانوا يشكلون نسبة صغيرة فقط من السكان ،
وأًصبحت الآن مشتتة بين الجماهير. ليؤدي ذلك إلى رفع مستوى معيشة الغالبية العظمى
، ولكن هذا يعني أيضًا أن العناصر الفاخرة الباهظة المبهرجة بدأت تختفي تدريجياً
مع تطور الديمقراطية.
ومع ذلك ، فإنّ ثروة العائلة المالكة محفوظة في
المملكة المتحدة لروا جراسيا التي كانت دولة قوية لأجيال ولا زالت الملكية
الاستبدادية الوحيدة المتبقية. وفي الواقع روا جراسيا هي الدولة الوحيدة المستمرة
بإنتاج مثل هؤلاء الأمراء الفريدون. كانت القلعة الملكية رمزًا ومعبدًا للعائلة
المالكة ، ساحرة للغاية لدرجة أنها اصطادت لينا في شبكة الارتباك.
اصطحبوا إلى غرفةٍ صُنعت للترفيه عن الضيوف ،
وليس لإجراء الأعمال الرسمية. أينَ تدلّى من السقفِ زهور اللابورنوم والورود ،
جنبًا إلى جنب مع ثريّاتٍ كريستالية على شكل زهرة الآلام الزرقاء ، ولَمعت الأرضية
المصقولة من العقيق كما لو كانت مرآة منتشرة تحتها. صُنع جميع الأثاث بشكلٍ موحد
من خشب الأبنوس المطعّم بالمالاكيت ، وأُغرقت مزهريات الأفينتورين بعددٍ كبيرٍ من
الورود النادرة في الشمال المتجمد.
في زاويةِ الغرفة توارى نموذجٌ زجاجي لامع
لجمجمة طاووس ، مصنوعة من حجر الأوبال ثبّت على الحائط كأنه جائزة لمطاردة ما ،
وقد بدا أنه أحفورة لديناصور حقيقي.
كانت الرقة المذهلة والدقة في العمل المنقوش
بالفضة على جدران الطباشير شهادة صامتة على القدر الهائل من الوقت والجهد المبذول
فيه. لدرجة أنه جعل رأس المرء يدور. ينبعث منها هالة القوة من الضغط الهائل
لبنائها وجمعها والحفاظ عليها حتى يومنا هذا.
كان لدى عائلة ميليزي منزلًا مشهورًا في
الجمهورية يتباهى بقدرٍ كبير من الثروة والتاريخ ، لكنه لا يزال منزلًا للنبلاء
السابقين الذين فقدوا مكانتهم وحقهم في الضرائب قبل ثلاثمائة عام في الثورة.
أما
الثروات هنا فهي على مستوى آخر تمامًا.
حلّ عليها قلقٌ لم تدعه يظهر على وجهها. نظرت
إلى شين الذي بدا غير مبالٍ أكثر من أي وقتٍ مضى ، وهي على النقيض منه. أمال ظهره
نحو الحائط مع طوي ذراعيه وهذه عادة له. وألقى عينيه الداميتين في صمتٍ تأملي.
ثمّ نظرَت حولها لتجد رايدن وشيدن اللذان جاءا
كمرافقين. أبدا رايدن تثاؤبًا مثل ذئب يشعر بالملل مع بقاء يداه محتضنتا البعض
وقتًا أطول مما كان يعرف ما يجب فعله ، وعبثت شيدن بربطة عنقها التي تضيّق عليها ،
كان كلاهما يشعران بالإرهاق بشكل خاص. بينما جلست فريدريكا بشكلٍ طبيعي على
الأريكة مسترخية كما لو كانت في المنزل في هذا المكان الملكي.
اعتادَ الستة وثمانون على معاركهم المميتة
الروتينية ، ولم يُقدّروا سوى القليل من الأماكن خارج ساحة المعركة وهي التي نشأوا
فيها. أي شيء من شأنه أن يوحي بمكانة أو يحظى باحترام في المجتمع العادي لم يترك
انطباعًا لهم حقًا. وعلى هذا النحو كان للديكور الداخلي المورق والديكور العام
الفخم تأثيرٌ ضئيل في عيونهم ؛ لم يكن الأمر كما لو أنّ الأثاث يمكن أن يعضهم بعد
كل شيء.
اختبأت لينا وراء ابتسامتها بتخيّلهم قول هذا النوع من الإجابة بسهولة. وتخيّلت كيف سيقولها شين في حال سألته عما إذا كان هذا النوع من الإعداد يجعله غير مرتاح. كانت الأشياء الوحيدة التي وجدوها مخيفة هي الفيلق الذي حاربوه ، والأشياء الوحيدة التي قدموها كانت المهارات والمعرفة اللازمة للبقاء على قيد الحياة في المعركة. كان عالم الإنسان بقواعده ومعاييره شيئًا غريبًا تمامًا عنهم.
ولكن هذه المرة كانوا جميعًا يرتدون ملابس
رسمية كاملة والتي خُصّصت عادةً للمناسبات الاجتماعية. لم تستطع لينا أن تتذكر
رؤيتهم يرتدون أي شيء من هذا القبيل من قبل ، وقد هدّأ المشهد أعصابها المتوترة
قليلاً.
وفقًا لخطة الإرسال الخاصة بهم ، كانت قائد
اللواء جريث هي الوحيدة التي ستجتمع مع الملك وولي العهد. وسترسل أنيت لتحية قسم
التكنولوجيا مع شانا كمرافقة لها ، أما مجموعة لينا فستذهب لمقابلة الأمير الخامس
بصفة رسمية ، حيث كان هو وهم أفراد عسكريون.
ولكن لا يزال الشخص المعني من العائلة المالكة.
لذا على المرء أن يهتم بمظهره ولم تنقص لينا من هذه الناحية وكانت معطاة في مظهرها
بكمالية ، وحتى شين والمعالجون الآخرون جاءوا في الزي الفيدرالي الكامل ، لامعًا
بميدالياتهم وشاراتهم وأحزمة سام براون. حتى أنه وضعوا العديد من شرائط الخدمة
المثبتة على صدر سترتهم من الأيسر ، والتي لا يحملوها عادة.
سام براون | هو حزام جلدي داعم يمر فوق الكتف
الأيمن ، يرتديه ضباط الجيش والشرطة.
بعد تفريغ الهواء من رئتيها. قوّت لينا ثباتها
وردّدت داخلها. دعونا نذهب.
" إنها المرة الأولى التي أراكم فيها
جميعًا في الزيِّ الموحد الرسمي."
استكان الصمتُ لفترة قبل أن يرد شين ، ويعود
ذلك إلى النظرات التي تسلّلت إليها من أعينه القرمزية.
"…هذا منطقي. نحن لا نضعها حقًا خارج
الاحتفالات."
الطريقة المقتضبة لرده أسكنت لينا بمشاعر
الراحة. فهذه نبرة شين المعتادة.
" احتفال؟ "
بادلته بحوار تغلغله نبرة طبيعية غير رسمية.
وكان ذلك جيدًا.
" مثل مراسم التجنيد... ومراسم توزيع
الجوائز."
" أوه."
يحتفلُ كل الجيش علنًا بالخدمة الحربية
المتميزة وكذلك جرحى الحرب كوسيلة لتشجيع الأول وتهدئة الأخير. كانت أيضًا طريقة
رائعة لرفع الروح المعنوية. لكن اختلف الأمر
بالنسبة لشيدن التي كانت لا تزال مجندة جديدة نسبيًا ، على عكس شين ورايدن
اللذان مع خدمتهما العسكرية لمدة عامين في الفيدرالية ، فقد جمعا بالفعل عددًا
كبيرًا من الميداليات. بالطبع كان من السابق لأوانه الحصول على واحدة للخدمة الطويلة
، لكنهم حصلوا على ميداليات لقدراتهم وإنجازاتهم. كلاهما كان لهما أعداد قتل
للفيلق تثيرُ الإعجاب ، لذلك من المحتمل أن تشير ميدالياتهما إلى ذلك.
" كنتُ أودُّ أن أراهم... هل تعتقدَ أنه
إذا طلبتُ من الرئيس فسيسمح لي الاطلاع على الصور أو تسجيلات الفيديو؟ "
عُرف إرنست تسيمارمان الرئيس المؤقت للفيدرالية
بكونه الوصي القانوني لشين وكان من النوع الذي يحتفظ بشكلٍ استباقي بهذا النوع من
الذكريات. وعلى أثره أظهر شين وجها عبوس.
" من فضلكِ لا. لا يوجد شيء ممتع في
مشاهدة ذلك."
مما يعني أنه كان هناك بالتأكيد. قررت لينا
أنها ستطلب من إرنست عندما يعودوا إلى الفيدرالية. على الرغم من أنّ إرنست قد يكون
مترددًا في مشاركتها ، ولكن من الجيد وجود جريث لتدير شيئًا ما بطريقتها.
تنفست لينا الصعداء خفية بعد نجاح محاولتها
الأولى في محادثةٍ فارغة مع شين منذ فترة.
شكرًا لله. على أقلِ تقدير لا يبدو أنه يكرهني
لما قلته.
ثمّ انطلقت لتستفسر عن شيئًا آخر كان في ذهنها.
" إيه... هل هناك شيء يزعجك؟ لقد كنت
تتصرف بشكلٍ غريب منذ دخولنا أراضي المملكة."
أو بالأحرى منذ مرورهم بمحطة مدينة روجفولود في
القطار المتجه إلى العاصمة ، وعندما نُقلوا إلى الغرفِ المعدة لهم في أحد أجنحة
القصر. بين الحين والآخر ، كانت نظرة شين تدور بعصبية في اتجاهٍ غير متوقع. وقد
كان على هذا النحو منذ أن دخلوا هذه الغرفة أيضًا. كان هناك شيء ما يزعجه مثل كلب
يرفع أذنيه بانتباه ، يلتقط شيئًا لا تستطيع حاسة السمع لدى الإنسان القيام بذلك.
" نعم…"
ابتلعَ حروفه وظل هادئا للحظة. كان صمته
مترددًا بشكلٍ غريب ، وكأنه هو نفسه غير مقتنع بما سيقوله.
"...أسمعُ أصوات الفيلق من مسافةٍ قريبة.
لا أستطيع تخمين أعدادهم ولكن هناك القليلُ منهم."
