Volume 5 الفصل الثالث

Posted by abdHD, Released on

إعدادات القارئ

الفصل الثالث

 أصمٌّ لرثاءِ الطيور المُغرّدة


وقعَ صدى الكارثة فجأة.

" تسك...!"

انسابَت نظرات شين نحوَ الصوت في عمقِ المناطق المتنازع عليها بينما يتقدّمون بمراكبهم المدرّعة. بدأ هدفهم الآن في عملية أسر جبـل التنيـن فانـغ ، وقد سبقهم في الليلة الماضية عمليات الاستطلاع بسلاحِ المدرعات التابع للجيش البريطاني. والذي نجحَ في سحب وحدات الفيلق وتشكيل فجوة في ساحة المعركة.

على المستوى البعيد لأنظارهم تحرّكت مجموعة جديدة من الفيلق. وإثارة الغرابة تكمُن في الطريق الذي سلكوه. حيث لم يذهبوا باتجاه قوة الاستطلاع ولا حزمة الضربات المتنقلة. وفي لحظة إدراك شين أنّ عواءً اصطناعيًا غير واضح ممزوجًا بهذه القوى اخترقَ ساحة المعركة ، قام بتنشيط البـارا ريـد مع هاجس مشؤوم.

لم يكن هناك منطق في جرسِ التحذير الذي انطلق في ذهن شين ، فقط غرائز المحارب التي شحذتها سنوات طويلة على أرض الحرب.

" لتلزم جميع الوحدات أماكنها. رايدن ، أما زلتَ في القاعدة ؟ ابقَ حيث أنت."

" نغه ، عُلم."

" كابتن نوزين؟ ما الـ…؟"

كانوا لواءً يتكوّن من صفٍّ متعدّد المركبات بالمئات. جنبَا إلى جنب مع رايدن الذي بقي في الخلف لتأمين المؤخرة مع العديد من الأسراب التي تركت عشرات الكيلومترات خلفهم ، في انتظار وقتهم للخروج من قاعدة قلعة ريفيتش.

وأثر التوتّر المفاجئ أدرك رايدن وجود خطأ ما وأجاب على الفور. على عكسه ، فإنّ بطء لينا في الاستجابة لقدرة شين لا يزال محبطًا. إنّ قوات الفيلق الذي كان على قوات الاستطلاع البريطانية تدميرهم يتحركون بقلب التيار واندفاعهم إلى الوراء. لقد اندفعوا إلى أعماق الأراضي مقتربين من قوات المملكة المتحدة ، وبدأوا في الغزو المموّه.

كانوا يتظاهرون بالتراجع والالتفاف على قوات المملكة المتحدة للغزو.

كنا نحن الذين خُدِعوا!

وقتئذ ارتفع صراخ الفيلق المتزامن مع نحيب الآلات ، قادمًا من موقعٍ بعيدٍ عن أي وحدة ، سواء المملكة المتحدة أو حزمة الضربات المتنقلة. صيحةٌ تذكّرنا بأحد أفراد عائلة سكوربيون ، لكن فقط شين الذي علمَ أنها تنتمي إلى نوعٍ مختلف.

جاء الصراخ بلحظةٍ مسرعة أغرقت إدراكه ليطاردها لكنّها اختفت وفقد هو مسارها دون جدوى. بينما أصدر تحذيرًا بعد فوات الأوان.

-

" إنه لأمر محزن أننا فشلنا في الردِّ في الوقتِ المناسب على الرغمِ من تحذيرك ، لكن... أنا آسف نوزين. سقطت قاعدة قلعة ريفيتش."

تحدّث فيكا من داخلِ مبنى قيادة القلعة الذي فاضَت فيه الظلام الآن بسبب انقطاع التيار الكهربائي عنهم. داخل جناح قيادة سرّي لقاعدة قلعة ريفيتش في المستوى الرابع تحت الأرض وهو المستوى الأخير. وقد بُني ليكون مستقلًا جزئيًا عن الأجنحة الأخرى.

لا تزال المستشعرات المركّبة على المحيطِ الخارجي للمظلة في أعلى مستوى من القاعدة قيد العمل. نظرَ أفرادُ القيادة إلى المشهدِ المضيء للثّلج أمامهم بتعبيراتٍ متوترة. ووقف المعالجون في صمتٍ مرتدين زيًا أزرقًا فولاذيًا ، كما فعلت الفتاة ذات الشعر الفضي التي ارتدت الزيّ الأزرق الغامق والتي كانت بمثابة سيدهم.

ثمّ قام عدد قليل من أفراد طاقم الصيانة وأفراد القاعدة الذين نجوا بإغلاقِ الحواجز الفاصلة للممرات بينما بقي المعالجون في غرفة التحكم.

" لنكون أكثر دقة ، لقد أزالوا وظائف القاعدة عنا. يخضع قطاع السطح بالكامل وثمانون بالمائة من القطاعِ تحت الأرض لسيطرة العدو. الأجزاء الوحيدة الخاضعة لسيطرتنا هي مركز القيادة والحظيرة الثامنة في الطابق السفلي والأدنى. حاليًا ، نحن محاصرين في جناح القيادة مع تفعيل جميع آليات الإغلاق لدينا... أوه ، لقد أكمل جميع جنود الفيدرالية الإخلاء بنجاح إلى الجناحِ أيضًا ، لذلك ليس لديك ما يدعو للقلق في هذا الصدد."

وأضاف الجزء الأخير بعد أن تذكر أنه كان يتحدث إلى جندي محسوب على الفيدرالية.

ردّ شين القابع حاليًا على السهولِ الثلجية على بعد عشرة كيلومترات من أسوار قاعدة القلعة ، دون أي قلق يجول ذهنه.

نظرًا لكونه إسبير قادرًا على تحديد مواقع كل الفيلق في ساحة المعركة ، فقد امتلكَ بالفعل بعض الإدراك للوضع ، لكنه أخفى قلقه بشأن بقاء رفاقه الذين ما زالوا في القاعدة.

"إنه خطأي بقدر ما هو خطأك. لم يخطر ببالي مطلقًا أنهم سيكونون قادرين على إطلاق فونيكس نظرًا لمواصفات الزينتور المقدّرة."

-

وإن تلقّوا تحذيرًا ، فإنّ ما هاجمهم لم يكن قابلاً للاكتشاف من قبل الرادار وأجهزة الاستشعار البصرية ، لذلك لعلّ عدم قدرتهم على فعل أي شيء من الأساس أمرًا لا مفر منه. ولم يكن هناك رابطٌ مباشر بين شين وفيكا في التسلسل القيادي ، وقد تسبّب هذا الفاصل القصير من الاتصالات بينهما في كارثة.

بدا أنها هبطت فوق المظلة لحماية القاعدة. حيث فشل الرادار المضاد للطائرات والمدافع في الكشفِ عن وجوده ، ولذا فإنّ المدافع الآلية المضادة للطيران لم تتمكّن إلا من إطلاق قذائف عمياء في اتجاهاتٍ خاطئة بعد فوات الأوان. وبعد تدمير المدفع انطلق الإنذار أخيرًا ، ثمّ بوقتٍ قصير تمزقت الفتحة التي تربط المظلة ببرج المراقبة من الخارج. وأُثناء الاقتحام اعترضهم جنود القوات الدفاعية للقاعدة والذين أُمروا بالذهاب إلى برجِ المراقبة عند تلقي أخبار الهجوم ، وتعاملوا معهم من جانبٍ واحد.

تجوّلت بحريةٍ عبر الممرات الضيقة لقاعدة القلعة حيث لم يكن أحد قادرًا على رؤية شكلها. وعند استشعار الموقف قامَ فيكا بتنشيط الألغام ذات الطلقات في التركيب يدويًا عن بعد والتي تستخدم للدفاع عن المنشأة ونجحَ في تجريدها من التمويه البصري ، والكشف عن شكلها. حينها داخل قطيع من الآينتاكسفليكا المدمّر ظهرَ هيكله الأسود.

فونيكس نوع التنقل العالي.

وفي تلك المرحلة سقطَ برج المراقبة. حيث انخفضت القوات الدفاعية للقاعدة إلى النصف ، وملأَ جوّ الارتباك استفادة للفيلق المحمول جوًّا واستعمرَ المظلة ساحقًا المدافع المضادة للطائرات ، وبدأ في غزو برج المراقبة.

عند تلقي هذه التقارير ، أمر فيكا بالتخلي عن جميع القطاعات السطحية وتحت الأرض ، باستثناء جناح القيادة. وأثناء سدّ الممرات المؤدية إلى السطح بشكلٍ منهجي عبر خفض الحواجز واحدًا تلو الآخر ، لجأَ جميع الأفراد الناجين وفيلدري ßإلى جناح القيادة والحظيرة الثامنة على التوالي ، ودخلوا في حالة حرب طويلة مع وحدة الفيلق ، التي قمعت واستولت على بقية القاعدة.

-

حفيفُ تنهد خرجَ من ثغر شين بعد سماع ملخص وضعهم.

" ما واجهته السايرينات خلال جولة الاستطلاع السابقة كان فيلق استطلاع معادي... إذا كان هناك مسارٌ مناسب لغزو قاعدة جبـل التنيـن فانـغ ، فهو يعني أيضًا بمثابة مسار غزو لهم أيضًا علينا. كان يجب أن أدرك. ناهيك عن وضعنا الحالي."

إنّ استخدام الزينتور للتحكّم في القاعدة الرئيسية بهجومٍ واحد تكتيكًا مستحيلًا بشكل أساسي. لأنّه يمكن بسهولة اكتشاف الطائرات الشراعية ذات سرعات الانطلاق البطيئة للغاية ، وظلالهم العملاقة بواسطة الرادار. بالإضافة إلى ذلك يقدّر الحد الأقصى للإطلاق من الزينتور بحوالي عشرة أطنان... مما يعني أنه كان قادرًا على إطلاق ألغام ذاتية الدفع فقط و أمايزي ، والذين لن يكونوا قادرين على قمع قاعدة محمية بشدة.

ولكن إذا كان الزينتور سيطلق فونيكس الأخف وزنًا من أمايزي ، والحامل صفات قتالية أكبر من جروولف ، مع استخدام الآنيتاكسفليكا لعكس جميع الموجات الضوئية والإلكترونية... فلا شكّ من حدوث هجوم مفاجئ مثالي.

هذا اعتداء غير مسبوق ولكن جميع هذه المعلومات معروفة مسبقًا. لذا كان بإمكانهم توقّع ذلك.

"ــــ تحليل تكتيكات العدو والتنبؤ بها هي... وظيفتي كقائدة. لا تدع هذا يزعجكَ يا شين."

انسكبَ رقّةُ صوت يشبه الجرس الفضي إلى المحادثة ، ليجد شين نفسه مخرجًا نفسًا عميقًا غير مسموع. لينا. صحيح أنّه سمع مغادرة الجميع في الوقت المناسب ، لكن...

" لا ينبغي أن يزعجكِ هذا أيضًا الآن يا ميليزي... ولدي شعور بأنّ هذا شيء لم يكن بإمكان أي منا أن يفعل شيئًا حياله. ربما من الممكن تقنيًا للفيلق أن يفعل ذلك ، لكن هذه القاعدة ليس لديها قيمة تكتيكية أو استراتيجية كافية للفيلق للتنفيذ ، لا نوزين ولا أنا ولا أنتِ عشنا حربًا يتعرض فيها المرء للهجوم من السماء."

لم يستخدم الفيلق أسلحة جوية. وبينما أدرك شين ومجموعته الذين لم يعرفوا شيئًا سوى الحرب مع الفيلق ، أنّ السماء يمكن أن تكون طريقًا للغزو ، إلا أنهم لم ينظروا إليها حقًا على هذا النحو. وأولئك الجنود النظاميون الذين تذكروا الحرب التي استُخدمت فيها الأسلحة الجوية ماتوا في المعركة.

بعد تنهدٍ قصير ، تابع فيكا.

" والآن إذن. نظرًا لأنه يمكنكَ سماعهم ، أتخيل أنّ لديكَ بعض الفهم للموقف ، لكنني سأشرح لك أيضًا. أولاً ، من المحتمل ألا يكون هناك أي إطلاق إضافي لقوات الفيلق المحمولة جوّاً. حيث قضت مدفعيتنا العسكرية على الزينتور ، وجميع نقاط الإطلاق المحتملة الأخرى تقع في نطاقها. لذا سيقمعون بمجرد ظهورهم لإطلاق المزيد من قواتهم."

وفقًا لتقديرات الجيش الفيدرالي ، فإنّ نطاق إطلاق الزينتور يقدر بثلاثين كيلومترًا ، وهو ما يتناسب تمامًا مع نطاق الرماية الفعال لمدافع الهاوتزر.

" التالي هو وضع جيشنا. اعتُرِضت قوة الاستطلاع المرسلة إلى مناطق الفيلق وقضي عليها. من ناحية أخرى ، فإنّ قوات الفيلق التي غزت أراضينا تعطّلت حاليا بسبب توزيعات فيالقنا المتبقية."

جعد شين جبينه مستفهمًا.

"... قضي عليها؟ "

حتى لو كانوا راضين بسبب ميزة التسهيلات الدفاعية القوية والموقع الجغرافي المتميز ، فإنّ هؤلاء كانوا لا يزالون جنودًا للجيش الذي دفع الفيلق إلى الوراء لأكثر من عقد من الزمان. لم يكونوا ضعفاء لدرجة أنهم سيقضى عليهم بمجرّد وقوعهم في الفخ.

" وفقًا للتقرير النهائي الذي أرسله القادة الذين واجهوهم ، كان لدى الفيلق تركيز من أنواع الوزن الثقيل مخبّأ في أعماق أراضيهم. لقد واجهوا وحدة مدرعة تتكون من لوي وديناصوريا."

انسابَ جفنيه بإغماضٍ لا إرادي. متذكّرًا الديناصوريا من بين كل الأشياء. النوعُ المعروف بوحشٍ معدني مع برج دبابة متين للغاية مقاس 155 ملم وإطار ضخم بوزن يتجاوز مائة طن ، إلى جانب إمكانية المناورة المهولة. إذا كانوا يواجهون مجموعة من تلك الآلات ، والتي لا يمكن أن يضاهيها وجود فيلدريß... ليس من الصعب على شين تخيّل قواهم تسحق مثل النمل.