"ماذ —؟"
انفلتت صرخة في البداية بعد دهشة ثمّ ضبطت
نفسها بعد الأنظار المريبة التي التفّت من عرق الأمرود التي وقفت في الزاوية ذات
الشعر الأشقر وعيون زرقاء ، وقد جعلتها تخنق صوتها.
" لماذا التزمتَ الصمت حتى الآن؟ أنتَ
تعرف بالفعل عِلم المملكة المتحدة حول قدرتك. كان يجب أن تحذرنا إذا كانت هناك
فرصة لغارة قادمة..."
بلغَت الحدّة نبرتها وكأنها تحذّر من الهجوم.
إنّ التحضير لغارة الفيلق في وقتٍ أبكر سيقلل بشكلٍ كبير أعداد الضحايا ، ولم
تتمكن أي دولة أخرى حتى الآن من الحصول على نطاق كشف دقيق وواسع مثل قدرة شين
الفريدة.
ردّ شين بتعبيرٍ مرتبك ولا يزال غير متأكد مما
يقوله.
" لأنهم قريبون جدًا. انطلاقا من مدى قرب
الأصوات فأنا متأكد أنها داخل العاصمة ، ولكن الأقرب أنها أيضًا داخل القلعة. ولا
أستطيع حقًا افتراض أنهم تسللوا. "
وقعت العاصمة الوطنية آركس ستيري بعيدًا جدًا
عن الخطوط الأمامية ، مع وجود قدر كبير من الدفاعات تحطيها. وحتى لو تسلّل الفيلق
من الخلف ، فلن يخطو إلى هذا الحد ولو لغم واحد ذاتي الدفع.
" ربما تمكّنت الآينتاكسفليكا من الطيران
بطريقة ما ، ولكن هناك أصواتٌ كثيرة جدًا على أن تكون فقط تلك. من المحتمل أن
يكونوا الفيلق الذي استولوا عليه لأغراض البحث. إذا لم يكن هناك شيء آخر ، فلا
أعتقد أنّ أي قتال سوف يندلع."
" —كما يقولون
اقتربت ولكن بدون دخان. وكما توقعت لا يوجد خطر يجب أن تكون حذرًا منه. لذلك اطمئن
وتجاهل إذا أردَت ذلك."
اقتربت
ولكن بدون دخان | هو مَثل يشير إلى أنك لم تصل إلى نتيجة ناجحة ودقيقة.
اقتحم صوتٌ غير مألوف ومعتادٌ على إلقاء الخطب
التي تردّد صداها بلطفٍ على الأذن ، متسلّلة بسهولة دون ترك أثر للنبرة العالية
لصبيٍّ في عمره. عبرَ الشابُّ البابَ الذي فُتح له من قبل الخدم ، مرتديًا زيَّ
المملكة المتحدة بلونيه البنفسجي والأسود مع ياقة واقفة بثبات.
تميّزَ بنحافةٍ لصبيٍّ في أواخر سن مراهقته ،
وشعرٌ قصير خلافَ عادة أفراد العائلة المالكة في المملكة المتحدة بإطالة شعورهم ،
ولمعَ ببشرةٍ ناعمة مميزة لمن يعيشون في الشمال. شُبّهت أعينه المائلتان بشكلٍ
طفيف مثل أعين النمر ، وتجسّد في وجهه ملامحُ مُحايدة تجمعُ توازنًا متساويًا بين
اللطف وقسوة لا إنسانية. كان لديه وجهٌ مخنّث إلى حد ما ظهرَ على أنه أرستقراطي ،
ولكن لسببٍ غريب ربطت لينا مظهره العام بأفعى سوداء نحيلة.
قشورٌ ناعمة مُعتمة كالدُّجى. بريقُ عيون تأسرُ
نيرانٌ أُرجوانية.
وحشٌ بدمٍ باردٍ وخالٍ من تعاطفِ البشرية.
ضاقت أعين الأحجارُ الكريمة الباردة للصّبي ،
مع ابتسامةٍ شريرة زيّنت شفتاه.
" أعتذرُ عن انتظاركم أيها الأصدقاء
الأعزاء. أنا فيكتور إديناروك ، ورفيقكم ابتداءً من اليوم... فاسمحوا لي أن أحييكم
أولاً. مرحبًا بكم في قلعة يونيكورن."
-
شقّ الأمير طريقه إليهم ، مصحوبًا بصوتِ حذائه
العسكري وهو يغرز أرضية العقيق وحفيف ملابسه اللطيف. اشتمّت لينا رائحة تنبعث من
ملابسه بنكهة اللبان الجنوبي ، ودون قصد نسَت الانحناء وحدّقت في تقاسيمه متجاهلة
كل مفاهيم الأخلاق والآداب. برزَت ملامح وجهه الجميلة على نقيضِ الهالة التي
يعطيها زيّه العسكري من إحساسًا بالكرامة المهيمنة والقوة.
" لذلك جاء جلالة الأمير بنفسه
ليُحيّينا."
رفعَ الأميرُ حاجبيه بطريقةٍ مبالغ فيها.
" لديكم بالفعل فهم لضعفنا ، وإنني
أؤمن... أنّ المملكة المتحدة التي طوّرت نموذج ماريانا وأصبح أساسًا للفيلق.
سيُظلّ ينظر إلينا بازدراء من قبل الدول الأخرى حتى لو انتهت الحرب."
"..."
لم تكن هناك علاقة سببية مباشرة بين تطوير
نموذج ماريانا والحرب مع الفيلق ، لكن من المحتمل أن تسير الأمور كما قال الأمير.
فعند وقوع الكارثة ، يميل الناس إلى البحث عن سببها حتى لو تطلب الأمر قفزة كبيرة
عن المنطق أو زلّة. فهّم سيسعون إلى إلقاء اللوم على الأخطاء التي ارتُكبت بهم من
قبل أي شخص آخر.
" ولكنني لا أزال أفترض أننا أفضلُ حالًا
من الفيدرالية ، خليفة الإمبراطورية التي طورت الفيلق. على الرغم من أنهم لا ينوون
الاعتراف أو تحمل أي مسؤولية اتجاه ما صنعوه ، إلا أنهم ما زالوا يُظهرون ما يكفي
من الخير الصادق حتى لا يُطالبوا باستجواب. إنّ الناسَ يتأثرون أكثر بدولة تمد يد
العون إلى جيرانها أكثر من تلك التي لا تحمي مواطنيها."
ثم هز كتفيه بحركةِ قائد تعود بسبب مكوثه في
الجيش ، لكن إيماءاته احتفظت بالملكيّة.
" وهكذا العائلة المالكة والفيدرالية على
الطريق نفسه... أنتم بإرسالكم حزمة الضربات المتنقلة الستة وثمانون. وحدة النخبة
المكونة من الشباب والشابات لتقديم المساعدة إلى البلدان الأخرى. لم يكن من الممكن
أن تكون نفس الأفعال بصورة جميلة لو قام فيها رجال قذرون ، لكن القصة مختلفة
تمامًا عندما يكون الجنود الأطفال من هذه الجذور المأساوية هم من ينقذون."
" ننغ...؟! "
أحرقت الدهشة حروف لينا عند محاولة الرد. لقد
رأت وعرفت الشفقة المتجذّرة في التنازل الذي أظهره بعض مواطني الاتحاد الفيدرالي
مع الستة وثمانون. ولكن أن ترسلهم الحكومة الفيدرالية على افتراض الشفقة وتديرهم
كأداة دبلوماسية لكسب تعاطف الدول والشعوب الأخرى...؟!
إلى أي مدى يمكن أن يذلّ الناس أنفسهم؟
التمسَت عودة النبرة الجليدية والابتسامة
المشوّهة التي كادت أن ترسمها ، لكنها سرعان ما تخلصت منها.
لا يمكن أن يكون. إنّ الناسَ أكثر من مجرد
قساةٌ بلا قلب وفارغون. هذا وقت الحرب المعروف بالاضطهاد ، وقد يضطرون إلى إظهار
أكثر أوجههم بشاعة ، لكن في الواقع... الناس وهذا العالم...
" لكن يا صاحب السمو... هذا..."
وقتئذ تبسّم الأمير بودّ.
" من فضلكِ دعيني فيكا. من المضيعة للوقت
في الجيش هذه الألقاب والشكليات الفارغة لذا يرجى التخلّص منها. وسأخاطبكم جميعًا
بألقابكم. إذا وجدتم الأمر وقحًا فلا تترددوا في قولِ ذلك ، وسأصحح نفسي وفقًا لما
يناسبكم."
كان استدعاء شخص ما باسمه المستعار أمرًا
مسموحًا فقط لأولئك الذين كانوا قريبين من هذا الشخص. بصرف النظر إلى أنّ الفرد
المعني كان ملكيّ ، فقد ظهر ذلك على أنه معاملة ودية استثنائية ، ولكن كما قال لم
يكن بدافع المودة بقدر ما هو الشعور بالعقلانية. وبعد كل شيء ربما سمح لهم بدعوته
باسمه المستعار لكنه نوى مواصلة الإجراءات الرسمية ومخاطبتهم بأسمائهم الأخيرة.
رفعَ يده مسكتًا لينا التي فتحت فمها لتقديم
نفسها.
" قلتُ ليست هناك حاجة لأن تكوني مهذبة
أيّتها العقيد فلاديلينا ميليزي. وبالفعل لقد أُرسلت بياناتكِ إلى المملكة المتحدة
، وأخذتُ حريتي في القراءة عنكِ مسبقًا. لذا لستِ مضطرةً لتضييع أنفاسكِ في
المقدمات."
على ذكرِ هذا الحدث ، لم تفصح المملكة المتحدة
عن أيِّ معلوماتٍ بخصوصه. أو لم يصل أي شيء إلى لينا بشكلٍ خاص.
" حسنًا ، الآن اعذروني على الفعل غير
المهذب بتخطّي فقرة التقديم ، وسنستمر بالأمر المهم نظرًا لأننا لا نحظى بوقت فراغ
لمثل هذه التبادلات الرائعة بعد كل ذلك…"
نظر إلى النافذة الكبيرة التي تطل على شوارع
العاصمة مشيرًا إليهم للنظر أيضًا ، معلّقًا زوايا شفتيه إلى الأعلى ببرود.
"... كما ترون فإن المملكة المتحدة في
وضعٍ حرج للغاية."
بالتأكيد كان من السهلِ رؤية الوضع.
خارجُ النافذة ، غطّت السماء غيوم فضية كثيفة
ومنخفضة ، ورفرف الثلج برفقٍ في أواخر الربيع ، مما أدى إلى تلاشي جميع الألوان
الأخرى. بينما ولت في الفيدرالية أيام الطقس البارد المفاجئ ، وفي الجمهورية ،
بدأت الورود الصيفية المبكرة المزهرة تتفتّح في هذا الوقت تقريبًا. حتى في البلدان
الشمالية لن يكون لديها تساقط ثلوج مثل منتصف الشتاء في هذا الوقت من العام.
عندما نظرت لينا إلى الغيوم ، رأت ومضاتٌ من
الفضةِ تعكس الأضواء على ساحة الأرض. كأنّها شظايا صغيرة لا حصرَ لها من المعدن.
ومثلَ رفرفة أجنحة الفراشة...
" الآينتاكسفليكا..."
" بالفعل. حتى هذه الأرض المحبوبة من إلهة
الثلج الأبيض لم تتغطى بحجابها المعهود في الوقتِ المتأخر من العام."
استُخدم هذا التعبير رمزًا لوصف الشتاء في
المملكة المتحدة ، وخلال قولها لم يتبسّم فاه فيكا وبدلًا من التعبير الإنساني
تمتّعت عيناه بنفس برودة الشتاء القارص في الشمال.
" أصبحت المملكة المتحدة أكثر برودة بشكلٍ سريع بسبب انتشار تلك الآينتاكسفليكا. كما غطّت أجنحتها نصف جنوب أراضينا إلى جانب العاصمة. "
كانت الآينتاكسفليكا نوعٌ من التعطيل
الإلكتروني ، قادرة على تشتيت وتعطيل الموجات الكهرومغناطيسية بجميع أنواعها وبما
في ذلك الضوء. في قطاع الستة وثمانون ، كانت جحافلهم تشبه السحب الفضية الرقيقة
التي حجبت الشمس في معظم الأحيان ، وعلى جبهات الفيدرالية في الخطوط الأمامية ،
حيث كان انتشارهم أكثر كثافة قامعة لون السماء ومعتمة باستمرار باللون الفضي
الثقيل.
ولكن لم تكن هناك حالات موثّقة لنشرهم بأعداد
كبيرة بما يكفي لتساقط الثلوج خلال أواخر الربيع وبشكلٍ كثيف وواسع النطاق...
" متى بدأ هذا؟ "
" عندما أصبح الفيلق الذكي نوع كلاب
الراعي والذي يُنتج بكمياتٍ كبيرة هو القوة الرئيسية. بعبارة أخرى ، منذ أوائل هذا
الربيع."
كما كانت تشك.
" ستُدمّر مناطقنا الزراعية الجنوبية بهذا
المعدل... لم يكن هذا البلد مباركًا بأشعة الشمس لتضربنا من خلاله ، ولكن غالبية
الكهرباء لدينا تأتي من محطات الطاقة الحرارية الأرضية والفحم والنووية. وإذا
حوّلنا جميع مصانعنا لإنتاج الغذاء عليها فلن نكون قادرين على الدفاع عن أنفسنا.
إذا استمر الفيلق في إحكام الخناق حول أعناقنا بهذا الشكل ، بحلول الربيع المقبل
لن يكون بلدي موجودًا."
بحركةٍ من يده ظهرت صورة ثلاثية الأبعاد في منتصف الغرفة. لقد كانت خريطة تعرض عرضًا مبسطًا لأراضي المملكة المتحدة.
وعندما رأت شين يقترب من العرض ، شعرت بوجود
تفسير قادم ، قالت لينا : " إذا استخدموا نفس التكتيك في مكان آخر ، فربما
يكون الاتحاد الفيدرالي على ما يرام نظرًا لأراضيه الكبيرة ، لكن أي دولة أخرى لن
تدوم."
" نعم. ولهذا السبب بينما لا يزالون
يستخدمون المملكة المتحدة كأرض اختبار ، يتعين علينا وضع خطتهم في مهدها الآن. من
حسن الحظ أنّ لدى الفيدرالية والمملكة نفس الهدف. والملكة عديمة الرحمة التي
تبحثون عنها بشدة تقع في أعماق أراضي الفيلق ، في موقع إنتاج الآينتاكسفليكا في
أعماقِ جبل التنين فانغ."
أظهر العرض المنطقة القريبة من الحدودِ مع الجمهورية
، تدعى سلسلة جبال جثة التنين والمعروفة بتاريخ ساحة معركة
المملكة المتحدة. ثم تحوّل إلى نموذج ثلاثي الأبعاد يصوّر جبل التنين فانغ الواقع
في عمق سلسلة الجبال. أين اجتمعت الشكوك بوجود قاعدة الإنتاج هناك. كما عرضَ العدد
التقديري للأعداء والمسافة الخطية من أقربِ جبهة أمامية ، والتي تقدر بسبعين
كيلومترًا.
" يتمثّل هدف هذه العملية المشتركة
بغـزو جبـل التنيـن فانـغ واستعادته والاستيلاء على الملكة التي لا ترحم."
" بالضبط يا لينا الدموية. سنعهد إليكِ
هذه المهمة الصعبة من أجلنا."
تمّعنت لينا بنموذج الجبل المقصود ، وكما وحى
اسمه بدا على شكلِ نابٍ ضخم بارزًا نحو السماء بقمّة هرمية صخرية ، ثمّ تحدثت :
" صاحبُ السمو."
" إنه فيكا يا ميليزي."
"عفوًا ، فيكا. أود أن تؤكد القوة التي
ستقودها خلال هذه العملية. لقد سمعتُ أن بلدك يستخدم أسلحة ذاتية التشغيل بدون
طيار للدفاع عن حدوده."
اتضحَ أنّ هذا هو السبب في قدرة المملكة
المتحدة على الدفاع عن أراضيها على الرغم من أن قوتها الوطنية كانت أدنى من سلطة
الفيدرالية. وعليه أدلى فيكا ابتسامة صغيرة ساخرة.
" نصف مستقلون. إنّ من الحماقة جلب أسلحة
مستقلة بالكامل إلى المعركة بمثال الفيلق الذي يتنفس في أعناقنا خانقًا. إلى جانب
ذلك ، لم تقم المملكة المتحدة بإعادة إنتاج ذكاء اصطناعي مستقل على مستوى
الفيلق."
" لكن هذا... حتى أنتَ ليسَ بمقدورك إعادة
إنتاجه يا فيكا؟ "
" ليس الأمر بعدم استطاعتي. إنها ببساطة
عدم رغبتي."
ردَّ الأمير بطريقة اعتبرها ذات أهمية ذاتية له
فقط ، لقد اعترف باستطاعته فعل ذلك إذا ركّز عليه ، بنفس خفة كما لو كانوا يناقشون
وصفة طهي معقدة بعض الشيء. لكن ما كان على المحك هو أرض مملكته وحياة شعبها ، الأرواح
التي لا تعد ولا تحصى معلقة على الميزان. إنه يقلل بسهولة من الاحتمالية ، قائلاً
أنه لا ينوي ذلك.
كان هذا مشهدًا نادرًا في جمهورية تؤيد المساواة ، وأدركت لينا أنها تلقّت لمحة عن قسوة الدماء النبيلة. دمٌ أزرق يفتقرُ إلى الدفء.
" الطائرة بدون طيار التي تصفيها تسمى
ألكونوست. إنها فيلدري ßنصف مستقلة مخصصة
لمحاربة مجموعات كبيرة من الأعداء... ومن حيث النسبة ، يشكلون خمسون بالمائة من
قواتنا ، والنصف الآخر هو باروشكا ماتوشكا المأهول لدينا ، لكن الوحدات الواقعة
تحت قيادتي المباشرة هي بالكامل تقريبًا ألكونوستز. بما في ذلك وحدتي الشخصية ،
يتم استخدام باروشكا ماتوشكا فقط للدفاع عن مركز القيادة."
" أتقول نصف مستقلة... إذا يتحكّم بهم
البشر عن بعد بواسطة معالجون ، أليس كذلك ؟ وهل طريقة التشغيل لاسلكية؟ ولكن بهذه
الطريقة كيف يمكنك تجاوز التعطيل الإلكتروني لـلآينتاكسفليكا المستعمرة هنا؟
"
" الألكونوست متصلة بمعالجاتها عبر
التكنولوجيا التي تسميها بارا ريد."
عقدت لينا حواجبها باستفهامٍ كبير. كان الرنين
الحسي المدعو بارا ريد وسيلة اتصال تستفيد من ربط الحواس خاصة السمع ، وعن طريق
اللاوعي الجماعي الذي تشترك فيه البشرية جمعاء. ولذلك تغلّب الاختراع على عوائق
المسافة ، والعوائق المادية وجميع أنواع التشويش.
على الرغم من أنها تقنية رائدة للغاية في حد
ذاتها ، ولكن نظرًا لأنها استخدمت اللاوعي الجماعي البشري ، فإنها لم تسمح لأحد
بالتواصل مع أي شيء ليس بشريًا مثل الآلات التي لم يكن لديها وعيٌ خاص.
أو بالأحرى حسب علم لينا حتى الآن مع أي شيء
ليس بشريًا.
" و- ولكن كيف…؟ "
" سأريكِ الآن. ليرش ، هل أنتِ هناك؟
"
لم يرفع صوته الأشبه بالهمس ، ولكن المفاجأة
بالردِّ الذي جاء من خلف الباب.
" بالطبع."
" سوف أقدمكِ. ادخلي."
" نعم."
فُتح الباب. وبقيت على مسافةٍ بعيدة بعض الشيء
لإجراءِ محادثة ، ثمّ ركع الشخص بطريقة مفعمة بالحيوية.
" لمن دواعي سروري أن ألتقي بكم. أنا ليرش
، فارسة وحارسة ملكيّة للأمير فيكتور. أنا أعملُ كسيفه ودرعه."
كان الشخصُ يتحدثُ بصوتٍ واضح وعالي النبرة ،
ولطيفٌ مثل نقيق طائر مغرد.