" من المحتمل أن يكونوا قد اختلطوا مع خطوط الإمداد من الخلف وبدّلوا الأماكن تدريجياً مع أنواع الوزن الخفيف. مما يعني أنّ الفيلق كان يخطط لهذه العملية لفترة طويلة."

سمحت قدرة شين بتتبّع أعداد ومواقع الفيلق ولكن دون التمييز بين أنواعهم. هذا يعني أنه إذا كانوا يغيرون قواتهم في عمقِ أراضيهم تحت تشويش الآينتاكسفليكا ، فسيكون من المستحيل عليه معرفة ذلك.

" أبلغنا المقر العسكري على وضع القاعدة ، ولديهم قوات احتياط جاهزة للانطلاق في أي وقت ، لا ننسى أنّ الفيلق نفسه محاصر من قبل العدو أيضًا. وعلى ما يبدو ، سيستغرق الأمر خمسة أيام على الأقل حتى يتمكنوا من اختراقِ أعدائهم والوصولِ إلى القاعدة."

"………"

بمعنى آخر ، الوضعُ لكلا قاعدة قلعة ريفيتش وحزمة الضربات المتنقلة منعزلين حاليًا عن قواتهما الصديقة ، ومحاصرين من قبل العدو.

"...تلقيتُ أخبارًا سيئة من طرفنا أيضًا. وحدات الفيلق المدرعة التي قضت على قوة الاستطلاع تتجه إلى ريفيتش. يقدّر عددهم بثمانية آلاف. وما تبقى من قوات الاستطلاع هو محاولة تعطيلهم ، لكنهم لن يستمروا طويلاً. حتى الإضافة في الوقت الذي سيحتاجون فيه إلى إعادة التجميع وإعادة التخزين... سيصلون إلى القاعدة غدًا."

تنفّس فيكا بصوتٍ مسموع أرخاهُ بتنهيدةٍ عميقة وغير سارة على الإطلاق.

" نعم ، لستُ مستغربا من وقوعنا بهذا الحال... كما ميول قدرتك على خنق أي احتمالات للتفكير بالتمني هي مزعجة في مثل هذه الأوقات. إنّ كاساندرا التي يمكنها تقديم نبوءات مشؤومة ولكنها دقيقة ستقابل فقط بالكراهية والازدراء."

| قصدَ شين نعت فيكا بكساندرا الفتاة من الأساطير الإغريقية التي تتنبّأ بالشؤم كحال فيكا ، وكما انتهى أمرها بالكره فسيحدث لفيكا ذلك.

" بلغَ عدد الفيلق في القاعدة الآن ما يقرب من ألفِ..."

" كفى."

تجاهلَ شين كلمات فيكا الكئيبة والمستمرة.

" أعتقدَ أنّ معظمهم ألغام ذاتية الدفع ، لكن... ماذا كان هناك أيضًا؟ فقط أمايزي؟ "

كانا النوعان الوحيدان اللذان شوهدا احتلالهما المنطقة.

" بقدرِ ما التقطته الكاميرات التي لا تزال تعمل ، نعم هذا صحيح... لكننا أكدنا أنهم أطلقوا أيضًا عدة حاويات مخزنة ممتصّة للصدمات. لا نعرف ما تحتويه في الوقت الحاضر. إذا سمحنا لأنفسنا أن نكون متفائلين ، فهي مجرد ذخيرة وحزم طاقة."

" ألا توجد طريقة لإرسالِ استطلاعٍ آخر ، أيمكننا…؟ "

" آسف. القطاعات العلوية تحت الأرض جميعهم تخضع لمراقبة الفيلق ، سيتمكنون من إمساك أيّ استطلاع قبل وصولهم حتّى إلى السطح."

" كم من الوقت المقدّر حتى يخترقوا أقسام جناح مبنى القيادة؟ "

" لعلّه قد هرِم بعمرِ خدمته الطويل لكنّه ما زال مصنوع للحصار. ليس لديكم ما يدعو للقلق... هذا ما أود قوله ، لكننا سننتظر الآن."

" لدينا سرب بريسينجامين والأسراب الأربعة بقيادة الملازم الأول شوجا بجانبنا. يجب أن يكونوا قادرين على الاحتفاظِ بالقلعة... لا تقلق."

سماع لينا تشعر بالقلق عليه عندما لم تكن في وضع يسمح لها بالقلق بشأن أي شخص آخر بدا غريبًا بالنسبة لشين. كانت هي والآخرون الذين عادوا إلى القاعدة هم الأكثر عرضة للخطر الآن.

" أنا متفهّمٌ للوضع... والآن ماذا نفعل؟ "

أدلى فيكا بنبرةٍ ساخرة.

" أليس هذا واضحًا…؟ هناك شيء واحد فقط لفعله."

شعر شين بابتسامةٍ باردةٍ نُسجت من الجانب الآخر من الرنين. ابتسامة مُرّة قليلاً ، ممزوجة بدرجاتٍ متساوية من الخوفِ والقسوة.

" نحن نخوض معركة حصار."

-

تتميزُ الوحدة المدرعة في حزمة الضربات المتنقلة بطابع تنفيذ العمليات بشكلٍ مستقل ، وأغلبية أفرادها القتاليين هم من الستة وثمانون الذين لا يعرفون سوى المعارك على نطاق الأسراب ، وعليه فقد قُسّمت إلى أربعة عشر كتيبة لديها تنظيم فريد ومنقسم.

كان قباطنة الكتيبة باستثناء شين الذي شغل منصب القائد العام ، هم الأربعة عشر عضوًا والمخضرمين ، بما فيهم ضباط سرب رأس الحربة الأقدم رتبة وكبير ضباّط الصف في اللواء بيرنهولدت. كما مثّلت ليرش السايرينات وعلى الجانب الآخر من الرنين تواجد لينا وفيكا ورايدن. أقام قادة الكتيبة معسكرًا في غابة تطل على قاعدة قلعة ريفيتش وكانوا حاليًا في حاوية عربة مدرعة بمثابة غرفة اجتماعات مرتجلة.

بعد فوات الأوان ، أدرك شين أنه من حسن الحظ لأنجو وداستن لوقوعهما بمحنةٍ قبل ثلاثة أيام. حيث أفادت ضربة الحظ بتأخر وقت صيانتهما وبالتالي تأجيل رحيلهما عن الوقت المبكر المقرّر لوحدتهم. ولو كان غير ذلك لكانت مجموعة رايدن قد غادرت القاعدة قبل هجوم الفيلق ، مما يجعل من الصعب الدفاع عن الجانب الذي ظلّ محاصرًا. كما أنّ ملاحظتهم للفخ الذي سيغلق طريقي الخروج لو انهاروا معه سمحت لهم بتعطيل الآخرين في وقتٍ مبكر من العملية.

نظر شين إلى خريطة ساحة المعركة الموضوعة على طاولة قابلة للطي ومغطاة بغطاءٍ شفاف موضّحة بالتفصيل مواقعهم ومواقع العدو ، وقتئذ همس قائد السرب الرابع والملازم الثاني يوتو كرو "...هذا هو أسوأ وضع ممكن."

سقطت قاعدتهم الرئيسية وعُزلوا في وسط أراضي العدو. ستصل التعزيزات الودية في غضون خمسة أيام فقط على أقرب تقدير ، وستصل تعزيزات العدو في وقتٍ أقرب منهم...

" وفقًا لاستطلاعك ، فإنّ تعزيزات الفيلق يبلغ عددها ثمانية آلاف ، وأقرب موعد لوصولهم هو غدًا... مما يعني أننا سنضطر إلى الضغط بين جدران القاعدة ووحدتين مدرعتين بقوة ثمانية آلاف من نوع لوي وديناصوريا."

" يبلغ عدد قواتنا الستة آلاف باحتساب الألكونوست. كما أنّ نوع فونيكس الذي لم يتمكّن حتى الكابتن نوزين من هزيمته يجلس داخل القاعدة..." فرّغت الملازمة الثانية ريكي ميتشي قلقها المكبوت بينما واصلت " نظرًا لأننا أقلّ عددًا منهم ، يجب أن نتجنب محاربتهم على جبهتين... هل ننطلق للاشتباك مع وحدات العدو المدرّعة بشدة ونحاول تدميرهم أو إجبارهم على التراجع؟ "

" على العكسِ تمامًا ، الملازمة الثانية ميتشي. لا يمكننا التركيز على اعتراض الوحدات المدرّعة بشدة."

ردّت لينا على كلمات ميتشي عبر الرنين لتتّسع عيناها بلمعةٍ مفاجئة.

" لا جدوى من هزيمة تعزيزات العدو إن تمثّل هدفنا بالتغلب على الوضع الراهن. ولن تساهم كثيرًا في كسر حصار العدو. وهذا الفعل لا يقتصر على استنزاف قواتنا هباءً فقط ، بل سيؤدي أيضًا إلى دفع الفيلق إلى إرسال المزيد من قواته."

عبسَت ملامح ريتو وحكّ حواجبه.

" هدفنا…؟ ألا يكفي هزيمتنا للفيلق فقط ، وهذا كل شيء...؟ "

" لا. هدفُ العدو هو احتلال قاعدة قلعة ريفيتش ، ولهذا السبب يقومون بإغلاق المناطق المحيطة وإرسال تعزيزات. لذلك وجب أن يكون هدفنا منع مخططاتهم... بعبارةٍ أخرى استعادة القلعة."

-

وقتئذ أمالَ ثيو رأسه متحدّثًا من خلال الرنين.

" إذن... أنتِ تطلبين منا مهاجمة القاعدة ، لينا؟ "

" هذا صحيح ، الملازم الثاني ريكا... ولكن في ظل حالنا هناك استراتيجية حصار أساسية واحدة يمكننا تبنيها."

كان للجانب الذي يحتضن القلعة في معارك الحصار له الأفضلية. وعُرفت القلاع بمنشآتٍ عسكرية مصممة لمنع تسلل العدو. شُيّدت بدقة في ساحات معارك محددة من شأنها أن تضع الجانب المحاصر في ميزة. وأسوار القلعة خيرُ مثال حيث تقوم بتحريف سهام العدو أثناء تجهيزها بالعديد من الأجهزة والمخططات للسماح للجانب الذي يمتلك القلعة بإمطارِ نيرانٍ مركزة على العدو.

لذلك يتبنّى الجانب الذي يقوم بالحصار تكتيكًا يتجاهل الأسوار إن أمكن. مثل المخططات التي دفعت قوات الاحتلال للخروج. أو تكتيكات التجويع ، على الرغم من أنّ هؤلاء غالبًا ما يضعون الجانب المفتعل للحصار في وضع غير مواتٍ إذا كان لدى الطرف الآخر مخازن بضائع تنتقل إلى الداخل. تضمنت التكتيكات الأخرى تدمير الأسوار وحفر الأنفاق لحرق الأسوار واستخدام الكباش والمنجنيقات ذات الثقل الموازن لتكسير الحصن.

لكن لم تكن أي من هذه التكتيكات قابلة للتطبيق في هذه المعركة ؛ بسبب تحصّن الفيلق من أي تفاوض وترهيب. سوف يتجاهلون أي استفزاز ولن يستسلموا أبدًا لضجر الحرب. نظرًا لأنه لم يكن لدى أي من الجانبين خط إمداد لدعمه ، فإن الاعتماد على الاستنزاف سيكون سيفًا ذا حدين ، وكانوا يفتقرون إلى الوقت للقيام بذلك على أي حال. أخيرًا ، كان من المستحيل شق طريقهم إلى قاعدة محمية بالجرانيت موضوعة على قمة منحدر آنذاك.

ومع أخذ كل ذلك في الاعتبار ، بقيت طريقة واحدة فقط. لا بد أنّه خمّن ما أرادت لينا قوله ، فأجاب شين بصوتٍ خشن قليلًا :

"...علينا استعادة القلعة."

اختراقٌ قسري عبر الأسوار. إنه التكتيك الأسهل والأكثر استخدامًا لتسلق الجدران مثل النمل بحثًا عن الطعام. والأقل مهارة بخسارة أكبر عدد من الأرواح.

" نعم... سأجعلكم تتسلقون جرفًا بارتفاع مائة متر بالإضافة إلى جدران بارتفاع عشرين متراً."

-

ساد صمتٌ مهيب في قاعة الاجتماعات المرتجلة للحظة. سواء كانت نماذج الجمهورية أو النماذج الفدرالية ، فإن طراز الجاغرنوتز للستة وثمانون مخصصًا لمعارك المناطق الحضرية أو الغابات. واستخدمت للحركات الرأسية عبر مثبتات الأسلاك. لكن... صعودًا يزيد عن مائة متر! لن يكونوا قادرين على تسلق تلك المسافة في حدٍّ واحد ، خاصةً عند تعرضهم لنيران العدو والألغام ذاتية الدفع التي تهاجمهم في طريقهم إلى الأعلى.

" هذا سيكون..."

" صعب. سنتكبد خسائر فادحة."

اشتكى ريتو بوجه شين ، ووافقه يوتو بملامحٍ مشدودة. ثمّ قال رايدن بهدوء عبر الرنين:

" ما رأيكَ أن تنسى القاعدة وتتراجع؟ "

" ترك القاعدة كما هي والانسحاب أمرٌ غير وارد. حتى لو تراجعنا ، فليس لدينا الإمدادات لإعادة تجميع صفوفنا مع القوة الرئيسية."

قطع شين ببساطة اقتراحه. كان الهدف من تبادل الأسئلة والأجوبة إبلاغ المعالجون بالموقف. لقد قاتل الستة وثمانون في بيئةٍ غير عادية للجنود ، ومفهوم الحرص على خطوط الاتصال والإمداد غير مألوف لهم. لم تكن لديهم أي خبرة في السير خلال المعركة لعدة أيام. لماذا يجب استعادة القلعة؟ لن يأتي شيء جيد من جعلهم يقاتلون دون فهم سبب احتياجهم لاستعادة القاعدة.