" سيدة الجمهورية لينا الدموية والسيد
حاصدُ الأرواح من الفيدرالية ، والسيد فيروولف والسيدة كيكولوبس. لقد سمعتُ الكثير
عن شهرتكم العسكرية. خاصة أنتَ يا سيدي حاصد الأرواح. أودُّ بشدة أن أتلقّى
التعليماتُ من قبلك ، إذا أتيحت لي الفرصة بالطبع."
مجددًا كان صوتها مثل النقيق الجميل.
" وبالنسبة للأميرة الجميلة هناك ، أرحبُ
بكِ في بلدنا الأبيض الثلجي. أنا دائمًا على استعداد للتكيف مع ما إذا كان اللعبُ
على الجليدِ يناسبُ ذوقك لذا لا تترددي في دعوتي وقتما تشائين."
كان من الضروري ذكر الأمر مرة أخرى بإصرار ،
إنّ صوتها ممتعٌ للغاية.
"...أنا آسف —امنحوني
دقيقة."
رفع فيكا يديه ومشى إلى الشخصِ الراكع ، وصدحَ
صوته بجانب رأسها المنخفض.
" ليرش! ألم أقل لكِ أن تغتنمي هذه الفرصة
لتغيير الطريقة التي تتحدثين بها إلى الناس ؟! "
رفعت وجهها ليظهر ما رسمته الدهشة. كانت فتاة
من الأمرود بشعرٍ ذهبي مربوط بإحكام في كعكة وعيون خضراء. بدت وكأنها في نفس عمر
فيكا ، مما يعني أنها أيضًا في نفس عمر لينا وشين تقريبًا. ارتدت زيًا عسكريًا
قديمًا مصنوعًا من قماشٍ أحمر اللون ومزين بأربطة ذهبية ، مع سابير ذو مظهر رسمي
يُحوّط خصرها. امتلكت ملامح وجه صغيرة وجميلة ، وكان حاجباها النحيفان مجعّدين
بدقة احتجاجًا.
حزام سابير | من أحزمة المبارزة التي تحمل
السيوف غالبًا وتحيط الخصر.
" ماذا…؟ ما الذي تقوله سموك ؟! هذا دليلٌ
على ولائي لك ، ولن تردعني أوامرك! "
" أيُّ التابعين يتخذون أسلوباً في الكلام
يزعج سيدهم دليلاً على ولائهم ؟! هل أنتِ غبية تبلغُ من العمرِ سبع سنوات ؟!
"
" نصيحة جيدة تمامًا مثل الطب الفعال ،
الولاءُ أمرٌ مريرٌ جدًا يا صاحب السمو! ولهذا ، على الرغم من الحزن الذي تجلبه لي
إلا أنني أعاملكَ باحترامٍ خالد! إنّ نقد أفعالي بدقة يُخجلني بلا نهاية...!
"
احتضن فيكا رأسه منزعجًا.
" آآآآه... اللعنة ، بغض النظر عما أقول
لديكِ دائمًا الرد…! من الأحمق الدموي الذي ضبطَ سماتُكِ اللغوية...؟! "
"...مع خالص الاحترام سموك ، الوحيد الذي
تعاملَ على الإطلاق مع ضبطي هو أنت."
" أعلمُ ذلك— أنا فقط أتذمر! يا إلهي فقط تجاهليني! "
" أ- أنا— أعتذرُ عن أيّ ازدراء...!"
ردّت الفتاة باحترامٍ يائس. لم تستطع لينا إلا
إظهار الضحك عند مشاهدة المحادثة بين الاثنين اللذان لا يبدوان فيها على توافقٍ
تمامًا ، على الرغم من شعورها بالسوء. لقد تساءلت كثيرًا عن نوعِ الرجل الذي يُدعى
ملك الجثث ، لكن رؤيته الآن مرحًا مع مرافقته الودودة جعله يبدو وكأنه لا شيء أكثر
من صبي في سنهم.
"...كيف أصيغ هذا؟ أعتقدُ أنّ سمعة المرء
مختلفة حقًا عن الواقع."
همست بخفّة حتى لا يسمع سوى شين. لكنها لم
تتلقى أيّ رد. وما إن نظرت إليه وجدت تعبير وجهه قاسٍ وغريب محدّقًا في السيّد
وخادمته الواقفان بالقربِ من الباب. وعلى وجه التحديد كان ينظر إلى ليرش ، الفتاة
ذات الزيّ القرمزي.
"…كابتن؟ ما— ؟ "
تحدّث شين قاطعًا استفسار لينا اتجاهه.
"...صاحب السمو."
ضاقت عينا فيكا باهتمامٍ نحوه ، تلكَ العيون
الإمبراطورية البنفسجية لنمرٍ شرس أو ثعبان شرير.
" سأقولها مرة أخرى ، إنه فيكا يا
نوزين."
" حسنًا ، فيكا... ما هذا الشيء؟"
" كابتن…!"
ألقَت لينا توبيخًا سريعًا عندما قصدَ شين بِــ
"الشيء" إلى ليرش. بالمقابل تبسّم فيكا برقّة.
" أووه. أرى أنّ لقب حاصد الأرواح خاصّتك
قد حققته بجدارة... يا ليرش. "
" نعم."
" أريهم."
" حسنًا."
استقامت ليرش على قدميها بخفة ، وكما لو كانت
فارسةً تخلع خوذتها...
-
...أزالت رأسها ورفعته في الهواء.
-
انتشلَ الرُعب خطوات لينا لتعود إلى الوراء ،
ولم يكن أحد في عقله ليلومها.
" ماذا…؟!"
دبّت الصدمة في عيون فريدريكا التي اتّسعت
وانحنى رايدن وشيدن إلى الأمام. حتى شين الذي لم يكن جفلًا ضاق عينيه بريبة. وبقيَ
فيكا وحده المتماسك.
" اسمحوا لي بتقديمها بشكلٍ صحيح. هذه هي
الوحدة الأولى من الجنّيات الاصطناعية المسماة السايرينات. ذروة الإنجازات
التكنولوجية للمملكة المتحدة وجوهر دفاعنا الوطني. "
بتلويحةٍ من يده ، تفاعل جهاز استشعار موجود في
مكان ما في الغرفة ، ليعرض صورة ثلاثية الأبعاد بالقرب من شكلها النحيف. وكان هذا
على الأرجح الألكونوست. أظهر النموذج نوع فيلدريß الذي كان أكثر رشاقة من الجاغرنوتز ، لدرجة أنه جعلهم يشكون في ما إذا
كان مدرعًا على الإطلاق. بسبب شمل جذعها قمرة قيادة صغيرة بالكاد كبيرة بما يكفي
لاحتواء إنسان.
" هذا هو المعالج المركزي للآلة القتالية
شبه المستقلة ألكونوست."
لم يُعتبر الستة وثمانون بشرًا ، لذا فإن أي
آلة يقودونها لن تُدعى بالآلة المأهولة بل طائرة بدون طيار. وكان ما عُرض نفس
المفهوم... مثل جاغرنوتز الجمهورية.
-
اتّصلَ رأس ليرش المنفصل بجذعها عبرَ أنابيب
وحبال تشبه الأوعية الدموية والأعصاب.
" هل هي... بشرية؟ "
تضاحكَ فيكا ساخرًا.
" أأنتِ تسألين بعد ما رأيتِه للتوّ ،
لينا الدموية ؟ تذكّري ما قاله نوزين الآن وفكّري... كيفَ رآها بسهولة على
حقيقتها؟ "
ابتلَعت لينا ريقها بعصبيّة وانغمسَت لوهلة مع
نفسها. لُخّصت قدرة شين بسماعِ أصوات الفيلق — أو بالأحرى أصوات قتلى الحرب الذين ظلوا محاصرين
كأشباحٍ داخل أداة ميكانيكية. لكن الفتاة التي أمامهم لا يمكن أن تكون فيلق ،
لأنهم لم يصنعوا أسلحة في شكل بشري. ولقد مُنعوا من صنع ما يشبه إلى حد بعيد
الكائن البشري.
في هذه الحالة…
قاطعَ شين متحدثًا كما لو أنّه لا يدع لينا
تعبّر عن استنتاجها.
" استخدم دماغ شخص ميت... أو بالأحرى قامَ
باستنساخه باعتباره المعالج المركزي."
لمَ يسبَق للينا أن ترَ عينان دمويّتان تلقيان
حدّة مخيفة كما نظرها شين لفيكا الآن.
بالنسبة لشين ، الذي سمع رثاء رفاقه المأسورين من قبل الفيلق واستمرّ في القتال من أجل الانتقام لأخيه المحاصر بقبضتهم ، قد تكون الفتاة التي أمامه مذنبة أكثر من أي شيء آخر من أعمال المملكة المتحدة التي خلقتها. مذنبة لانتهاك الحدود بين الأحياء والأموات.
إنّ الاستيلاء على الأرواح التي كُتب لها أخيرًا الراحة الأبدية وحبسها مرّة أخرى من أجلِ المعركة... يبعثُ وهجًا جليديًا من شأنه أن يجعل أي شخص عادي يتعثر من قشعريرة الفكرة ، لكن فيكا لم ينتفض حتى.
" يا عين الثور ، حاصد قطاع الستة
وثمانون. كما قلت كل المعالجات المركزية لهؤلاء الفتيات عبارة عن نسخٍ تعتمد على
هياكل الدماغ البشري."
كانوا يحملونَ تشابهًا غريبًا أو مستوحون من
الرعاة أحد أنواع الفيلق الذكي.
" انتظر لحظة... إذا كانوا هؤلاء في الأصل
أدمغة بشرية ، إذن..."
بلغَ صوتُ لينا الصلابةُ والحدّة لدرجة أنها لم
تتعرّف عليه. كانت المملكة المتحدة هي الملكية الاستبدادية الوحيدة في القارة.
وجميعُ المواطنين في الأساس مُلك للنبلاء.
"...من أين ولأي سبب جمعتَ الأشخاص الذين
تنتمي إليهم تلك العقول؟ "
أمالَ فيكا رأسه بطريقةٍ مسلّية.