تجاهل شين النية المخفية وراء هذا السؤال. إذا لم يكن لديهم فرصة ، فقد يتخلون عن القاعدة. لكنهم لن يفعلوا ذلك أبدًا مهما حدث.

" سنجعل استعادة القاعدة أولويتنا وكسب الوقت ضد وحدات الفيلق المدرعة بطريقة تكتيكات المماطلة. هذا صحيح ، عقيد؟ "

تكتيكات المماطلة. استراتيجية تضمنت إعاقة تقدم العدو مع تجنب الصراع المباشر وإبطاء حركته. نظرًا لاعتماده على تكرار هجمات الكر والفر ، فقد تطلب مسافة كبيرة بين العدو والهدف الذي سيدافع عنه ، ولكن بناءً على الموقع الحالي لتعزيزات العدو ، يجب أن يكونوا قادرين على السيطرة لبضعة أيام .

" نعم."

" أيها الرقيب ، أنا أضع نصف جنودنا وكتيبة المدفعية تحت قيادتك. سأجعلك تتعامل مع تعزيزات العدو ، حسنًا؟ "

" نعم ، لقد تجهزت لهذا الوضع."

أومأ بيرنهولدت برأسه غير مبال. كان الستة وثمانون من الضباط من الناحية الفنية ووضعوا تحت قيادة ضابط صف. كان هذا موقفًا لم يكن ممكنًا في الجيش النظامي ، لكن الستة وثمانون والمرتزقة فقط رأوا الرتب على أنها وسام في البداية. كما لم يعترض قادة الفرقة المُجمعة على أي اعتراض.

" خمسة أيام. استهدف كسب الوقت حتى وصول التعزيزات ولا شيء غير ذلك. لا تفكر حتى في محاولة إخراجهم."

" هذا غني عن القول يا قائد... ولا تتسرعوا يا رفاق بكلِّ حماسة مثل الحمقى وتقتلوا أنفسكم أيضًا. سنشعر وكأننا أغبياء لحمايتكم."

ربما بسبب طبيعة الوضع الذي كانوا فيه ، سمح بيرنهولدت لنفسه أن يقول ذلك. هزّ شين كتفيه على ضابط الصف المخضرم الممازح بوقاحة بنكتةٍ احتوت على تحدٍّ ، ونقل بصره إلى قادة الفرق الأخرى.

" سوف يشارك كل من الجاغرنوتز والألكونوست المتبقين في استعادة القاعدة... ولا يمكننا إضاعة الوقت في هذه الخمسة أيام. علينا استعادة تلك القاعدة قبل القضاء على الأشخاص في جناح القيادة."

-

بعد تحديد تفاصيل العملية ، بدأت مجموعة لينا داخل القلعة ومجموعة حزمة الضربات المتنقلة بالخارج في العمل. مع أخذ الاستطلاعات الليلية في الاعتبار ، اختلط أفراد قيادة القاعدة بطاقم التحكم في فاناديس. كان للمعالجين رنينٌ مع السايرينات في غرفة التحكم ، وانطلق أي جنود ناجين لتأمين الممرات. كانت مجموعة رايدن على أهبة الاستعداد في حظيرة الطائرات ، والتي بمثابة أكبر طريق غزو محتمل.

واتصلت جريث من العاصمة تبلغهم عن اتخاذ الاستعدادات لإرسال قوات الاحتياط.

" بدأ الفيلق في الاقتراب من كل مكان على الجبهة الجنوبية الثانية ، حيث أنتم جميعًا. لقد قرر جلالة الملك وولي العهد أنّ هذا ليس الوضع الذي يمكنهم فيه تحمل البخل مع الاحتياطيات."

" شكرًا لكِ العقيد وينزل."

"...نحن نقدر الرسالة ، لكن... سأحرص على توبيخ الأب والأخ زافار وإخبارهما باستخدام ضباط عسكريين من دولة أخرى كأذنابهم لمجرّد أنهم مشغولون ، أيتها العقيد."

في الخارج ، باشرت الجاغرنوتز في التحرك لهدف اعتراض الوحدات المدرعة الثقيلة أو محاصرة القاعدة. قال شين مع مسامير التسلق الحديدة المعلقة بأقدامهم مما يضيف صوتًا مميزًا لخطواتهم كخلفية له:

" العقيد ميليزي. فيكا. هل يمكنني ترك قيادة القوة الكاملة لكم؟ أنا أعرف فقط بعض الاستراتيجيات عندما يتعلق الأمر بمعارك الحصار. ولكنني لم أنخرط فيه لأكون صادقًا."

"...نعم ، كنتَ طفلاً في أكاديمية الضباط الخاصة. تعال لنفكّر في الأمر ، الضابط الذي حصل على أسرع ترقية لا يعرف."

أثناء حديث فيكا ، غادر مستودع الذخيرة في جناح القيادة ، فاحصًا تشغيل سلاح ناري ثقيل يشبه الرمح مع حركات تمرن عليها. فكرت لينا في أنّ عائلة إديناروك كانت حقًا سلالة عسكرية. كان مدفعًا عيار 20 ملم مضادًا للدبابات ، وهو أحد أقدم الأسلحة المضادة للدبابات لاستخدام المشاة ، ومجهز بكميات كبيرة من الوقود الدافع وبرميل طويل لمنح رؤوسه الحربية السرعة متجاوزة الصوت واللازمة لاختراق الدروع. وهو سلاح عفا عليه الزمن بسبب ظهور مدافع عديمة الارتداد تكون أخف وزنا وأكثر قوة من دروع الدبابات.

 ولكن على عكس البنادق عديمة الارتداد المذكورة ، والتي لا يمكن استخدامها في الأماكن الضيقة غير القادرة على استيعاب ألسنة اللهب التي يبلغ طولها عدة عشرات من الأمتار ، فإنها لا تشتت أي شيء سوى إحداث دويًا عاليًا. لكن هذا السلاح لا يزال قابلاً للاستخدام هنا في جناح القيادة ، بممراته الضيقة العديدة.

بعد الانتهاء من فحصه ، سلّم فيكا اثنتين من هذه البنادق ذات الخمسة عشر كيلوغرامًا إلى أحد الحرس الملكي واستمر في الحديث وهو ينقلها معه من مركز القيادة لتثبيتها في الممرات.

" صحيحٌ ربما أكون قد درست على مستوى أكثر منهجية قليلاً ، لكن ليس لدي أي خبرة في معارك الحصار أيضًا. على الرغم من أن لدي خبرة أكثر مما كنت أتمنى أن أكتسبها عندما يتعلق الأمر بتخطيط محيطكم. "

" طالما أنكَ درستها على أي مستوى منهجي ، فستظل تعرف أكثر مني. لدي خبرة في الاحتفاظ بالمراكز ، لكن لا يمكنني التخيل أن أكون في الجانب الآخر."

" نعم من المفترضْ."

"…لكن ـــ"

لاحظت لينا شيئًا وفصلت شفتيها لتتحدث. حتى لو لم يكن لدى شين الذي كان لديه أكثر خبرة من بين الستة وثمانون المعرفة عن هذا الموضوع ، فذلك يعني...

" إذا كان الأمر كذلك ، ألا يعني... أنّ الفيلق لا يعرف كيف يقاتل داخل هذه القلعة؟ "

وقتئذ تحوّلت عيناه البنفسجية إلى اتجاهها.

" بما في ذلك الموجودين في القلعة ، يُفترض أنّ معظم الفيلق هم كلاب الراعي."

" نعم. آلات الجنود الأذكياء مصنوعة من خلال استيعاب الشبكات العصبية لمواطني الجمهورية."

المواطنون الجمهوريون الذين لم يتمكنوا من القتال وانتهى بهم الأمر إلى أخذهم من قبل الفيلق ، وبالتالي تعزيز صفوفهم بشكلٍ لا إرادي.

" لذا هذا يعني أنّ المدنيين الذين ليس لديهم أي خبرة قتالية حُوّلوا إلى جنود. قد يكون ذكاءهم مساويًا لذكاء الإنسان العادي ، ولكن إذا كان الأمر كذلك ، فلا ينبغي أن يكونوا قادرين على تأدية أي شيء لا يعرفونه بشكل صحيح."

لقد عزل مواطنو الجمهورية أنفسهم في سلامٍ زائف ، وتعاملوا مع الحرب المحتدمة خارج الجدران وكأنها فيلم سينمائي. حتى أن معظم جنود الجمهورية لم يطلقوا النار مطلقًا. وغالبية الرعاة الذين قادوهم كانوا على الأرجح من الستة وثمانون أيضًا.

كانت الجمهورية هي الدولة الوحيدة التي تركت الجثث دون رقابة ، مما سمح بجمعها في كوادر الفيلق. اتخذت الفيدرالية والمملكة المتحدة والتحالف جميعًا تدابير كبيرة عندما أدركوا أن الفيلق كان يأخذ قتلى الحرب.

بادئ ذي بدء ، بذلت تلك البلدان كل قوتها وطاقتها في مقاومة الفيلق ببسالة ، حتى خارج المعركة ، واستردت الجثث والمصابين بأي ثمن. إذن كان من السهل التخيل ، أنّ الستة وثمانون ، الذين لم يتلقوا المساعدة أبدًا وكانوا يفتقرون إلى القوة البشرية ، ومُنعوا من جمع جثثهم في ذلك الوقت ، كانوا العنصر الرئيسي الذي استخدم في إنتاج الخراف السوداء والرعاة.

وهؤلاء الستة وثمانون كانوا جنودًا أطفالًا لم يتلقوا أبدًا تعليمًا ابتدائيًا ، ناهيك عن التعليم العسكري. على الرغم من ثراء خبرتهم في هذا المجال ، فلن يكون لديهم أي معرفة بفرض الحصار. وينطبق الشيء نفسه على الفيلق في حالته الطبيعية ، والذين هم مجرد جنود يطيعون أوامر الإمبراطورية. ربما قاموا بتجميع وتحليل إحدى عشر عامًا من الخبرة القتالية ، لكنهم لن يكونوا قادرين على تحليل شكل من أشكال القتال لم يختبروه من قبل.

ومعركة الحصار هي تكتيكًا عسكريًا لم يستخدم منذ أكثر من قرن ، مع نمو المدفعية بعيدة المدى وإدخال الأسلحة المحمولة جواً. سيسجّل فقط كمعرفة بشيء كان موجودًا من قبل.

"…فهمت. لذلك من حيث المعرفة ، لا تزال لدينا اليد العليا."

ضاقت عيناه في الظلام وابتسم ابتسامة قاتمة. ابتسامة سعيدة طاغية مستبدّة.

" قد تكون فرصة ذهبية لتعليم هؤلاء المواطنين المسالمين العاديين ما يمكن أن يتمتع منه القادة من دناءة وشرّ. في هذه الحالة ، اتركوا لي المهمة السيئة المتمثلة في قيادة الدفاع عن جناح القيادة... ميليزي ، تولّي قيادة الحصار في الخارج. سأقوم بنقل امتيازات القيادة الكاملة من السايرينات إليكِ."

" نعم. كابتن نوزين ، لقد سمعته."

" عُلمْ... شكرًا جزيلًا لك."

ثمّ قالت جريث: " يمكننا التعامل مع عمليات المحاكاة والتحقيقات في هذا الجانب ، لذا أرسل أي استفسار تريده... وأيضًا..." بدت مترددة قبل التحدث مرة أخرى:

" رسالة من جلالة الملك... ليست هناك حاجة لإنقاذ الأمير فيكتور. إذا كان عليكم التخلي عنه ، فلن تحاسب الفيدرالية أو حزمة الضربات المتنقلة..."

صُدمت لينا مؤقتًا. مستحيل. جلالته وملكوته هو أيضًا والد لفيكا. في المقابل هزّ فيكا كتفيه على وضوح الأمر.

" من المنطقي أن يقول ذلك. أنا جندي ، وهذه ساحة معركة المملكة المتحدة. إذا كان سيحملكم المسؤولية ، فسيكون أضحوكة لأجيالٍ قادمة."

-

" أعتقد أنّ هذا غريب نوعًا ما." قالت أنيت لتجذب انتباه جريث التي أوقفت تشغيل البـارا ريـد. كانوا في غرفةٍ في قلعة روا جراسيا الملكية.  إنّ وجودهم هنا باهظًا ومريحًا لدرجة جعلتهم يشعرون بالذنب بينما كانت لينا والآخرون في وسطِ أزمة.

" بغضّ النظر عن هدفهم ، فقد تمكنوا من تحديد مجموعة الضربات ومهاجمتها مرة أخرى بدقة." واستطردت أنيت: " يبدو أنهم يقرؤون تحركاتنا جيدًا."

أومأت جريث موافقة. قاعدة ريفيتش هي مركزُ مراقبة أمامي في المملكة المتحدة تطل على الأراضي المنخفضة. لم يكن لها أي قيمة تبرر مهاجمتها من قبل الفيلق. في هذه الحالة ، هدفهم هنا هو حزمة الضربات المتنقلة وكان الأمرُ غريبًا في حد ذاته.

" ما هي احتمالات اعتراض الإدراك الحسي؟ " سألت جريث أنيت بهدوء.

" ضئيلة إلى لا شيء... لا أستطيع أن أقول أنه من المستحيل على الفيلق ذلك بالنظر إلى أن السيرين ، المصنّعين أيضًا بنسخٍ من الشبكات العصبية البشرية يمكنهم فعلها. ولكنك تحتاج إلى أن تكون إعداداتك متوافقة مع هدف الرنيـن."

" ربما الفيلق يستشعر موقع القائد كما يستطيع هو سماعهم؟ "

" هذا أمرٌ مجهول في الوقت الحالي... ولكن هناك تفسير أبسط."

" نعم."

أرخت جريث أنفاسها المثقلة السجينة وأدلت بصوتٍ يحمل برودة قلب الجندي.

" لا يمكننا استبعاد خيار... أنّ شخصًا ما كان يسرب معلومات من داخل الجيش الفيدرالي."