" أتلمّحين بكوننا طغاة متعجرفون نقسّم
أوصال مواطنينا رغماً عنهم؟ ثم قد تشعرين بخيبة الأمل عندما تسمعين أنّنا نحن
الإديناروك ليسوا بهذه الحماقة. نحن نعلم جيدًا أنّ كل ما ينتظرنا في نهاية
الطغيان الطائش هو قُبلة المقصلة على جلدِ أعناقنا... جميعُ هذه المكونات تُعطى
طَواعية ولا تُستخرج إلا بعد موتها في المعركة. بالمعنى الدقيق قبل وفاتهم. بحيث
يُوضع علامة على الجندي الذي تبرّع بجسده طواعية مسبقًا باللون الأسود وأثناء
الفرز وفي ظل هذه الظروف وحدها يُرسل لفحص دماغه. حتى أولئك الذين تطوعوا لا
يُرسلوا إلى الماسح الضوئي لهياكل معالجهم المركزي مباشرةً إذا كانت هناك فرصة
لإنقاذ حياتهم ، والتطوع اختياري تمامًا."
في المناطقِ الخطرة مثل مناطق الحرب ، هناك دائمًا نقص في الأطباء لعلاج الجنود الجرحى. ولحل هذه الأزمة ، يعد الفرز إجراءً لإنقاذ حياة أكبر عدد ممكن من الأرواح بطريقة فعالة. وعن طريق فصل المصابين الذين لم يكونوا معرضين لخطر الموت أو لم يحتاجوا إلى علاج على الفور عن أولئك الذين يحتاجون إلى الإنعاش الفوري.
من بينهم كانت العلامات السوداء التي أشير إليها بـالهامدة والمصنفة على أنها في حالة يتعذر عليهم فيها الادخار لعلاجهم. وقد جاء الاسم من لون العلامة المرفقة عليهم. وهم أيضًا الذين عُثروا عليهم بعد فوات الأوان أو أولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة ولكنهم أصيبوا لدرجة أنهم سيموتون في غضون لحظات.
" تُستنسخ بنية الأدمغة الرقمية عبر
الخلايا الاصطناعية ، وبعد محو ذكرياتهم وطبعهم بشخصياتهم الزائفة ، نقوم بزرعهم
في جماجم السايرينات.
بعبارة أخرى ، قد يستندون إلى قتلى الحرب ولكنهم ليسوا هم. أنا مندهش بعض الشيء
لأنكَ ما زلت تسمعهم يا نوزين."
" لكن لماذا؟ "
استخدم الفيلق عقول الموتى أيضًا ، لكنهم كانوا
أسلحة. لم يكن لديهم أي تصوّر للأخلاق والعدالة ، الصواب والخطأ ، لذلك كانت
أفعالهم مفهومة بالنسبة للبشر. لكن فيكا كان إنسانًا... أو كان يجب أن يكون
إنسانًا.
" لماذا؟ أعتقد أنه واضح تمامًا. إننا
نحنُ البشر محدودون على عكس الفيلق الذي يستمر في التقدم بغض النظر عن عدد المرات
التي تهزمهم فيها. قدرتنا على الإنجاب محدودة. لذلك إذا لم نتمكن من خفض أعداد
أولئك الذين سيموتون ، فنحن بحاجة فقط إلى إعادة تدوير أولئك الذين ماتوا بالفعل.
ببساطة أرسِل الذئاب لمطاردة الذئاب. ومصاصي الدماء لاصطياد مصاصي الدماء."
والأشباح لمطاردة الأشباح.
انحرافُ الأفكار والتدنيس اللفظي جعلَ
القشعريرة تسيرُ صوب لينا وتصعقها. ولم يكن فيكا ملمًّا من نفور لينا فابتسم مثل
الثعبان. مثلَ وحش منزوع القلب ، خالٍ من مفاهيم العواطف.
ملكُ الجثث. المنفصل عن الإنسانية وحاكمُ
الموتى بدمٍ بارد.
" و- و... أنتَ تدعوهم... بالطائرة بدون
طيار...؟!"
" هذا صحيح ، وهم شيء يجب أن تعتادي عليه.
فالأسلحة والجنود الذين ستضيفهم المملكة المتحدة إلى حزمة الضربات المتنقلة
سيكونون الألكونوستز والسايرينات. الفوج الخاضع تحت قيادتي مباشرة."
أكملَ أميرُ الشمال بابتسامةٍ هادئة ، متابعًا
لينا التي ترتجف ، وشين الذي يحدّق في وجهه بلا تعبيرٍ محدد كما لو كان صخرة على
جانبِ الطريق.
" حتى نقضي على الفيلق أو حتى يَبيدوا
البشرية... آمل أن نستمتع برفقة بعضنا البعض."
-
في أحد أركان قلعة البلاد العظيمة ، برزَت
إطلالة الفيلا الإمبراطورية محتوية على غرفٍ فاخرة وجميلة.
وبينما كانت مستلقية على السرير ، انغمست شيدن
في المكان الذي وصلوا إليه بعد أن قارنت الريش الموجود بداخل الوسائد بالريش
المتهالك في قواعد الخطوط الأمامية ومعسكر الاعتقال في القطاع الستة وثمانون.
شعرتَ بعدم الراحة والتعوّد حتى الآن على سريرها وتعتقد أنّ النوم عليه لوقتٍ طويل
سيجعلها تصبح ضعيفة بكلا الجسد والعقل.
حطّت أناملها على الملاءات صافعة ، أين فاحَت منها رائحة الزهور أو الأعشاب العطِرة ، وعلى أُثرها انحنَت شانا نائبة قائدة سرب بريسينجامين نحو شيدن المستلقية.
" يا ، شيدن."
لم تكلّف المدعوّة نفسها عناء النظر إلى شانا ،
وأعطت ردًا عابر.
" مم."
" هل كل شيء على ما يرام؟ "
" نعم…"
لم تحدد ماهية كلمة "كل شيء" ، لكنهم
ظلوا سويًا لفترة كافية لشيدن حتى تفهم بدون أي تصريحات واضحة. ربما كانت الصدمة
كبيرة جدًا. تجلّت بالاستياء على وجه لينا منذ أن قابلت الأمير بعد ظهر ذلك اليوم
، وسارَ شين إليها عندما رآها مستلقية على أريكة منزل المسكن ، لذا لعلّه الآن
بجانبها.
" لا يمكننا القيام بالكثير. لقد حكمت
جلالة الملكة اختيارها."
" لكن…"
حينئذ أزاحت شيدن عيناها ذات اللونين على
النافذة الموجودة فوقها مباشرة.
" سيكون هناك المزيد للتفكير فيما إذا كان
جاذب النساء أكثر من حمار. لكن مع أخذ كل الأحداث في الاعتبار ، أعتقد أنّه لا بأس
به."
لقد تحققت لفترة وجيزة فقط من أنه الشخص الصحيح
، ولكن هذا كل شيء. لم يكن بأي حال من الأحوال إقرارًا.
"...لا أحد يستطيع معرفة متى سينتهي كل شيء. وحقًا كما هو الحال دائمًا... طالما أنني إلى جانبها ، لا أريد أن أكون مصدر إزعاج."
* * *
" —رغم
البرودة القارصة للغاية هنا... لكن المدينة مزدهرة! سأجرؤُ على القول من الصعب
التصديق أنّ هذه العاصمة في زمن الحرب."
كانت عاصمة المملكة المتحدة آركس ستيري ،
مدينةٌ قديمة لها تاريخٌ مشابه لتاريخ البلد نفسه. بُنيَت في أوقاتٍ مختلفة عبر
عدة قرون. وكان طلاء جدران المباني بألوان زاهية ، بطريقة نموذجية تُناسب الأرض
التي تلتحف بالثلج لمدة نصف عام.
واليوم أيضًا أخفت غيوم الآينتاكسفليكا ذهبية
الشمس ، وأبدلته بتطاير ثلجٍ خفيف من السماء. عجَّ الطريق الرئيسي بالمارة عبرَ
المتاجر الملونة والأكشاك التي تُبهج السوق. وبينما ترتدي معطفًا فيدراليًا فوق
زيّها الجمهوري ، نظرت لينا حول المدينة النابضة بالحياة وعيناها واسعتان. واجتاحَ
الفضول أيضًا أنيت التي ارتدَت معطفًا وجريث وفريدريكا ورايدن ، الذين جاءوا
كمرافقين لهم.
في ذلك اليوم بعد الإفطار ، اقترح رئيس قسم
التكنولوجيا - وهو رجلٌ نحيفٌ للغاية لدرجة أنه كان يشبه هيكل عظمي - أنه نظرًا
لأن لديهم بعض وقت الفراغ ، فيجب عليهم الخروج ورؤية العاصمة ومشيرًا إلى حصول
السيدات على فرصة للتسوق بهذه الطريقة. نشأ نصف العرض من المراعاة لاحتياجاتهم
الخاصة ، والآخر يهدف إلى رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية.
وبالفعل ، أرادوا أن يتباهوا بوفرة وازدهار بلادهم لأول زوّار ضباط ميدانيين من الخارج منذ أكثر من عقد. وبذلك يؤكدون عرضًا على قوة جيشهم.
وقد فوّت هذه الفرصة كل من شيدن وشانا ، في حين
أنّ فيكا استدعى شين بشكلٍ خاص ، ولذلك بقوا لوحدهم في القصر. لاحقًا دعا الحراس
الملكيون مجموعة شيدن للقيام بجولة في المتحف العسكري.
" مذهل... أظن أنّ هذا ما قد يتوقعه المرء
من عاصمة الألف عام للبلد العظيم في الشمال ، روا جراسيا..."
" كنا بحاجة إلى استراحة وجاء عرض هذا
الضابط في الوقت المناسب تمامًا. من الصعب حقًا استيعاب هذه التكنولوجيا."
" أنا سعيدة أن كلا الجانبين لديهما شيئًا
ليعلمه للآخر عن البارا ريد ، ولكن... حتى لو قالوا أنهم استخدموا متطوعين راغبين
، فهذا سجل آخر من التجارب البشرية المستمرة... إنه نوعًا ما ، حقًا... كما
تعلمين…"
استمرّ النقاش بعد تبادل الابتسامات المريرة
بين جريث وأنيت عن السايرينات والتقنيات المرتبطة بها. سماع أنّ هذه التكنولوجيا
لا يمكن تبنيها تمامًا من قبل الفيدرالية جعل جريث تغرقُ في اليأس.