-

رسَت خطواتها داخل غرفتها المخصصّة كمسكنٍ للمعيشة ، وباشرت بخلعِ زيّها العسكري من قميصِها وجواربها ، ثمّ نظرَت إلى الشيء الذي تمسكه أناملها. السيكادا. جهاز دعم الفكر الذي قدّمه فيكا لتخفيف إجهاد الرنين الحسّي أثر تعاملها مع أكثر من مائة شخص في ذات الوقت. ولم تستخدمه لينا أثناء مهمة الاستطلاع لكونها فترة قصيرة جدًا تواصلت فيها مع القادة فقط.

ولكنها الآن أصرّت على استعماله لضرورة وجود كامل اللواء تحت قيادتها ، ومن شأن هذه الخطوة أن تثقل كاهلها لأعداد الذين سيستخدمون الرنين معها. ومع توقّع أن تكشف المعركة عن أنيابها الشرسة ، فإذا فقدت الوعي بسبب الإجهاد فلن يكون هناك من يقود حزمة الضربات المتنقلة من الخارج. أو ربما سيأتي فيكا الذي سيُضع عليه عبئًا هائل.

جهّزت لينا نفسها بكلماتها " حسنًا " ورفعت شعرها الطويل بأناملها كي تضع السيكادا على عنقها حيث يلامس جهاز الريـد خاصّتها. تتحفّز البلورات شبه العصبية عن طريق ملامسة حرارة جسدها والتيار الكهربائي الحيوي الذي يمر عبر جلدها.

تشغيل جهاز السيكادا المختصّ بالتحكم الفكري.

انفتحت خيوطٌ فضيّة شكّلت حلقة الجهاز منتقلةً من حالتها الصلبة إلى ما بدا وكأنه ثلج متوهّج. وتفرّعت إلى عددٍ لا يحصى كخيوطِ العنكبوت وبسيلٍ من ضوءٍ يتمشّى على ظهر لينا ناصع البياض. وقتئذ أضاءت الخيوط الفضيّة بضوءٍ بنفسجيٍّ باهت وتكاثروا بسرعةٍ متفجرة تزحف إلى الأسفل وعلى كتفيها وذراعيها.

" نغه..."

راودها إحساسٌ غريب ودغدغة كمداعبتها لطرفِ ريشةٍ لامست جلدها أو تتبّعها برفقٍ من طرفِ لمسةِ إصبع شخص.

" آنغ... آه...!"

استمرّت الخيوط في التكاثر الذاتي وزحفوا عليها حتى احتضنوها بالكامل ، من رقبتها إلى أسفل قبل أن يتوقفوا. ثمّ برزَت النتيجة النهائية لباسًا يغطي جسدها مثل بدلة ضيّقة نوعًا ما.

صُنعت الخيوط الفضية المتشابكة بشكلٍ معقد راسمة نمطًا بيولوجيًا على سطحها ، من أليافٍ شبه عصبية بخاصية التكاثر الذاتي. واستخدمَ الجهاز التيارات الكهربائية الحيوية لمن يرتديها كمصدرٍ للطاقة ، مشكلاً شبكة شبه عصبية تغطي الجسم عن طريق الألياف وبتطويرٍ من دماغٍ تكميلي اصطناعي خارج الجمجمة.

ولعلّ ما حدث بعد فتحها لعيناها كان جزءٌ من نعمة قوتها الداعمة ، حيث بدا مجال رؤيتها أوضح قليلًا من ذي قبل. أخذت لينا نفسًا واحدًا ورفعت رأسها في الغرفة ذات الإضاءة الخافتة.

-

كما لم تتمكّن أذرعها على العبورِ عبر أكمام زيّها لسماكة الجهاز الملفوف حولها ، وشعرت بالضيقِ حول كتفيها ، لذلك ارتدت فقط مضخاتها وعادت إلى مركز القيادة. كان انتشارُ الجهاز أرقٌّ حول ساقيها ، اللذان كانا أبعد ما يكون عن نقطة انطلاقه ، لذا فإنّ سمكه يقارب لسمكِ جواربها التي خلعتها ، مما سمح لساقيها أن تتناسب مع ارتداء الحذاء دون مشاكل.

عندَ نقر كعبيها ، التفَ فيكا باتجاهها بينما تخلّت فريديريكا الطفلة عن مقعدها ووقفت بجانب نائب القائدة. على محياهما تعبير غريب وصامت للحظة.

" نعم... همم... أنا آسف. كل هذا خطأي."

"……!"

حدّقت لينا في الأمير الذي سمعت اعتذاره المتأخر وتصرّفه المؤدّب الآن. وعلى غير العادة أشاحَ فيكا نظراته عنها وهو يتصبّب عرقًا بارد.

" لأكون صادقًا ، جعلت ليرش تستخدمه أيضًا عند الضرورة... لكن هممم ، حسنًا في الواقع. أُدركُ الآن أنّ الأمر لم يكن جيدًا إلّا لأنها... أكثر تواضعًا منكِ بكثير... "

" ما المفترض أن تعنيه ؟! "

" أنتِ... موهوبة جدًا."

" موهوبة بماذا ؟!"

حتى فريدريكا حمَلت تقاسيم يرثى لها وهي تناظرهما.

" يبدو أنّها خطّة من نوعٍ ما من هذا الأحمق لكنها سيئة حتى تركته في حيرة بسبب... إيه... أنّه مظهر إغراء لعيون الرجل."

حاولت انتقاء كلماتها بعناية ، ولكن لا مفرّ من إصابة لينا بصدمة أكبر. شعرت كما لو أنه قيل لها في وجهها أنّها تتجوّل بشكلٍ غير أخلاقي.

السيكادا ـ جهاز دعم الفكر. هو جهاز حاسوبي يشبه البدلة المتكوّنة من أليافٍ شبه عصبية.

ومع ذلك ، نظرًا لأنها تعمل باستخدام التيار الكهربائي الحيوي لمن يرتديها كمصدر للطاقة ، وبما أنّ الألياف شبه العصبية ليس لديها أي وسيلة للحفاظ على وضعيتها ، فلا بدّ من انتشارها فوق الجلد. مما يعني أنه بصرف النظر عن التصاقها بالجسم ، كان على المادة أيضًا أن تدعم نفسها على أنسجة جسدها.





بعبارةٍ أخرى ، كان صدرها يتأرجح عند تحرّكها .

تجنّب جميع أفراد القيادة النظر إليها وهربوا بأوجههم بعيدًا بشكلٍ متحفظ وإن كان حضورها صارخًا ، وقد سقط بصرها على شابٍّ على وجه الخصوص التصقت عيناه  بشدة على الشاشة أمامه.

"...الملازم الثاني مارسيل ، لماذا ترفض النظرَ إليّ...؟!"

ورغم استفسار العقيد لم يحرّك مارسيل عينيه بعيدًا عن الشاشة مطلقًا.

" أيتها العقيد ، هل يمكنكِ رجاءً ألا تحكمي عليّ بالإعدام ، حتى لو كنتِ دون قصد؟ إذا استدرتُ الآن ، فسوف يقتلني نوزين بالتأكيد."

" م- ما علاقة شين بالأمر...؟!"

غزتها حمرة فاقعة جعلتها أكثر إحراجًا عند سماع اسمه.

" حسنًا... كما تعلمين. على أي حال ، سنحاول أن نوفرَ لكِ زيًا أكبر للعملية التالية ، يا صاحبة الجلالة."

اقتحمت شيدن الرنين متحدّثة بصوتٍ عاطفي لم تستطع قمعه. بينما غادرت فريدريكا بصمتٍ وعادت بعدها بسترةٍ رجالية سميكة بلونٍ أزرق فولاذي ، ولفّتها حول أكتاف لينا.

-

كانت لينا قد قطعت رنينها لفترة من الوقت لإجراء استعداداتها حول انتشار سرب رأس الحربة وفي النهاية أعادته قائلة :

 " إلى جميع أعضاء حزمة الضربات المتنقلة. أعتذر عن انتظاركم."

" لا بأس... كولونيل؟ "

لاحظ شين أنّ شيئًا ما حدث وتساءل. لقد قطعت المكالمة منذ أكثر من عشر دقائق.

" هل حدث شيء؟ "

" مثل ماذا؟ "

لقد لاحظْ.

" صوتكِ... صوتٌ مستاءْ."

 صوتها الذي يشبه الجرس الفضي بدا شائكًا لدرجة أنه كان من المستحيل إخفاءه. وبدت نبرتها في الردِّ فظّة بشكلٍ غير مألوف.

" لا شيء."

إذن شيء ما قد حدث. فكّر شين بأنّه سيسأل أحدهم بعد المعركة. ربما فريديريكا أو مارسيل. لم يكن يعرف ما الأمر ، لكنه اعتقد أن سؤال لينا بنفسها سيكون فكرة سيئة.

ثم أقرّت ليرش بصوتها بنبرةٍ معتذرة غريبة :

"...سيدي حاصد الأرواح. لقد انتهينا من نشر الألكونوست ، لذلك... "

"…؟ عُلِم. عقيد ، انتشرت حزمة الضربات المتنقلة وجاهزة للانطلاق."

" عملٌ جيد. ابقوا على أهبةِ الاستعداد حتى أوامر أخرى."

استعادت رباطة جأشها بعد تنهيدةٍ أفرغت من صدرها الحرج. من المعتاد في الجرس الفضي لصوتها أن يحمل بصيصًا من الإثارة إليه. وهذه المرة بصوتٍ خجول ومحرج. جعدَ شين حواجبه معتقدًا أنّ المشاعر التي كان ينقلها تبدو قوية بشكلٍ غريب. إنّ التحدث من خلال الرنين ينقل المشاعر بنفس مستوى التحدث وجهاً لوجه ، وفي تلك اللحظة ، صادفوا المشاعر بشكل واضح للغاية.

"هل هناك شـ ؟ "

" كابتن نوزين! ابقَ مستعدًا !"

"…نعم، سيدتي."

لقد تجاوز الوقت فترة الظهيرة ، وبينما لم يطلّ الغسق بعد ، إلا أنّ السماء أظلمت وبدأ الثلج في الهطول. كتلة من الرقائق البيضاء تنحدر بصمتٍ من سحبٍ ثقيلة رصاصية اللون مغطاة بغبارٍ فضيّ.

لاحَت قلعة ريفيتش في الأفق خلفها الجبال بصورة عملاقٍ رابض. وكان للمنحدراتِ فرق كبير بين الثلاثة مئة متر والمائة في أحسن الأحوال. مع استمرار تساقط الثلوج أصبحَ هذا الجرف الآن مكسوًا بعباءة سميكة من الصقيع ، مع ألواح فولاذية تغطي القمة.

من حيث التضاريس ، برزَت القلعة بعلوّها الظاهر في المنطقة ، في حين انحدرت بلطفٍ  في الجزء المواجه للمناطق الجنوبية المتنازع عليها أينَ حضرَت غابات الصنوبر وشين ومجموعته في الوقت الحالي.

من المحتمل أنّ ما حدث للغابة من قطعٍ كان للمساعدة في اعتراض الهجمات من الأعلى ، والمنطقة التي تمتد على قطر عدة كيلومترات حول القاعدة عبارة عن سهولٍ خلَت بشكلٍ غير طبيعي من الأسطح التي يمكن أن تكون بمثابة غطاء. وهدفت حزمة الضربات المتنقلة إلى الوجود على جبلٍ صخري ذي شكل ماسةٍ تمتد إلى الشمال والجنوب كنقطة هجوم بسبب أقل فرق ارتفاع فيه والمسافة القريبة نسبيًا من الغابات.

قالت أنجو: "...إذا خرجنا إلى هناك بلا مبالاة ، فمن السهل مهاجمتنا بإطلاقِ النيران."

" ومع ذلك ، لا يوجد مكان آخر يمكننا الخروج منه... لولا هذا النوع من القلعة ، لكنت قد قصفتها بقذائفٍ مدفعية."

كما أنّ كونك محاطًا بالجدران من جميع الجوانب يعني أيضًا عدم وجود مكان للركض ، مما جعله هدفًا رئيسيًا لقمع السطح ، والذي يتضمن نثر مقذوفات شديدة الانفجار ضمن نطاق معين. لكن القلعة امتلكت مظلة صخرية سميكة تشكلت من تآكل الأنهار الجليدية للجبل والتي بمثابة دفاع طبيعي عنها. والآن عُزّزت بأعمدةٍ معدنية شكّلت دفاع قوي ضد القصف والمدافع الجوية. في هذا الصدد ، قد يكون هجوم من مورفو أو طائرة قاذفة تحمل مدافع ثقيلة الوزن وسريعة للغاية قادرة على اختراقها ، لكن القصف المتوسط لن يمر.

لعلّ نكتة ثيو بناءً على كل ما يعلمه عن ذلك ، لكن رفاقهم ما زالوا محاصرين بالداخل. وعلى أثره جعدت كورينا حاجبيها قائلة :

" أليس رايدن هناك...؟ كما ، حسنًا ، أنا قلقة بشأنِ لينا أيضًا."

" هذا تخميني. لهذا السبب سلّم شين جميع الجاغرنوتز المستخدمة للأسلحة المدفعية إلى بيرنهولدت."

من الممكن للأسلحة الأولية والثانوية لـريغينليفز أن تستبدل ، واحتوت حزمة الضربات المتنقلة على كتيبتين من نماذج استخدام المدفعية المجهزة بمدافع الهاوتزر. وقد أرسل كلاهما للمساعدة في عمليات المماطلة. وكما قال ثيو لم يكونوا مناسبين لهذا النوع من القتال وكانوا أفضل حالًا في تقديم إخماد النيران في ساحة المعركة التي تعج بفيلقٍ ثقيل الوزن.

لم يكن هناك ظلال للعدو حول القاعدة ولا أثر لوساوِس الأشباح باستثناء السايرينات. وبينما يمعن الاستماع إلى صرخاتِ الألم التي جاءت فقط من داخل القاعدة ، وتحديداً من قطاع السطح ، سأل شين " أنجو ، بأي طريقة يمكنكِ إطلاق الصواريخ من خلال الفجوة بين المظلة والجدران؟ "

" شين ، ماذا ؟!"

" همم…"

بينما أصيبت كورينا بالذعر ، أجابت أنجو ببساطة ساخرة.

" يمكنني تحديد أهداف الصاروخ ولكن لا يمكنني توجيه مسارها. ثمّ أليس المرافق الأساسية للقاعدة كلها تحت الأرض ؟ حتى على افتراض أنني استطعت تنظيف الفيلق من مستوى السطح ، لا يمكنني الوصول لمن تغلغل إلى القطاعات الموجودة تحت الأرض."

" اعتقدت أنه إذا تمكّنا من قمعِ السطح حتى لفترة قصيرة ، فقد يمنحنا الوقت للدخول... لكنني أفترض استحالة الأمر."

" حسنًا بمعنى آخر ، ليس لدينا خيار سوى التسلق..."

وقتئذ أقحم داستن صوته بعد استماع صامت :

"...بدافع الفضول ، لماذا لا نستطيع صعود البوابة الشمالية الغربية؟ لم يذكرها أحد حتى في الاجتماع الإستراتيجي ، لذلك فهمت بنفسي أنها ليست فكرة جيدة ، لكن يوجد مسارًا فعليًا إلى القاعدة هناك. أليست أكثر أمانًا وأسرع من تسلق الجدران باستخدام المراسي السلكية؟ "

رمش شين للحظة. كان فهم الأمر منطقيًا بالنسبة للستة وثمانون ، ولم يكن يتوقع أن يُسأل عن ذلك.

" لأن العدو سينتظرنا عند المدخل... وهذا المسار على وجه الخصوص مبني للسماح للجانب الدفاعي بإطلاق نيران مركزة على المهاجمين المتسلقين."

"...نيران مركزة؟ آه…!"

لقد بزغت هذه الملاحظة عليه فجأة. بُني المدخل الشمالي الغربي لقاعدة قلعة ريفيتش على تلٍّ معقد محاط بمنحدرات حادة. إذا حاولوا تسلقها ، فسيواجهون عقبات على جانب الطريق والجدران على جانبي البوابة التي تشبه المروحة. التقدم على طول الطريق يعني أنك لن تصطدم بأي عوائق ، ولكن هذا يعني أيضًا أنك ستتعرض لنيران مركزة من ثلاثة اتجاهات لفترة طويلة من الزمن دون أي غطاء. وبعيدًا عن عدم وصولهم إلى البوابة أبدًا ، فسيتكبدون خسائر غير مجدية مع عدم فعل أي شيء لها ، وانسداد طريق العودة بحطام الوحدات.

" لكن داخل القلعة لا يحتوي على هذا النوع من المدافع ، ولا يتعين علينا السير على طول الطريق نفسه..."

" لم نتأكد من عدم وجوده ، وإذا ذهبنا إلى الطرق الوعرة ، فستكون مليئة بالعقبات ، ناهيك عن أنه إذا ابتعدت بما يكفي عن الرصيف ، فمن المحتمل أن يكون المكان مليئًا بالألغام. واستخدام القصف لإزالة الألغام ليست الطريقة الأكثر أمانًا."

كان للألغام عادة أن تنفجر قبل إزالتها ، ولكنّها صممت هكذا عن قصدٍ لاستهداف نقاط ضعف العدو. حقًا سلاح شيطاني. ثمّ قال فيكا الذي استمع إليهم بابتسامة حاقدة كنمرٍ شرير:

" صحيح يا نوزين. بقدر ما تعتقد أني شرير... أوافقك. إنه لا ينطبق فقط على هذه القلعة ، ولكن من الأفضل لك تجنب مهاجمتها وجهاً لوجه بتهور. المخارج والطرق المعبدة هي دائمًا الأماكن التي يُمر منها."

الأماكن الأكثر فعالية لنصب الفخاخ فيها والتي قد يوليها العدو أكبر قدر من الاهتمام والحراسة.

" كن حذرًا حتى بعد دخولك. قام الفيلق بإسقاط القليل منهم ، ولكن لا يزال هناك عدد قليل من الآليات الدفاعية النشطة."

"...هل قلت بجدية أنك زرعت ألغامًا داخل قلعتك...؟"

" أليس من الأفضل زرعهم عن قصد ؟ إذا كنتَ تعتقد أنكَ في مأمنٍ من الألغام أو الأفخاخ لمجرد أنكَ موجود في أراضي بلدك ، فقد ينتهي أمرك بدرسٍ مؤلم عن مدى كونك مخطئ."

"..."

تحوّل المستشعر البصري لمركبة القوس إلى الأرض في لفتةٍ غير مريحة بشكلٍ واضح.

" لذلك ليس هناك من طريقة سوى تسلق الجرف ، شئنا أم أبينا... ولكن أولًا ، هناك حاجة للاستطلاع. من يريد أن يقودهم؟ "

بعد صمتٍ طويل تدخّل فيكا.

" لا تقولوا لي أنكم لم تفهموا بعد... ليرش؟ اهتمّي بتنويرهم."

ردّت ليرش التي تحفّظت بصمتها حتى الآن بشيءٍ من الفخر :

" هل نسيتم أيها الأصدقاء؟ نحن السيرين أجنحة أنشئت لهذا الغرض بالذات."






* *   *

هرعَ فريقٌ واحد من أربعةِ ألكونوست إلى خارجِ الغابة، ملتفّين إلى نقطةٍ خالية من المعسكراتِ في خطٍ مستقيم، مع الحفاظ على مسافة بينهم وبين القوة الرئيسية للفيلق الذي يفرض الحصار. وحافظوا على مسافة مائة متر عن بعضهم البعض أثناء تحركهم في شكل إسفين للحماية من نيران المدفعية واستمروا في الضجيج الغريب للمخالب الميكانيكية التي تحفر في الجليد أثر خطواتهم.

"... سيدي حاصد الأرواح. وصلَ إليّ الآن رابط البيانات، لذا سأنقله إليك."

بعد كلمات ليرش، ظهرت نافذة مجسّمة في قمرة قيادة الأندرتيكر. وعرضت لقطات لكاميرات المدافع الخاصة بوحدات الاستطلاع التشايكا كمهمة تتابع. لم يتبقَّ سوى عدة مئات من الأمتار من القلعة ، ويبدو أنّ الجرف المنحدر يمتد عالياً إلى السماء من موقعهم.

جعل القرب من القاعدة للتو حصانتها أكثر وضوحًا. حيث بلغَ ارتفاعه جدار من الجليد مائة متر، وجدارٌ آخر من الخرسانة المسلحة السميك المغطاة بصفائحٍ مدرّعة. كما أنّ نحت الجرف المنهار عمدًا رسم قوسا خفيفا، مما يجعل من المستحيل التسلق عليه. حتى باستخدام المراسي السلكية ، لن يتمكن المرء من الصعود إلى القمة في حدٍّ واحد.

ولاح خندقٌ جافّ يبلغ عرضه عشرة أمتار وعمقه عشرين مترًا يحيط بالحافة من جميع الاتجاهات. وفقًا لمعايير فيلدري فإنّ الريغينليفز والألكونوست خفيفة مقارنةً بها ويمكنها القفز عبر تلك المسافة، ولكن كان هناك جدار صلب من الجليد السميك وراءها.

إذا تعثّروا في إطلاقِ النار وانتُهكت مراسيهم السلكية ، فسوف يسقطون في قاعٍ من خندقٍ مائي، الذي شحذ الأشواك المعدنية الحادّة المكدسة معًا، والمقصود منها العوائق المضادة للدبابات.

قال ثيو وهو يشاهد نفس اللقطات: "...حسنًا، ولكن إذا أطلقنا المراسي مباشرة أسفل جدار القلعة وشدّناها، يجب أن نكون قادرين على التسلق."

" لكن من المحتمل أيضًا أن يتصدّع إذا أطلقنا الكثير منهم ، لذلك لن يتمكن سوى عدد قليل منا من الصعود. يمكننا تفجير العوائق المضادة للدبابات والتسلل عبر طريقهم. إذا تمكّنا فقط من فتحِ البوابة، فيجب أن يتمكن الباقون من الدخول بشكل طبيعي..."

تراجعت بقية الجملة عن البوح. والتقطت قدرة شين سريعا تحركات الفيلق. نظروا إلى الجدران ، ورأوا ظلًا ضخمًا بلون الفولاذ يطل من الشقوق على شكل أسنان منشار. ظلالٌ مهددة بالسلاح ، وظلٌّ ممدود لبراميل المدفع الناري على ظهره.

حينها تدخّلت ليرش مجددًا قائلة " سيدتي الملكة ، سيدي حاصد الأرواح... سنطلق النار على هذا المدفع قريبًا. نحن بحاجة إلى تأكيد طريقة هجومها ومداه الفعّال."

" اتّخذي كل الاحتياطات لتجنّب أي إصابة مباشرة. لا يمكننا إعادة تخزين أنفسنا هنا ، لذلك نحن بحاجة لتجنّب أكبر عدد ممكن من الخسائر."

" بإرادتك..."

انحنى الظلُّ ذو اللون الحديدي إلى الأمام ، مستهدفاً الألكونوست القابع أسفل الجدران مباشرة. قام النظام بتتبع مجال رؤيتهم تلقائيًا وتكبيره. وأصبحت وحدة العدو البعيدة واضحة. كان تقريبًا بنفس حجم نوع ستاير وتميّز بإطارٍ أسود مُحمر فريد من نوعه للفيلق.

لكن اللافت للانتباه هو عدم تسلّحها بالدروع. واندفع من هيكلها ذي الأرجل الأربعة مدفعًا ضخمًا إلى أعلى ، مع آلياته المكشوفة. ثمّ من الخلف امتدّ زوج من الأجزاء الشبيهة بالمحراث طولها يذكرنا بذيلِ العقرب.

ولم يكن هناك شك بكونه فيلق أُثر هدير شبحه الصادح في أذنيّ شين. ولكن خلال السبع سنوات الذي قاتلها شين ضدهم لم يرَ مظهره ضمن الوحدات على ساحة المعركة.

لا... صحيحٌ أنّه لم يتعرف عليه بصفته فيلقًا لم يسبق له أن ظهر ، إلا أنّ شكلَ تفاصيلها كان مألوفًا. بندقيّتها الطويلة ومحرّكها الثقيل المهيب. ارتدى مدفعها كمامةٌ مخيفة ومجرفة خلفية لامتصاص الارتداد أثناء طلق النيران. لم يرَ شيئًا كهذا في قطاعهم على أرضِ الجمهورية ، أين تُركوا وحيدين دون دعم ، لكنه رأى شيئًا مثل ذلك في الفيدرالية ، حيث كان تقديم الدعم الخلفي أمرًا مفروغًا منه.

كان أكبر من مدافع الدبابات أو أيّ نوعٍ من البندقية. إلهُ ساحة المعركة الذي يحصد أكبر عدد من الأرواح ويغرق الأرض دماء الجرحى دون وعيٍ ، وأيّ رغبةٍ في القتل أو الإرادة للذبح.

مدفع هاوتزر!

" ليرش ، اطلبي من الألكونوست الانسحاب! إنه ــــ"

اتّضح أخيرًا لشين السبب وراء قيام الفيلق عمدًا بوضع قواته في حاويات ثقيلة مخزّنة والتي أطلقوها. وبعد التسارع، افتقروا إلى القدرة على الحركة للهبوط بمفردهم... لأنّهم وحدة ليس من المفترض لهم أبدًا أن يكونوا حاضرين في الخطوط الأمامية.

" إنه سكوربيون! "

هديرٌ مزلزل.

وقتئذ أطلق أكبر مدفع للفيلق هاوتزر عيار 155 ملم، طلقة واحدة على الألكونوست الواقفة قربَ الخندق الجاف.

-

" سكوربيون؟! هل تقول أنهم أحضروا أحد أنواع المدفعية من الخلف إلى الخطوط الأمامية ؟! "

لا عجبَ من أن تصدم لينا بما يكفي للردّ على استفهامها بسؤالٍ آخر. حشدت أنواع سكوربيون - ومدافع الهاوتزر بشكل عام - قوة نيران لا مثيل لها ولكنها في الوقت نفسه غير مناسبة لإطلاقها في معركة قتال الخطوط الأمامية. ناهيك عن رميهم للاستيلاء على القلعة...

" لماذا هم...؟ "

أحدثَ فيكا نقرةً خشنة على لسانه بصوتٍ عالٍ.

"...هكذا هي لعبتهم. ميليزي، لا تجعلي الألكونوست ينسحب. الغرض من نشر السكوربيون هو تدمير أٌقسام جناح القيادة."

شهقت لينا بصعقة. نوعٌ معبّأ بقذيفة شديدة الانفجار عيار 155 ملم وله قوة نيران تدميرية لتفجير دبابة إلى قطع صغيرة إذا أصابتها مباشرة. وستنهار الحواجز القوية المقاومة للانفجار في جناح القيادة في النهاية إذا تعرضت لنيران مركزة.

لقد قاموا بتعبئة أعلى قوة نيران ممكنة ضد أهداف ثابتة وكانوا في نفس الوقت وحدات خفيفة الوزن يمكن إطلاقها بواسطة الزينتور وهذا على الأرجح سبب اختيارهم لحضور الخطوط الأمامية. بناءً على الأنواع التي لوحظ أنها تقذف ، كان الحد الأقصى للوزن الذي يمكن أن تطلقه عشرة أطنان.

بينما بلغ وزن لوي خمسين طناً ، ووزن الديناصوريا ما لا يقل عن مائة طن حيث مدافعهم لوحدها تزيد عن الوزن المسموح فيه. في المقابل امتلكت سكوربيون شكلًا بسيط. وتمركز وزنها في الغالب في قوقعتها ، وملحقاتها الحقيقية الوحيدة هي أرجلها ، لذلك كانت من وحدات الفيلق الأخف وزنًا. حقيقة أنها غير مدرّعة جعلتها مريحة للغاية لتقليل الوزن.

لقد أرسلوه لأنه نوع سلاح يفي بالشروط. ولم يكن هناك أي أثر للمنطق البشري في إبقاء مدفعيتهم في الخلف أين ستكون آمنة. لم يخجل الفيلق من احتمال الاندفاع إلى حقلِ الألغام لتطهيره بأجسامهم، والبشر الذين تهرّبوا من التضحية برفاقهم، كلاهما رغم وجودهما في نفس ساحة المعركة، إلا أنها تصرفاتهم وفقًا لمنطقهم الخاص مختلفة تمامًا. الأمر الذي قادهم إلى مسار العمل هذا.