أوضحَت بعض الهياكل التي تشكل المدينة الفاتنة عن ثكنات ومستودعات أسلحة ومنشآت عسكرية أخرى يستخدمها مقر فرقة دفاع العاصمة ، وكان العديد من الأشخاص الذين يتجولون يرتدون الزي العسكري الأرجواني والأسود في المملكة المتحدة. نُظرَ إلى الجنود على أنهم أشخاص يستحقون الاحترام ، حيث رُحّبَ بجنديّة شابة من بيريل تمشي بالقرب منها بإيماءة مهذبة من قبل رجل كبير السن من لولا ذي الشعر البنفسجي.
قالت أنيت وهي تنظر حولها " فيولا هم
المواطنون ، والجماعات العرقية الأخرى من الأراضي المحتلة هم أقنان أليس كذلك؟
ولكن مع أخذ هذا المحيط بعين الاعتبار فإنّ الأقنان يعيشون بشكلٍ طبيعي."
استدلّت أنيت كلماتها من مشهدِ أطفال الفيولا
ذو الدماء النقية وهم يلعبون الكرة مع أطفال الأقنان من الأعراق الأخرى كما لو لم
يكن هناك فرق بينهم. وزوجٌ من الأشخاص من
ألوانٍ مختلفة يجلسون على ذات الطاولة في المقهى أينَ يتجاذبون أطراف الحديث حول
القهوة. وكانت سيدة عجوز من سليستا تدير كشكًا تتجادل حاليًا بحماس حول سعر جرة
كبيرة من العسل مع امرأة من التافي. حيث اختُتمت المفاوضات بمصافحة محكمة ، وبعد
ذلك تبادل الاثنان فاتورة البضائع وافترقا بالابتسامات بجانب كلمات "سأعود
مرة أخرى" و "على الرحب والسعة ".
كان
الأقنان بشكلٍ عام من الطبقة العاملة ، والمواطنون من الطبقة الوسطى ، وعلى هذا
النحو تميّزوا عن بعضهم باختلاف نوعية ملابسهم وممتلكاتهم الشخصية ، لكن الأقنان
لم يُعتبروا عبيدًا أو منبوذين ولم يكن هناك أي مؤشر أنّ بعض الأطفال عوملوا على
أنهم عرق أقل ، مثل الستة وثمانون.
ابتسمَ حارس القصر المعيّن لمجموعة لينا كمرشدٍ لهم ومترجمهم. كانت اللغة الرسمية للمملكة المتحدة مختلفة فقط في اللهجة عن لغة الجمهورية والفيدرالية ، ولكن نظرًا لأن بعض الأقنان ينحدرون من مناطقٍ احتُلّت لكونها ذات مجالات ثقافية مختلفة ، فهم يتحدثون لغة مختلفة تمامًا.
وأوضح الحارس: " إنّ المتوقع من مواطنين
البلاد أداء الخدمة العسكرية ، بينما من الأقنان التعامل مع أمور الإنتاج."
وأضاف: " بطريقة ما ، هناك فرقٌ بين التجنيد الإجباري والمسؤولية الضريبية.
فالإتاوة تشجّع الأقنان على الانضمام طواعية إلى الجيش.
"مثله " قال مشيرًا إلى حارس. كان رجلاً
متحفظًا من روبيس بدا في العشرين من عمره ، ويرتدي شارة جديدة برتبة ملازم ثانٍ ،
وقد لاحت على شفتيه ابتسامة لهم بفخرٍ خجول. كان التعليمُ مفتوحًا للجميع ، على
الأقل لأولئك الذين لديهم الإمكانيات لتحملها.
لقد صدقَ فيكا في قوله ، ربما كانت المملكة
المتحدة ملكية استبدادية ، لكنها لم تمارس أي ضغط وقمع سياسي على مواطنيها. ولم
تفعل شيئًا من شأنه إثارة الاضطرابات أو التمرد ، ولم تخلق تمييز طبقي غير ضروري.
على عكس الجمهورية التي بعد أن أخذت كل شيء بعيدًا عن الستة وثمانون من خلال
مصادرة أصولهم لتمويل بناء غران مور وإجبارهم على التجنيد الإجباري ، وتجرّأت على
تصنيفهم على أنهم من دون البشر.
"...ميليزي؟ ما الأمر؟ "
" لا شيء."
هزت لينا رأسها باستياء ، ثمّ قالت في شك :
"
بالمناسبة... أتساءل ما العمل الذي يقوم فيه فيكا مع شين؟ "
-
طُلب من شين أن يأتي مرتديًا
معطفه ، وكان الطلب لصالحه حيث قاده فيكا إلى سلالمٍ تحت الأرض تميّزت بالبرودة
الشديدة.
" الجبالُ الواقعة في أقصى شمال المملكة
المتحدة هي سلسلة جبال ويل فروست. وتقبعُ هناك مغارة جليدية تمتد على طول الطريق
إلى تحت الأرض في المملكة ، حيث بُنيَ الضريح الملكي. لا يذوب الجليد هنا أبدًا ،
لذا فهو بارد حتى في الصيف... وستكون فوضى كبيرة إذا تسلل أحد أطفال الخدم إلى هنا
بلا مبالاة."
نُحتَ الدرج نفسه من الحجر الجليدي ، مزيّنًا
بأشكالٍ حلزونية لطيفة أثناء نزوله إلى أعماق الأرض ، وكان المكانُ مطعّماً بصدفِ
العمامة الخضراء الكبيرة التي تتلألأ الآن بالألوان الطيفية السبعة.
وصُنع معطف الترنش الذي أصدره الجيش الفيدرالي
للقتال في الخنادق المتجمدة في شمال الاتحاد الثلجي وكان مقاومًا للماء ووقائيًا
من البرد. ومع ذلك ، جعدَ شين جبينه من البرد الذي يطعن رئتيه مع كلّ نفس يأخذه.
بينما فيكا سارَ للأمام وهو ينفث الهواء المرئي باعتيادية.
"...في العصور القديمة ، كان أيّ مواليد من النبلاء لا يزال عرق ملكي. ونُظرَ إلى الملوك على أنهم آلهة حية تمنح الجسد موهبة وقوى فريدة. التخاطر والتصور النفسي للبيروب ، براعة أونيكس العسكرية وترهيب السيلينا. الكثير من هؤلاء تضاءلوا وتلاشوا مع اختلاط الدم ومرور الوقت ، لكنهم بقوا إلى حدٍ ما في الأراضي حيث احتفظت الملكية والنبلاء بسلطتهم ونسبهم. وهذا ينطبق أيضًا على إمبراطورية جياد والمملكة المتحدة. من بين هؤلاء كان عقل الأميثيستا المعزز ، إنهم ببساطة سلالات تنتج عباقرة متطرفين."
الصمتُ التزمَ خطوات شين أثاء سيره ، والصوتُ
الوحيد المسموع هو كل ما يصدره فيكا لوحده. لو كان لديه أي شيء ليفعله فسيختار
لينا ، لكنّه دعا شين وحده ، معالجٌ واحد لا يُنظر إليه عادةً على أنه أكثر من
بيدق.
لم تكن نيّة فيكا واضحة. وقد حمل شين النفور
الشديد منذ أن رأى السايرينات ، لذا جعل صوتَ استجوابه فظُا للغاية. لم يشعر شين
بالحاجة إلى عناءِ تقديم الاحترام لواحدٍ ذي سلطة عليا منذ البداية.
"…لماذا تخبرني بهذا؟ "
" همم؟ بالطبع لأنكَ من إسبير البيروب.
لقد ماتت سلالتك المايكاس من طرفِ والدتك أثناء اضطهاد الستة وثمانون... لذا
اعتقدتُ أنكَ مهتم بمعرفة القليل عنها. هل أخطأت؟ "
" لا أهتم بالأمر."
" همم؟ "
استدار فيكا في مواجهته بتعبيرٍ مشكوك ثمّ
أعطاه ظهره بهدوء.
" بغض النظر عما إذا كنت مهتمًا ، فهذا
للأسف مقدمة ضرورية لموضوعي الرئيسي هنا. تحمّلني بصبر وإن وجدته مملاً."
تخطّى فيكا آخر عتبة من الدرجِ الطويل ، وصدحَ
صوت حذائه العسكري مترددًا بقوة. برزَ في نهاية الممر القديم تحوّل مفاجئ إلى بابٍ
معدني جديد على أحدثِ طراز ، والذي استشعرَ وجود فيكا وفتح تلقائيًا. ثمّ صفعهم
الهواء المتجمد المتدفق من المدخل ولا يقارن ببرودة الدرج ، لكن واصل فيكا خطاه
دون الاهتمام بهذا الجو.
" العائلة المالكة هي آخر سلالة
الأميثيستا التي تحمل قدرات الإسبير ، ونحن في نفس الوقت أوصياءٌ على الكثير من
المعرفة والحكمة التي لولاها سنضيع على مر العصور."
أنارَ وهجُ الضوء ظلاما مجهول ، متلألئًا
ومتألقًا على كل شيء. لفتَ المكان النظرَ إلى قبةٍ ضخمة بدت وكأنها مصنوعة بالكامل
من الجليد ، مليئة باللون الأزرق الشفاف على مدى البصر. كان الجليدُ كثيفًا لدرجة
أنّ الجدار الصخري خلفه لم يكن مرئيًا من خلاله. لونٌ أزرقٌ شفافٌ بلا نهاية. بلا
قاعٍ في الأفق.
تدلّت رقاقات جليدية معلّقة من سقف القبّة
الشبيه بكنسيةٍ وثنية ، وامتدّ مسارُ الجليد هذا إلى أبعد نقطة عن المنطقة الفسيحة
التي خطَت أقدامهم عليها. وما يصدمُ المرءُ هنا هو الجدران الجليدية التي لم تسلَم
من تطعيمها بالمالاكيت والجمشت وبأنماطٍ متلألئة من الريش.
لكن الذي شدّ انتباه شين للأمام مباشرة لم تكن
الأشكال الطبيعية ولا التي من صنع الإنسان. بل العدد الذي لا يحصى من تكوينات
بلوريّة منتشرة على طول جدران القبة الجليدية وعلى جانبي الممر...
...توابيتٌ مصنوعةٌ من الجليد.