كان نفس الشيء.

"...إنّ اقتراب السيرين بتهورٍ من أنواع سكوربيون بقدراتهم على قمعِ المنطقة، هو..."

" إذا لم يهتموا بحماية الجدران، فإنّ أفراد سكوربيون سيطلقون النار علينا بدلاً من ذلك. في هذه الحالة ، نحتاج إلى أن يلفتوا انتباه الفيلق إلى حدٍّ ما."

"..."

الأمرُ مشابهًا لكيفية تصرف لينا التي قادت الناس، وفيكا الذي قاد الآلات، بأشكالٍ مختلفة من المنطق.

ولكن عندما يتعلق الأمر بساحة المعركة، كان فيكا على حق. إنّ الترددَ بسذاجةٍ عند مواجهة موت القلة التي أمامها لن يؤدي إلا إلى موتِ كلّ شخصٍ تحت إمرتها. قسَت لينا قلبها وأصدرت الأمر وهي تصلي بكل قوتها أن لا ينتقل كرهها الذاتي ورعبها إلى شين والآخرين عبر الرنين.

" إلى جميع المعالجون. امضوا قدمًا مع السرب الثاني. حاولوا التهرّب قدر الإمكان وراوغوا مدافع العدو باحتفاظها في أعلى الأسوار. لا تمنحوهم وقت فراغ ويأخذونكم ببساطة."

 

"…عُلمْ. سيحاول الجاغرنوتز تقريب المسافة أيضًا." ردّ شين، موجهًا نظرة مريرة إلى أطلال الألكونوست المدمرة بواسطة وابل من قذائف عيار 155 ملم قادرة على اجتياح دائرة نصف قطرها ثلاثون مترًا. ولم يكن هو الذي لم يفهم نوايا أوامر لينا المؤلمة. إنّ أنواع سكوربيون بعيدة كل البعد عن الاختيار المثالي للدفاع عن الجدران. كان مداها البالغ أربعين كيلومترًا طويلًا جدًا مما يخلق مساحة فارغة بين التصويب غير المباشر والمباشر ؛ لم يكونوا هم المناسبين للتواجد في خط المعركة الملحمي وفي ذات الوقت سبب وضعهم هو امتلاكهم غرضًا أًصليًا مختلفًا.



إذا لم يشغلوا أنواع سكوربيون، فستوجّه أنظارها إلى لينا والآخرين بالداخل. حوّل شين وعيه إلى قائدة الفصيل الذي أرسله إلى الأسوار كتعزيزات تهدف إلى القضاء على الفيلق المحيط بالمنطقة. مما يجبر العدو على التراجع ويسهل على وحدتهم الاقتراب أكثر من الأسوار.

"...كورينا. هل هناك أي نقاط يمكنكِ قنصها باتجاه الجدران؟ "

جعل السؤال كورينا تقضم شفّتها. وباشرت في تفتيش الخريطة لتجد إحدى نقاط القنص قد لاحظتها. حافة مرتفعة قليلاً في الغابة الثلجية.

" قليلة. لكن…"

لقد صقلت مهاراتها في القنصِ بدافعٍ من رغبتها في مساعدةِ شين الذي يقاتل العدو وجهاً لوجه كطليعة. كان دورها هو إزالة الأعداء الذين يقفون في طريقهم في أوقاتٍ مثل الآن. وسيحتاج بالتأكيد مساعدتها هنا، لذا بقدر استطاعتها القيام بذلك، فإنها ستبقى إلى جانبه في ساحة المعركة. كان دورها ودورها وحدها. لن تتنازل عنه لأيّ شخص، ولن تتمكن حتى لينا من تجاوزها عندما يتعلق الأمر بهذا.

ومع ذلك كان عليها إعداد التقرير. بدأت تتأوه بيأسٍ على مرأى من أجهزة الاستشعار لألغام ذات طلقات نارية جديدة تومض مرارًا وتكرارًا على الحافة المغطاة بالثلج الخفيف. من المحتمل أن يكونوا قد عُيّنوا هناك للقبض عليهم على حين غرة أثناء عودتهم من عملية غزو جبـل التنيـن فانـغ.

" إنها مليئة بالألغام...! لقد زرعوا ألغامًا مضادة للدبابات في كلّ مكان! "

-

وصل صوتٌ مُدوي للانفجار الذي غلّف الحافة إلى المنطقة أينَ رنّت في أذنيّ رايدن ونظرَ باتجاه الصوت متحدّثًا. وبطبيعة الحال لم تتمكن أجهزة استشعار الجاغرنوت خاصّته من التقاط ورؤية ما وراء الجدران الخرسانية والصخرية. " إذن بدأ الخط الدفاعي في الممر بالعمل...؟ يبدو أنّ الرجال يكافحون هناك."

" حسنًا، أجل، يحاولون تسلّق الصخور عبر ذلك الجرف المجنون. حتى حاصد الأرواح سيواجه مشكلة في ذلك."

انتظروا في الحظيرة الثامنة لأدنى مستوى من قاعدة قلعة ريفيتش. وهي أكبر حظيرة في القاعدة من حيث المساحة الضخمة التي احتلّت هذا المستوى بالكامل بما يزيد عن خمسمائة مترًا طولًا وعرضًا. وارتفاعًا كافٍ لاحتواء منزل مدني، إضافة إلى الأضواء واصطفاف الرافعات الجسرية على السقف وإحاطتها بالممرات. تكدّست الحاويات الفارغة لبناءِ حاجز ، واختبأوا في ظلّها بقيادة ويروولف وكيكولوبس في الصدارة.

تطلّع المستشعر البصري خاصّته المدخل المؤدي إلى المصعد المغلق بمصراعٍ مضاد للحريق، خلفه أين يهدرُ الهجمات العنيفة المتكررة والانتحارية للفيلق الذي نزل على طول العمود من الطابق العلوي. بدأ التدمير الذاتي للألغام ذاتية الدفع وتقريع أمايزي تدريجياً في اختراق المصراع. ثمّ في الالتواء والصرير. وقتئذ بضربةٍ قوية واحدة، انهار بصوتٍ عالٍ وفتح، وتلك الفجوة قدّمت لهم نظرة سريعة على أسرابِ الكتل المعدنية المتلألئة والمتلوية في الخارج.

…إنهم قادمون.

"ــــ إلى جميع الوحدات، قوموا بنزع أجهزة السلامة. وابقوا في وضعِ الانتظار حتى أوامر أخرى..."

انفجارٌ آخر. لم يعد المصراع قادرًا على تحمّل الضرر ضدّه وفُجّرَ بشكلٍ مذهل متدفقًا عبره سيل من الألغام ذاتية الدفع متداخلة مع أمايزي في الحظيرة ، وعندما انحرفت مستشعراتهم الضوئية ذهابًا وإيابًا بحثًا في الظلامِ عن فريستهم، أعطى رايدن الأمر.

" إطلاق! "

تاليًا، اجتاح خطٌ من النيران الفيلق من جانبهم. وملأَ الهدير المنخفض لمدفع آلي وصرير مدفعين رشاشين ثقيلين الحظيرة، مما أدى إلى تطاير أرجل أمايزي المقطوعة والأطراف المفككة لألغام ذاتية الدفع في الهواء على خلفية دخان أسود ورشقاتٍ نارية من اللهب.

ولكن حماسُ الموجة الثانية كان بدايةُ المعركة، فقد داست على جثثِ رفاقها للدخول إلى الحظيرة غير مكترثين بوابل الرصاص. وفي ثوانٍ توقف فيها إطلاق النار لمنع ارتفاع درجة حرارة المدافع أغلقوا هم المسافة القليلة المتبقية من الاقتراب على المعالجون.

" ها، اندفعوا مثل النمل... لا تدعوا أحد يمر! لا يوجد مكان لنتراجع إليه، أتسمعون؟!"

نبحت شيدن بوجه سرب بريسينجامين الذي ردّ بدوره. سرعان ما أصبحت الساحة فوضوية بتحرّك الأسلحة المتنقلة مستهدفة نقاط ضعف بعضها البعض بينما حاولت الألغام ذاتية الدفع الاندفاع بينها.

ليس فقط الجاغرنوتز ولكن جميع الأسلحة الأرضية تميل إلى أن تكون أقل تسلّحًا مدرّعًا على أسطحها، وفي محاولة للاستفادة من هذا الضعف، صعدت بعض الألغام ذاتية الدفع عبر الجدران للوصول باتجاه المنصة ــــ

" ها هم قد جاءوا! اضربوهم أرضًا! "

خلف الجاغرنوتز، ومن خلال زجاج غرفة الانتظار المطلة على الحظيرة بأكملها، هاجمتهم نيران آلية كاملة من بندقية هجومية. في محاولةٍ لتنظيف أولئك الذين هربوا عبر إطلاق طاقم الصيانة المكون من الستة وثمانون نيرانًا مركزة على الألغام ذاتية الدفع.

لقد أُجبروا على مغادرة الخطوط الأمامية بسبب الإصابات والأضرار التي لحقت بأجسادهم، لكنهم كانوا في الأصل مقاتلين معتادين على التعامل مع الأسلحة النارية... هواء ساحة المعركة والإحساس بالاحتكاك بالموت. حينئذ ألقت أمايزي تركيزها صوبهم.

" تراجعوا ــــ تراجعوا!"

بعد لحظة صراخ وخطوات عالية، اجتاحت نيران مدفع رشاش عيار 14 ملم الغرفة، وسُحقت الأمايزي عبرَ وحدة شانا، ميلوسين. نظرَت شيدن حول الحظيرة باصقة " لا يبدو أنّ ذلك الشيء فونيكس قد ظهر هنا..."

" ولا يعني ذلك أنني أريد ظهوره الآن..."

لم تظهر تقارير تؤكد مشاركة فونيكس التي هاجمَت أولًا في أيِّ ممراتٍ أو أسوارٍ منذ أن استولت على برجِ المراقبة.

 جُهّزت أقسام الحاجز في القطاعِ تحت الأرض بمصائدٍ عالية الجهد كإجراء ضد الهجمات ذات الشفرات عالية التردد، وكان آخر ظهور لها هو انحراف نصلها عن أحد تلك الهجمات. وفقًا لاستطلاع شين، كان لا يزال بالتأكيد في مكان ما في القاعدة، لكنه إما تعرض للتلف أو قيد الإصلاح. أو…

"...إنها الورقة الرابحة للفيلق."

لقد تركوا قمع القاعدة للرتب المنخفضة في الفيلق... وأبقوها مخفيّة للمعركة التي سيكونون في أمسِّ الحاجة إليها.

" إنها قوية ولكن لا يمكن الاستغناء عنها. ربما لا يريدون استخدامها ضد خصم من أمثالنا."

يمكنها تمزيق أي شيء وإطلاق النار على أي شخص، ولهذا السبب بالتحديد هي فريدة من نوعها. مما يعني أنها لن تنضم إلى المعركة إلا عندما تظهر وحدة فريدة بنفس القدر كشين والأندرتيكر ليكون بمثابة خصمها المُستحقْ.

وقتئذ سخرت شيدن بخشونة.

" ها، خصم؟ لقد بدأت أرغب حقًا في إخراج هذا الشعور بالرضا عن النفس منها مع بقية أحشائها."

" توقفي عن هذا... نحن لسنا في وضعٍ يسمح لنا بالدخول في معاركٍ معها عندما نكون بعددٍ غير كافٍ من الناس."

-

"ـــــ المتواجدون في الممر الخامس، ارجعوا إلى الممر الثالث واقضوا عليهم. وبعد مرور ثلاثين ثانية، عودوا مرة أخرى لاستعادتها. هناك أمايزي مجهزة برشاشات ثقيلة قادمة من الممر رقم صفر. إلى وحدة البندقية، تراجعوا ووفّروا تغطية نارية ببنادقٍ مضادة للدبابات. في اللحظة التي يظهرون فيها وجوههم، اضربوهم."

قادَ فيكا العمليات التي تجري عبر ممراتٍ متعددة، وأوضح تعاقبه السريع في الأوامر المترددة عبر جناح القيادة مدى خطورة القتال على الخط الدفاعي. كانت جميع الممرات المؤدية إلى جناح القيادة مغلقة بفواصلٍ سميكة مكونة من ثلاثِ طبقات، لكن كل هذه الممرات واقعة لاحتمال الانهيار إذا تعرضت لهجمات متكررة دون أن يدافع عنها أحد. على هذا النحو، اندلعت مناوشات عنيفة بين الجنود الذين وقفوا أمام الحواجز والفيلق الخفيف الذي يحاولون إبعاده.

وقع انفجار الألغام المضادة لأفراد الدروع الخفيفة، وانفجرت على التوالي محدثة هزًّا مدويًا هوائيًا مزّق الممرات، بينما جاءت الأصوات الحادة لنيران البنادق المضادة للدبابات عيار 20 ملم من اتجاهٍ آخر. ظهرت لقطات لممرات متعددة وشاشات حالة متنوعة واحدة تلو الأخرى بوتيرة مذهلة. ولا يزال فيكا ينظر إلى الشاشات المجسمة المنتشرة حوله في نصف دائرة بتنفّسٍ حاد، ثمّ عيناه الأرجوانية الإمبراطورية ارتمَت في اتجاه لينا.

" حتى لو تمكّن أحد الألغام ذاتية الدفع من اختراقه، فسيكون طريقًا مسدودًا. سوف تنعكس موجات الصدمة هنا، ولن يكون هناك مفر."

" فهمت " أدلت لينا بردٍ صاحبه إيماءة صغيرة.

معظم الأعداء هنا في الأساس ألغامًا ذاتية الدفع، لكن بالنسبة لجناح القيادة، كان هذا النوع من الأعداء هو الأكثر فتكًا. إذا انفجرت مادة متفجرة قوية في هذا المكان المغلق، فإن موجات الصدمة سوف ترتد بشكل متكرر على الجدران وتتضخّم. ومن شأن موجات الصدمة بهذه الشدة أن تدمر بسهولة الأعضاء الأكثر هشاشة داخل جسم الإنسان، مثل الدماغ والأمعاء.

في العملية الأخيرة، استخدم شين الأندرتيكر كطعمٍ وكشف عن جسده لإسقاط مورفو، ولكن خطوة واحدة خاطئة سيعرّضه لخطرٍ مميت بسبب الانفجار. دبّ الرعب في جسد لينا وأُرهقت أعصابها من الارتجاف خلال قراءة تقرير أفعاله في تلك المعركة، حتى لو كان خياره الوحيد وكان هناك غطاء لصرف موجات الصدمة وتقليلها.

" هل هناك أي فرصة لتسلل ألغام ذاتية الدفع من النوع الصغير عبر قنوات التهوية؟ "

كانت القنوات جزءًا لا غنى عنه من المنشأة، والهدف منها التأكد من عدم تعرض الأشخاص بالداخل للاختناق، ولكنها في الوقت نفسه عبارة عن مسارات متصلة مباشرة بالخارج ووسيلة صالحة للاقتحام أثناء معركة الحصار.

" احتمالية زحف صغير منهم حاملًا النيران اليونانية...؟ منذ بناء هذه القلعة لأول مرة، كانت الأماكن الوحيدة الكبيرة بما يكفي لمرور الإنسان وبما فيه الطفل هي الغرف والممرات. بينما الأجزاء الداخلية للقناة عبارة عن مجموعة من الأنابيب المعدنية الضيقة والرفيعة. حتى آينتاكسفليكا واحدة لن تتمكن من المرور من خلالهم."

بالمناسبة، كانت النار اليونانية نوعًا من الوقود الدفعي السائل من العصور الوسطى ممزوجًا بالنفثا باعتبارها المادة الخام للوقود. وبفضل خصائصه المتمثلة في عدم إطفائه بسهولة بالماء، فقد استخدم غالبًا في القتال البحري ومعارك الحصار. ومع ذلك، فقد أثار هذا السؤال ما إذا كانت عائلة إيديناروك الملكية قد اشترت غضب عامة الناس بثقة لضرورة القلق بشأن احتمال وجود طفل منهم يحمل النار اليونانية متسللًا انتقامًا.

دوى انفجارٌ من بعيد متسببًا في اهتزاز هواء مركز القيادة بخفّة. شكّلت أحد الرموز التي تشير إلى لغم رصاصي انخفاضًا في إحدى شاشات الهولوجرام خاصّة فيكا. وكان المكان الذي انفجرت فيه عبارة عن ممرٍ يخضع لحراسة مشددة ولكنه واسعا وسهل الهجوم عليه. ومع ذلك، كان ممرًا وهميًا ولا يؤدي إلى أي مكان. غالبًا ما فضّل البشر مهاجمة نقاط الضعف ويميلون إلى ربط المواقع شديدة الحراسة بالنقاط المهمة والحرجة. لقد نُصبت الفخاخ للاستفادة من هذا الجانب من علم النفس البشري والسيطرة على تصرفات العدو، ويبدو أنّ الفيلق وقع في فخه أيضًا.

سخرَ فيكا أثر نظرته السريعة عليها. كان هناك عدد لا يحصى من هذه الفخاخ المنتشرة في جميع أنحاء الجناح. ولكن حتى هذه الدفاعات بدأت تُستنفد وتستهلك في كل دقيقة.

" مجرّد كون الشخص على قيد الحياة هو دائمًا مصدر إزعاج لشخص آخر. وهذا صحيح بالنسبة للجميع، بغض النظر عن مدى استقامتهم وقداستهم... فإن الاستعداد ليس فكرة سيئة أبدًا. حتى لو لم يكن لديك أي فكرة عن الضغينة."

-

لاحَ غروب الشمس وهبوب الرياح المُشبع بصقيع الثلوج، مؤديًا إلى تشويشِ مجال الرؤية بستارةٍ بيضاء باهتة. أعاقت حتى مستشعرات مركبة أمايزي وخفضَت من دقّة نيرانها بجانب نوع السكوربيون. مما جعل من السهل الاقتراب من الجدران. ولكن من ناحية أخرى، كان للثلج اللاذع أيضًا تأثير ضد الجاغرنوتز، فيتعثرون فوق جذوع الأشجار المتناثرة في المنطقة التي خلّفتها إبادة الغابات. ويتلفون حفاراتهم في حقولٍ ثلجية تصيبهم بتوقّف الحركة.

لقد حاولوا الردّ على نيران مدافع الهاوتزر المتساقطة عليهم قطريًا وأفقيًا دون عوائق بإطلاق النار من أسفل الأسوار عبر مدافع الدبابات عيار 88 ملم وقاذفة المدافع عيار 105 ملم لذا صعُبَ الوصول إليهم. أسوارٌ سميكة مصنوعة من الخرسانة المسلحة وألواح الدروع. إنه الشكل المثالي للدفاع عن القلعة التي تصد نيران الجانب المهاجم تمامًا مع تأمين خط النار من فوق أسوارها.

ومن خلال الانزلاق عبر خط النار الثقيل والعشوائي، وصل أندرتيكر أخيرًا إلى قاعدة الجدار. طاعنًا أشرطة تسلق ساقيه ومرساة الأسلاك في السطحِ المتجمد، وقام بلف السلك مجبرًا آلته التي يبلغ وزنها عشرة أطنان على الصعود. كان هناك فيلق فوقه أخفته العاصفة الثلجية عن الأنظار. ثمّ انضم إليه بعد لحظات ثعلب ثيو الضاحك، ليقودان فصائل طليعة سرب رأس الحربة.

قصفت فصيلة القمع السطحي التابعة لأنجو عمدًا على نقطةٍ مختلفة من الجدران لجذب انتباه الفيلق بعيدًا عن رفاقهم، وهدير نيرانهم يطفئ حتى عواء الرياح العاصفة. لكن للحظة، هدأت الريح ثم زادت شدتها مرة أخرى، مما أدى إلى توقفِ ستار الشيطان المتلاعب الأبيض مؤقتًا.

التقت أنظارهم بلغمٍ ذاتي الدفع برزَ من الجدران ناظرًا إلى أسفل.

"…ابتعدوا! سوف يصدمون بنا! "

تخلّص شين من السلك الذي لم يكن لديه الوقت الكافي للرجوع إليه وجمعه، وركل الحائط عائدًا للوراء متراقصًا في الهواء. لقد كان ارتفاعًا قاسيًا حتى بالنسبة لممتصات الصدمات عالية الكفاءة الخاصة بالجاغرنوت، والتي صمّمت لمعركةٍ تناسب قدراته العالية على المناورة، لكن لم يكن لديه طريقة أخرى للهروب.

أثناء قفزه لمعَ أمامه تحطّم لغم ذاتي تشبث بوحدة رفيقة فشلت في الهرب في الوقت المناسب ودمّرت نفسها معها انتحارًا، لينفجرا معًا... نوعٌ من الألغام المضادة للدبابات.  كانت قادرة على إطلاق نفاثة معدنية من شأنها أن تخترق حتى درع السطح العلوي لـفاناغاندر إذا تمسّكت فيها. وغني عن القول أنّ مركبة ريغينليف ذات المدرعات الضعيفة ستتدمّر بالكامل.

غيّر أندرتيكر موقفه في الجو، وهبط على أرجله الأربعة. لم يكن شين معتادًا على المناورة في ساحة معركة ثلجية بمعداتٍ فريدة تهدف إلى استيعاب هذه التضاريس. فاخترقه التأثير منتقلًا من مكاوي التسلق إلى الآليات الداخلية للجاغرنوت، وتردّد صدى صرير مثير للقلق عبر قمرة القيادة مع تصدّع عدة أجزاء. وأضاء مقياس تحذير، مصحوبًا بصوتِ تنبيهٍ مزعج. لقد تضررت آلية المفصل في ساقه اليمنى الخلفية جزئيًا… ومع ذلك، كانت لا تزال قادرة على الحركة.

حرّكَ السكوربيون مدفعه لمطاردتهم، وأطلق الجاغرنوت الذي قفز جانبًا النار عليه بلا رحمة لإبقائه تحت السيطرة.

 لقد أطلقوا مدافعهم الخلفية ومدافعهم الآلية دون توقف، غير مهتمين بما إذا كانت مدافعهم سترتفع درجة حرارتها وتنفجر وسط نفث من الدخان. وعلى نقيض شراسة الموقف، كان صوتُ الملازم الثاني يوتو كرو باردًا جدًا وهادئًا من خلال الرنين.

" نوزين، تراجع. في ظلّ الحالة التي وصلت إليها آلة الحفر خاصّتكْ، لا يمكنكَ القتال بالطريقة التي تفعلها دائمًا."

"…لكن…"

ولإلقاء نظرة خاطفة عليه حوّلت فيريثراجنا مركبة يوتو مستشعرها البصري في اتجاهه. إذا كان الجاغرنوت قادرًا على التحدث، فمن المحتمل أن يكون من الصوت الميكانيكي الخارج منه وجعله يبدو كذلك.

" إذا متْ، فسوف نفقد مهمتنا. حتى إذا نجحنا في ذلك، فإنّ غياب مهاراتك القتالية وخبرتك القتالية الواسعة من شأنه أن يضعنا في وضع غير مواتٍ أبدًا... تراجع. وأعطي الأولوية للاستطلاع والقيادة في الوقتِ الراهن."

حبسَ شين أنفاسه للحظةٍ طويلة. لا مفرّ من كون يوتو محقًا. ولكن حتى لو لم يحققوا أي تقدم، فإنّ التراجع إلى الجزء الخلفي من الصف في هذه المرحلة أثار غضبه.

"…عُلمْ."

-

نظرت لينا إلى الشاشة التي خرجت عن الخدمة حينما أصيبت إحدى الكاميرات الموجودة على السطح بنيران مدافع الهاوتزر. ثمّ أصبحت معظم الشاشة الرئيسية مظلمة.

لقطات المعركة المحيطة بالأسوار، معلومات الأرصاد الجوية بالخارج، أنواع وأعداد العدو المتوقعة. حُجبَت جميع المعلومات حول ما يحدث خارج القاعدة مرة واحدة... وقطع خط الارتباط بمحيط المظلة في الجزء العلوي من القاعدة ووحدات الاستشعار المركبة الموضوعة هناك.

" قمنا بتفعيل الدائرة الاحتياطية... ميليزي، سيستغرق الأمر بعض الوقت قبل استعادتها واتصالها بالإنترنت. وحتى ذلك الحين، ابقي التقارير الواردة من الخارج ـــــ"

" لا، لا بأس. لقد حفظتُ كل شيء! "

لم ترَ لينا حتى عجلة فيكا في النظرِ إليها بمفاجأة. إنّ كشف شين لمواقع العدو. وضعية الطرفين كما فصّلتها التقارير والكاميرات الخارجية حتى اللحظة. هيكل قاعدة القلعة والتضاريس المحيطة بها. سرعة الرياح ومتوسط مدى الرؤية اللذان يؤثران على مسار القذائف. لقد حفظت كل هذه الأشياء في ذهنها ثم أتقنت محاكاتها للتنبؤ بكيفية تحركها.

كان إعادة بناء ساحة معركة غير مرئية سهلاً بالنسبة للينا، التي قادت الأسراب على بعد مائة كيلومتر. لكن هذا كان لواءً، وعدد القوات بالآلاف. وحتى لو كانت تقوم بتقسيمها إلى وحدات أصغر، فقد تطلب الأمر عددًا هائلاً من عمليات المحاكاة، والتي استجابت لها السيكادا بالعملِ بكفاءةٍ عالية. انبعثت إضاءة عدد لا يحصى من الألياف شبه العصبية باللون الأرجواني، ورسمت أنماطًا عشوائية عبر سطحها.

" سرب المنجل، ركزوا نيرانكم على الجدار الخامس للجهة الشرقية الثالثة. سيظهر سكوربيون بمجرد الانتهاء من إعادة التخزين. سرب ليكاون، تعاونوا مع وحدة الألكونوست الأولى وأطلقوا النار على المجموعة السابعة. سيقوم الاثنان والعشرون المتبقون بتغطية نارية. سرب رأس الحربة، عليكم أن ـــــ"

عادت الشاشة الرئيسية إلى الحياة، وعرضت جميع أنواع الإحصائيات. ألقت نظرة عابرة عليها للتأكد من أنّ صورتها الذهنية لساحة المعركة تتطابق مع ما يحدث، واستأنفت لينا إعطاء الأوامر. لم يكن هذا إنجازًا مستحيلًا، ولكن بفضل مساعدة السيكادا استطاعت حتى بدون التركيز الشديد أو الانغماس، إعادة بناء خريطة ساحة المعركة هذه وحافظت عليها في ذهنها وواصلت إعطاء الأوامر على التوالي حتى بعد عودة الشاشة إلى الحياة.  لكنها ظلت أيضًا ذات صدى مع فصيلة بأكملها في نفس الوقت. في هذه الحالة…

قفزَ بريقٌ فضيّ في مجال رؤيتهم.

-

رعدَت الصدمة في وجوهِ جميع من في مركز القيادة، بما في ذلك لينا وفيكا. فراشةٌ ميكانيكية بأجنحةٍ كبيرة بحجمِ يد الشخص البالغ. الآينتاكسفليكا. من المرجح أنها تسللت قبل بدء الحصار وتجولت حتى تقاطع طريقها إلى هنا. لقد عبرت القاعدة الصخرية، التي لم يكن فيها أجهزة استشعار يمكن الحديث عنها، ولم يكن لديها منذ ذلك الحين طريقة للالتزام بأوامر وحدتها الأم. لذلك لا شكّ أنها وجدت طريقها إلى الداخل قبل نفاد طاقتها.

رفرف الآينتاكسفليكا بجناحيه مرّة واحدة، كما لو كان مترددًا، حيث حدد وجود الأعداء بشكلٍ أسرع من العين البشرية. ثمّ طار وأجنحته منتشرة بخطرٍ أمام لينا متألقًا بعروقه الفولاذية.