توابيت على هيئة بيضة صُنعت من الفضّة والزجاج
، وكلٌّ منها يحتضن شخص بداخله مُرتديًا زيًا عاديّ أو زيًا أرجوانيًا وأسودًا ،
شملَ المعظم فئة البالغين وبعض الأطفال و الرضّع. وبعض النعوش مُلئت بجثثٍ ملفوفة
في أغلفة أو أجزاءٌ من رفات الموتى. كان الداخل مليئًا بالجليد شديد الشفافية ،
وشعار وحيد القرن المنحوت على سطح الزجاج باستخدام الليزر كان متشابكًا بطبقة
رقيقة من الصقيع.
برزَ فيكا واقفًا وسط التوابيت ، ثمَ استدار
إلى الضيف وقد انحرف طرف معطفه الأبيض قليلًا.
" كرمز لهذا الإرث تُحتفظ رفاتنا. هنا في
هذا الضريح المجمّد جميع أولئك المنحدرين من عرق الإديناروك. بالطبع الأجيالُ
السابقة محنّطة بشكلٍ أو بآخر ، والآن حسنًا..."
رفع أنامله مشيرًا إلى نعشٍ يقف خلفه مباشرة ،
بجواره تابوت لا يزال فارغًا ، وداخل النعش المقصود طفَت امرأة تمدّ يديها كما لو
أنّها على الماء وعيناها مغمضتان برفق.
" هذه ماريانا إديناروك ، أمي."
بينما يقفُ فيكا أمام بقايا المرأة المختومة
داخل التابوت وجدَ شين أنّه يشبهها. ولولا اختلاف السن والجنس لكان التفريق بينهما
صعبًا. بدَت في أواخر العشرينات أو الثلاثينيات من عمرها وترتدي فستانًا بنفسجيًا
رائعًا ، لونُ العائلة المالكة في المملكة المتحدة ، وعلى جبينها تاجٌ فضيّ مرصّع
بأحجارٍ كريمة مفردة.
لكن هوى شين بشعورٍ من عدم الراحة عندما سقطَ
بصره على التاج الفضي الرقيق الموضوع على رفاتها. هي الوحيدة من بين جميع المتوفين
الذين اصطفوا هنا ترتدي تاجًا. وحتى شين الضئيلة معرفته بالمجوهرات شعرَ أنّ موضع
التاج خاطئ. فبعد كل شي لا يرتدي المرء التاج فوق العينين مباشرة.
وتحت لمعانه قُطعَ خط أحمر مستقيم في جبهتها
البيضاء. على عكس جراح الأحياء فلم يلتئم الجرح الذي أصاب الجثة وظلّ مفتوحًا دون
أدنى إغلاق.
قهقهَ فيكا بصوتٍ خافت.
" ها لقد لاحظت... وهذا صحيح. جثة أمي
مفقودة الدماغ ؛ لأنني استخرجتها منذ ثلاثة عشر عامًا."
لم يكن هناك من طريقة قد يخطئ فيها شين الفهم
عند إخباره بهذا. لقد طُوّر الفيلق قبل اثني عشر عامًا. وأيضًا...
ماريانا.
" نموذج ماريانا..."
" نعم. الذكاء الاصطناعي الذي كان أساس
الفيلق ، الآفة البشرية. والمكون المركزي له... كان والدتي."
أو بالأحرى دماغها.
انغمسَ شين بأفكارٍ لاذعة. كانت هذه هي الطريقة
التي توصل إليها الفيلق بفكرة سخيفة تتمثل في استيعاب الشبكات العصبية للإنسان
لتحل محل معالجاتها المركزية. فإذا كانوا يعتمدون في الأصل على عقل بشري في محاولة
لإعادة إنتاج واحد ، فوفقًا للفرضية عندئذٍ كانوا يعملون ببساطة كما هو مُصمم عليه
من الأصل.
لكن بقي سؤال واحد.
"…لماذا؟"
لماذا أردتَ صنع مثل هذا الشيء؟ لماذا ذهبتَ
إلى حدِّ تدنيسِ رفات أمك؟ لماذا استخدمت والدتك ولو كانت جثتها فقط كخنزير غينيا
للتجارب؟
لكن فيكا هزّ كتفيه ببساطة.
" أردتُ مقابلتها."
على الرغم من مظهره الرشيق وأعمارهما المتساوية
، إلا أنه تحدث بنبرة طفل صغير.
" توفيت أمي بعد فترة وجيزة من ولادتي...
كانت ولادة صعبة وفقدت الكثير من الدماء وهو أمر يمكن أن يحدث أثناء أي ولادة ،
وقد قام والدي بفحص الأمر وأكد أنه لم يكن هناك أي حادث. ومع ذلك..."
قطع فيكا تواصله مع شين ونظر إلى والدته في
نعشها. وإلى اليدِ البيضاء التي لم تلمسه.
"...أنا لم أعرف صوت والدتي مطلقًا."
ارتوى
بالكلماتِ من شفتيه كما لو كان جائعًا وعطشًا لشيء لم يُمنح له من قبل ، ولذا كان
لها صدى بالوحدة الرهيبة.
" حتى
إسبير عائلة إديناروك لا يمكنهم تذكر ما حدث بشكل صحيح عند ولادتهم. لقد تحدثت إلى
أبي وأخي زافار ، وإلى مربّيتي ، وطلبت منهم أن يخبروني بكل ما يمكنهم تذكره عنها.
لكن هذا لم يكن كافياً لملء الفراغ."
"..."
"— ولكن إذا كان هذا هو الحال..."
وقتئذ انحرفَت شفتاه النحيفتان إلى الأعلى
بابتسامةٍ قاسيةٍ وشريرة. تلاها قهقهة وذكريات تألّقت في عيناه البنفسجيّتان الإمبراطوريتان.
مثل الوحش. مثل الشيطان. ولسبب ما تذكّر شين الابتسامة قبل ثلاثة عشر عامًا ولم
يكن يتخيّل أنها كانت كالتي لديه.
تلك الابتسامة البريئة للغاية.
" إذا لم أعرفها ، إذا فقدتها ، فلا بأس
بالحاجة فقط إلى إعادتها. هذا ما اعتقدته آنذاك... لأن بقاياها ودماغها المحتضن
ذكرياتها وشخصيتها محفوظة هنا...!"
التعصّبُ بالوهم يفقدُ أيّ ضبط للنفس. كان
ينجّسُ رفاتَ الإنسان بختم ذكرياتهم وشخصياتهم في آلاتٍ ميكانيكية ، وبذلك يتجاوزُ
الموت... عيناهُ غابت عن كلِّ ذنبٍ أو خوف احتمال ارتكاب مثل هذا المحرمات... لم
يحمل داخله تمييزٌ بين الخير والشر... لا شيء سوى صقيعُ القلب المطلق... الذي أراه
أنّ إشباع رغباته هو الشيء الوحيد.
شعر شين
بقشعريرة رعب لم يشعر مثلها من قبل ، لم يكن قادرًا على رؤية تعبيره ولكنه كان
مدركًا تمامًا لمدى شدّتها وتوترها ، لم يكن الشيء الذي يقف أمامه إنسانًا ، كان
وحشٌ بريء حقيقي لا يعرف الإنسانية ولا العقل.
سأل وهو يبتلع عواطفه :
"…وثم؟ "
هزّ فيكا كتفيه مجيبًا بلا اكتراث.
" فشلت."
لا يمكن للموتى أن يختلطوا بين الأحياء مرة
أخرى. حتى فيكا لم يستطع قلب هذه الحقيقة.
" لقد
ضاع دماغ الأم هباءً وجُرّدتُ من حقي في العرش لتدنيسي رفات الملكة. لم أكن أهتم
بهذه الأشياء لأنني لم أكن أريدها في المقام الأول ، لكنني آنذاك لم أستطع التخلي
عن والدتي."
اعتقدَ أنّ خطيئته ربما تكمن في كونه صغيرًا
جدًا. تكمن في المعرفة غير الكافية أو الفشل في نظريته ، في النهاية لقد فشلَ لأنه
قد أخطأ. ثمّ فكّر فيكا بطريقة يراها في العالم ، حيث إذا استخدم المرء الطريقة
الصحيحة ، فستحدث النتيجة المرجوة دائمًا. لقد اعتقد ببراءة أنّ العالم يعمل
بطريقة أنيقة ومرضية.
وظنّ أن الأمور ستسير دائمًا على ما يرام.
" لذلك قمتُ بتحميلِ جميع بياناتي على
الشبكة العامة."
لم تخطر بباله وقتها أنه سيكون عملاً من شأنه
زعزعة التوازن العسكري للدول المجاورة. وإن كان أصغر طفل فهو لا يزال أمير مملكة
كبيرة. واسمه معروف جيدًا على الرغم من بلوغه سن الخامسة فقط. لم يكن لكتاباته
المظهر ولا التركيب اللغوي لشيء يستحق أن يُطلقَ عليه أطروحة ، وبالنظر إلى
الموضوع السخيف المتمثل في إحياء الموتى ، فإن معظم الباحثين لم يأخذوه بجدّية
وافترضوا على أنه مزحة.
" هذا عندما قابلتَ الرائدة زيلين
بيركينباوم."
" نعم. تواصلَ معي عددٌ قليل من الأشخاص
الفضوليين وغريبي الأطوار من بلدانٍ مختلفة ، وهي واحدة منهم."
كانت زيلين واحدة من القلائل الذين لم ينخدعوا
بعمر الكاتب وأسلوب كتابته الطفولية ، وأدركوا إمكانات نموذج الذكاء الاصطناعي
الجديد هذا. لقد كانت آنذاك تبحثُ عن أسلحةٍ مستقلةٍ في المختبر العسكري
الإمبراطوري.
" كنتُ أعرف ما تبحث عنه زيلين وماذا كانت
تفكر فيه عندما طوّرت تلك الأسلحة المستقلة المدعوة بالفيلق. لكن..."
لم يتخيّل أنها ستنتهي بتوجيه ذلك السلاح ضده.
وأن تكشف الإمبراطورية عن أنيابها على جميع البلدان الأخرى. لم يدرك أبدًا عواقب
الإجراءات التي اتّخذها لتحقيقِ حلمه —
"... بحلول الوقت الذي أعلنت فيه
الإمبراطورية الحرب ، كانت زيلين قد وافتها المنية بالفعل... ودعني أعترف بأنني
الذي سرقَ وطنك وعائلتك وإن كان بشكلٍ غير مباشر ، فهل ستكرهني على ذلك؟ "
بسط ذراعيه ليوضّح من خلال الرفرفة على ملابسه
عدم حمله أي أسلحة نارية ، وأنّه أعزل تمامًا بدون مرافقة واحدة أو حارس شخصي
للدفاع عنه ، وكان هذا الفعل هو فكرته عن حسن النية. فبعد كل شيء لم يخبر فيكا شين
أبدًا بعدم إحضار أي أسلحة نارية عندما استدعاه ، وكان الآخر بالطبع يحمل مسدسه
بحوزته ، تمامًا كما اعتاد منذ سنوات في الجمهورية.
لكن شين أجاب وعقله مدرك لثقل الذي يحمله في
هذه اللحظة :
"…لا."
لم يفكر أبدًا في الجمهورية كوطنه ، وبالكاد
يتذكر عائلته أو أي شيء آخر من تلك الحقبة الماضية. إذا قال فيكا أن هؤلاء قد
سُرقوا منه ، فقد يكون على حق ولكن بالنسبة لشين... لم يعد هؤلاء يُحسبون كأشياء
يخسرهم. كما لو أنهم لم يكونوا موجودين أصلاً ، ولأنّ الأمر على هذا النحو فلا
يوجد ما يثيرُ استيائه... لا شيء ليحمل الكراهية اتجاهه.
" لا أعتقد أنهم قد سُرقوا مني... وحتى لو
حدث ذلك ، فهذا ليس من شأنك."
"... مُجددًا تتحدثُ بلا مبالاة ، كما لو
لم تكن بحاجة إليهم في المقامِ الأول. على الرغم من أنّكَ امتلكتَ أمًا ،
على عكس ما حدث لي."
هزّ فيكا رأسه بابتسامةٍ مريرة بعد لحظةٍ غمرت
عيناه البنفسجيتان بالحسدِ والغيرة ، ثمّ تلاشت هذه المشاعر بغمضة عين.
" الآن إذن. بما أنّكَ تبدو غير مهتم
تمامًا بشكلٍ عام ، فإلى هنا ينتهي اعترافي. ودعنا ننتقل إلى الموضوع الرئيسي يا
حاصد رؤوس قطاع الستة وثمانون."
لاحَ تعبيرٌ على وجه فيكا احتار المرءُ في
وصفه؟ تجسّدَ فيه نظرة توسّل وخوفٌ شديد. كما لو رغبَ الغفران عن خطاياه ويتمنّى
الأمل. وبعد قضي الوقت الخانق لم يسعه إلا أن يسأل :
" هل أمي... لا تزال هنا...؟"
تمنّى أن يسمعَ عن سلام والدته الأبدي ولكن
تعطّش لرغبة أن يراها مجددًا.
إذن هذا ما دعاني إليه ، اجتاحَ شين شعور فارغ بغرابة بعد تفكير عابر.
إنّ قدرته على سماع صرخات النفوس الراحلة التي
بقيت حتى بعد الموت ، ستجعله قادرًا على معرفة ما إذا كانت والدة فيكا لا تزال هنا
أم أنها نالت سلامُ الموت ، وربما سيحاول إحيائها مرة أخرى.
إمّا سيحاول ذلك أو يتخلّى ويستسلم... كل شيء
يعتمدُ ما إذا كانت حاضرة.
تساءل بشكلٍ باهت إن كان هذا حقًا شيء يستحق
الهوس؟ لم يستطع شين تذكر وجه والدته ولكنه لم يشعر بأي ندمٍ على هذه الحقيقة.
بينما يتوق فيكا بشدة لصوت والدته الذي لم يعرفه ولم يلمسها أبدًا.
واقفًا وجهًا لوجه مع فيكا ، أخذَ شين الأنفاسَ
بخفّة ونبسَ قائلًا :
" لا."
إنّ السببَ في بقاءِ شقيقهِ وكاي والعديد من
الستة وثمانون الذين لقوا حتفهم محاصرين في ساحة المعركة ، هو أنّ هياكل أدمغتهم
قد استولى عليها الفيلق كمعالجات مركزية. على الرغم من حقيقة أنهم ماتوا وكان
ينبغي أن يعودوا إلى حيث ينتمون ، ولكنهم أُسروا بقسوة.
لم تكن هناك أفكارٌ أو ارتباطاتٌ باقية ، ولا
أي مودة اتجاههم. ولا يمكن للعاطفة أن تتجاوز العقل. هذا العالم ببساطة لم يكن
لطيفًا بما يكفي لترك هذا القدر. سواء كانوا أحياء أو أموات.
لقد احترقت رغبة كيريا في الانتقام من أعداء
فريدريكا خلال تدميره مع مورفو وارتقت روحه. واختفى شقيقه الذي انتظره لفترة طويلة
بمجرد أن فقد الديناصوريا التي احتوته.
رحلوا ولم يعودوا في أي مكان.
" رفاتُ والدتك ليست سوى جثّة. لا أستطيعُ
سماع أي صوت يخرج منها الآن... والدتك لم تعد موجودة هناك."
" وماذا عن ليرش؟ "
وقتئذ تجعّد جبين شين وصُدم بالسؤال التالي على
مسامعه.
" ماذا عن السايرينات؟ يمكنكَ سماع
الأصوات الآتية منهم أليس كذلك؟ ليرش... وجميعهم قابعون داخل تلك الأجساد. لذا هل
تتوقُ أرواحُ هؤلاء الفتيات... إلى الموت؟ "
"……نعم."
أومأ شين برأسه متسائلاً باستمرار لماذا يهتم
فيكا كثيرًا إذا كان يعتبرهم مجرّد أجزاء من طائرة بدون طيار. لم يكن الرثاء لتلك
الأصوات صاخبًا وحملَ هدوء مؤلم. صوتٌ لفتاة لم يقابلها من قبل وعدد لا يحصى من
الجنود المجهولين.
" إنهم يواصلون البكاء... قائلين إنهم
يريدون الخلاص."
غطّت ابتسامةٌ على محيا فيكا تتجرّعُ المرارة
واستنكار الذات.
"…فهمت."
بالعودة إلى التمعّن فيه مرّة أخرى باعدَ شين
شفتيه للتحدّث. وكما الحالُ دائمًا عجزَ أن يفهم أو يتواصل معه مثل الذي من قبله.
" هل يمكنني أن أسألكَ شيئًا أيضًا؟
"
رمشَ فيكا متفاجئًا لوهلة.
"...نعم. إذا كان بإمكاني الإجابة
عليه."
" هل تريد حقًا مقابلة والدتك بهذا القدر
، في حين أنكَ لم تسمع صوتها أبدًا؟ "
لقد فهم أنّ هذا الرجل لم يشعر بالنفورِ من
قطعِ رفاتها. ولكنه يظل جسد امرأة بالغة لها كتلة ووزن. وجمجمتها البشرية صلبة على
فيكا البالغ آنذاك من العمر خمس سنوات ليتعيّن عليه حملها بعيدًا وفتحها بعد
قطعها. هل ذهب حقًا إلى هذا الحد لأجل رغبته في رؤيتها مرة أخرى؟ لشخص لم يعرف
صوتها أبدًا ، شخص لم يقابلها من قبل ، شخص كانت والدته بالاسم فقط؟
جفلَ فيكا من السؤال وسكنَ في اللحظات التي
ارتوى فيها أنفاسًا
" حسنًا... نعم. يُحبُّ الأطفالَ والديهم
ولديهم طرقٌ مختلفة للتعبير عن ذلك. خاصة إذا لم يتمكنوا من مقابلتهم... واسمح لي
أن أسألك بدوري ، هل أنتَ..."
قطعَ كلماته ليغلق عينيه ، وأكمل :
"...لا ترغب في مقابلة والديك؟ "
" ليس هناك لقاءٌ مع الموتى مجددًا."
هذا هو القانون الكوني الذي لا رجعة فيه ، آمنَ
شين الذي يتمتع بقدرة فائقة على سماع أصوات الموتى بذلك. أصواتهم لم تكن أكثر من
صرخاتِ مخاضِ الموت النهائي. لا يستطيعون الحوار ولا يوجد اتصال ، انعدمَ
التفاهم... بغضّ النظر عن مدى رغبة الطرفين ببعضهم البعض.
لا يمكن للموتى أن يختلطوا بالأحياء.
" فهمت. لهذا أنتَ لا ترغب في
تذكّرهم."
حلّ دور شين ليضيّق عينه مجددًا عند هذه
الكلمات التي لا يأبى تكرارها التوقف.
ليس الأمر أنه لا يمكنك تذكر طفولتك.
أنت لا تريد أن تتذكرها.
"…ما الذي جعلك تقول هذا؟ "
" ليس لديكَ اهتمام بنسبِ أمكَ الراحلة.
ولا تشعر بالاستياء من الذين سرقوا الأشياء منك. والأكثر من أي شيء آخر ، كيف
تعبير وجهكَ يخبرنا بعدم التطرق لهذه المواضيع ولا أن تكون على علمٍ فيها. كما لو
كنت تعاني من جرحٍ لا ترغب حتى في الاعتراف بوجوده."
"……"
خدش.
تبسّمَ ثغر فيكا وهو يرى من خلال شين عنانَ
كلماته القاسية التي حرّرها والبرودة التي اعتبرها شبه رحمة منه.
"
ولكن إذا كان هذا شيئًا تجده يناسبك ، فليس من مكاني كغريب أن أعلّقَ عليه... وإذا
نظرنا إلى أقصى الحدود ، فإنّ ميل الطفل إلى اتباعِ والديه هو طريقة أخرى للحياة.
وإذا كنتَ ترى أنه من المقبول النسيان... فأنا أرى أنكَ لن تلتقي بوالديك مرة أخرى
بالتأكيد."
-نهاية
الفصل الأول
[كادر العمل]
ترجمة وتدقيق: @pandoravanitas
تبييض وتحرير : @__abdHD
تعريب الغلاف وتنسيق المجلد: @__abdHD
ملوني الصور التوضحية الذين أضافوا البهجة والإبداع بأناملهم :
الثانية: @okarin0
الثالثة:@neronov_

.jpg)

.jpg)