الآينتاكسفليكا... نوعٌ يولّد موجات كهرومغناطيسية قوية تحجب الراديو واللاسلكي وجميع أشكال الاتصالات الإلكترونية الأخرى. وإذا تعرّض جسمٌ حي لتلك الموجات من مسافةٍ قريبة، فمن المحتمل أن يؤدي إلى إصابةٍ مميتة…

تكثفَ الضجيج الصاخب في هذه اللحظة. وأحرقت الآينتاكسفليكا محيطها لإصدارٍ ضوءٍ أقوى.

"ـــــ دااااااااااااااااااا!"

نهض مارسيل ضاربًا الآينتاكسفليكا بعقبِ بندقيته الهجومية. لتترنّح شكل الذبابة ضعيفة الجناح إلى الخلف وتصطدم بالأرض لقوة التأثير. ثمّ قفزت وتدحرجت على الأرض أثناء مكافحتها الانطلاق مجددًا، لكن يبدو أن آلية جناحيها تضررت.

"...أحسنت، أيها الملازم الثاني مارسيل " قال فيكا وهو يسحب مسدسه، وبحركة واحدة متدفقة، استهدفها مطلقًا النار. مدفع رشاش عيار 9 ملم، لم يحمله سوى عدد قليل من القوات الخاصة في المملكة المتحدة. اخترقت تسديدته بدقة القسم المركزي لـلآينتاكسفليكا وحطّمها إلى أجزاءٍ صغيرة.

حرّرت لينا أنفاسها المأسورة دون وعي طوال الصدمة.

كان ذلك وشيكًا. قريبٌ جدًا تمامًا.

" شكرًا لك، الملازم الثاني مارسيل... لقد أنقذتَ حياتي."

وقتئذ ربما غادر كل التوتر جسده، لأن مارسيل كان أكثرُ شحوبًا منها.

" لا... آه، أنا فقط نوعاً ما... فعلت ذلك. أعني، إذا لم أتمكن من القيام بذلك، فلن أتمكن من النظر في عيني نوزين..."

تنهد بشدة ساحبًا الكرسي الذي ركله بعيدًا، وعاد إلى وحدة التحكم خاصّته. أوضح مظهر وجهه الذي يحدق في الشاشة ثلاثية الأبعاد، أنه قد أعاد عقله بالفعل إلى ساحة المعركة. وتذكرت لينا ملف موظفيها، أنه قبل أن يصبح هذا الشاب ضابط مراقبة، كان عاملًا في فاناغاندر وقد خدم في الخطوط الأمامية بقيادة مركبة فيلدري  ß، لكنه اضطر إلى تغيير دوره بسبب تعرضه لأضرار دائمة نتيجة إصابة في ساقه.

“…العدو القادم سيظهر تاليًا. يرجى الاستمرار في القيادة."

-

"…اللعنة."

اختفت فصيلة كاملة من السيرين أثر اختفاء ارتباط البـارا ريـد الخاص بهم معهن. وإدراكًا للمعنى الكامن وراء فقدان الإشارة، شتمَ المعالج الشاب تحت أنفاسه. بمجرّد الاتصال، ليس للسيرين حكمٌ ذاتي بقطع الرنين بمفردهم، وبالتالي ليس هناك سوى سبب واحد فقط لقطع الرنين ضد إرادة المعالج. لقد ماتت الفتيات الفقيرات من عدم قدرتهن على النوم أو فقدن الوعي.

" اللعنة، اللعنة، اللعنة! تلك الوحوش اللاإنسانية الستة وثمانون! باستخدامكن كطعم..."

بالنسبة إلى معالجون المملكة المتحدة، لم تكن السيرين مجرّد أسلحة. لقد كانوا شركاء ثمينين ومرؤوسين موثوقين. حتى أنّ البعض اعتبرهم عُشّاقهم أو أخواتهم الصغار أو بناتهم. ولم تقتصر هذه المشاعر على السايرينات أيضًا. غالبًا ما يطور معالجو كلاب الحرب والطائرات بدون طيار التعاطف والمودة المفرطة اتجاه شركائهم. وليس من غير المألوف رؤية الحالات التي هرعَ فيها المعالج الذي دُمّرت له طائره المغرّد للانتقام من العدو لأجلهم.

ويعد هذا صحيحًا أكثر بالنسبة للسايرينات، اللاتي كان لهن شخصياتٌ خاصة بهن – وإن كانت مصطنعة – وصُمّمن على شكلِ فتياتٍ بريئات. والآن تُستهلك واحدة تلو الآخر. مأمورين بقيادة هجوم متهور تحت جرف شديد الانحدار يبلغ ارتفاعه مائة متر حيث سيتعرّضون لنيرانٍ مركزة، وعَملوا كطعمٍ خدّاع يُلقى بإهمال.

كيف لا تتألّم قلوب معالجيهم؟ اعتبروا الشعور بالغضب والسخط اتجاه الستة وثمانون أقلّ حقوقهم، الذين دفعوا السيرين إلى الأمام ليكونوا بمثابة أفخاخهم. وعُمّم هذا الشعور في قلوبهم أجمع.

لو كان أحد إخوانهم الشماليين، لكان الأمر مقبولاً. لو كان من السلالة الملكية، لكانوا قد أطلقوا عليه شرفًا. ولكن أن يكونوا مجموعة أشخاص من عرقٍ آخر، من بلدٍ أدنى، ومن الأقل شأنًا بتخلّيهم عن وطنهم، يستخدمون ويقودون سيريناتهم المحبوبة إلى الدمار؟ كل هذه الأفكار العبثيّة دفعتهم إلى الغضبِ والاستياء، أكثر بكثير من وفاة السيرين أنفسهم.

تدفّقت دموع الغضب والندم على خدودهم. تضحية من أجل هؤلاء الأجانب، هؤلاء الحمقى الأدنى… من أجل هؤلاء الوحوش…؟

" اللعنة... عليكم جميعًا! "

" كفى."

لم يعد بإمكانِ جنديٍّ واحد في زهرِ عمره مشاهدة هذا العرض بعد الآن. كانت شارة الرتبة على زيّه الأرجواني والأسود هي شارة قائد جميع المعالجين الحاضرين.

" لكن يا قائد! "

" بغض النظر عن أفكارنا، فهذا هو مصير تلك الفتيات. لقد تطوّع الناس ليصبحوا مثلهن مع علمهم أنهم سيعاملون بهذه الطريقة. ليس هناك ما يدعو للغضب... بالإضافة إلى..."

بصفته قائد المعالجون في هذه القاعدة، كان رنينه متصل مع فتاة الضابطة العسكرية الجمهورية التي تقود الحصار، ومع الصبي المُعين كقائد الستة وثمانون المرؤوس لها مباشرة. وكلّ واحد منهم يتولى قيادة المعركة بينما يكتم ألم مشاهدة رفاقه وهم يموتون. كما تألمت قلوبهم عندما شاهدوا السيرين الذين لم يكونوا حتى رفاقًا لهم، وهم يسقطون في الدمار.

لم يكن الأمر عن غصّةِ حزنهم لخسارتهم... لم يكونوا ببساطة يشاهدونهم وهم يدمرون بإهمال.

وأكثر من أي شيء…

"... إنّ الستة وثمانون يموتون هناك أيضًا. لإنقاذ قائدهم وصاحب السمو، وكذلك نحن… إنّ كرههم أو الاستياء منهم ليس بمحلّه."

-

لم يسقط الفيلق بسبب خدعتهم بالتصويب نحو البوابة الرئيسية. وبحثت كورينا عن نقطة مراقبة مناسبة للقنص من أسفلِ الجرف، لكنها لم تنجح في إيجادها.

" تسك..."

هزّ شين رأسه فاقدًا صبره بنقره الواضح على لسانه. إنّ الانزعاج الذي يحتويه لن يوصله لما يريده، ولن يؤدي إلا إلى المزيد من الوفيات. ومع النظر في الخسائر المتراكمة في الألكونوست والجاغرنوتز والعدد المتزايد من الجرحى والقتلى، هناك عدد الذخائر المستنفدة باستمرار...

والجزء الأكثر إحباطًا هو رغم من كل تلك التضحيات، فإنهم لم يحرزوا أي تقدم على الإطلاق. فموعد المهلة الزمنية النهائي يقترب منهم بسرعة ومعها شعورٌ متزايد بالإحباط يتصاعد بشكلٍ مؤلم من معدته. ثمّ تعزيزات العدو المتدفقة بدأت تقترب، ولا يبدو أنّ أعداد الأعداء داخل القلعة آخذة في التناقص.

وتوتره القلق لأنه أدرك وضعهم إلى جانب حقيقة أنّ أعدادهم هي من تتضاءل فقط، وقد شعر شين بجسده القابض على أعصابه ينمو تدريجيًا. ولم يكن لديهم حتى أي وسيلة لمعرفة ما يجري في القاعدة، التي خرجت من نطاق تواصلهم.

ويبدو أنه لم يكن الوحيد الذي أصابه نفاد الصبر.

-

" الملازم الثاني ماتوبا؟! توقّف! أطِع ما أُمِرتَ به!"

" لكن علينا الاستمرار في إطلاقِ النار! علينا أن نبقيهم مشتتين، وإلا ـــــ جاه!! "

انتهكت إحدى الفصائل الأوامر وحاولت تسلّق جدار يقع في الطرف الجنوبي، لكنها تعرضت لنيران الرشاشات من الجانبين وسقطت. تركَ المشهد سمعًا يرنّ في أذني شين أثر هبوطهم على العوائق المضادة للدبابات التي لم تنظّف من المنطقة.

اندفع سرب الصاعقة خلال نيران سكوربيون المتطايرة متكبّدًا خسائر ومتشبّثًا بحافّة الجرف. وقتئذ التفتوا نحو أمايزي ينظر إليهم نحو الأسفل من الفتحات مؤكدًا مواقع مركباتهم، ثمّ تراجعت فجأة وظهرت مجددًا بدفعها شيئًا ثقيلًا. براميلُ التخزين التي هوَت إلى أسفل الهاوية.

"...؟!"

ركلَ أعضاء سرب الصاعقة وجه الصخرة لأخذ قوّة اندفاع للوراء متجنّبين البراميل، وفي اللحظة التالية مروا أين كان السرب وانهاروا. بعضها انحرفت بسبب العوائق المضادة للدبابات، والبعض الآخر تحطمت على الأرض فيما بينها، فمزقها الاصطدام وخرج منها ما احتوته... من سائلٍ شفاف.

ثمّ هبّت العمليات الانتحارية لألغام ذاتية الدفع من أعلى الأسوار. سقطوا على ارتفاع مائة متر وقاموا بهبوطٍ اصطدامي مدمرين أنفسهم لحظة اصطدامهم بالأرض.

وبعد جزء من الثانية، اندلعت نيرانٌ في الجدار مندفعة بعلوّها نحو السماء الباهتة المغطاة بالثلوج، بين السرب والخندق. نثرت النيران الثلجَ جانبًا خلال احتدامه، وشكّل التيار الصاعد دوامة من الشررِ والثلج، مرتفعان بوهجٍ رصاصي يخترقه إشعاع أحمر متلألئ.

حتى ليرش توقّفت مذهولة داخل التشايكا ثمّ صرخت " خنادق النار...! لقد أخذوا البنزين من مستودعات الوقود!"

بضرباتٍ مملة من قبلهم استمرّ سقوط البراميل. حيث ارتدوا إلى زوايا الجدران، وحلقوا فوق الخندق وقاموا برشه بالبنزين، مما أدى إلى اشتعاله. وبينما يعمل الفيلق بالكهرباء ولم يحتاج إلى البنزين كمورد. فكانوا أحرارًا في استخدامه دون تحفظ كتكتيك للمماطلة.

نعم، تكتيك المماطلة.

هزّ شين رأسه قليلا.

" لا يمكننا الهجوم من هنا لفترة من الوقت... لقد استخدموا استراتيجية سيئة ضدنا."

صُنعت دروع الجاغرنوتز من سبائك الألمنيوم، وهو ضعيفٌ اتجاه الطلقات والنيران، وكذلك أسلاكهم التي تحتوي على عناصر الكربون. مما جعل اختراق تلك النيران وتسلق الجدران أثناء تعرضها للحرارة أمرًا مستحيلًا عمليًا.

ثمّ لاحَ تقريرٌ من ثيو:

" لقد حصلنا على تقريرٍ من وحدة الاستطلاع. الجدران الأخرى كلها مشتعلة... ولا أعتقد أنّ النار ستستمر طويلا تحت هذا الثلج. لذل سيتعين علينا الانتظار..."

"..."

كان استنتاجٌ صحيح من حيث الحكم العقلاني. لكن الوقت ذهب لصالح الفيلق. حيث  تقترب تعزيزاتهم بينما قُلّصت دفاعات القلعة من قبلهم. مع أخذ كل ذلك في الاعتبار، فإن مجرد الانتظار وإضاعة وقتهم سيكون خيارًا سيئًا...

"…لا."

نظرت تشايكا الواقفة بجانبه إلى السماء وبرزَ صوتها.

"الثلج يزداد قوة... هذا..."

تسلّلت القتامة إلى السماء الثلجية أكثر وازدادت سماكة رقاقات الثلج التي تملأ الهواء. يشير انخفاض درجة الحرارة إلى أنّ غروب الشمس يقترب بسرعة. وقام فيدو بسحب الجاغرنوتز وحطام الألكونوست المتفحم. كما استنفدت حُزم الطاقة والذخيرة والمواد الاستهلاكية الأخرى الخاصة بهم والتي أُهدرت هباءً.

كان لخسائرهم مآل خطير .

"...قد يكون هذا كل ما يمكننا فعله اليوم..."

*  *  *

الغروب.

انعكسَت خيوط الشمس في نهايتها على الأجنحة الفضية للآنتاكسفليكا المنتشرة في السماء، وأضاءت ببراعة المجال السماوي والثلج الذي يغطي الأرض. فأعطى إشراقا للعالم على ظلالٍ يبتلعها السواد.

مشهدٌ جنوني لساحة معركة لا يمكن لأي روح أن لا يبصرها متعجّبًا.

*  *  *

تأمّل غروب الشمس سكون القتال الذي هدأ داخل القاعدة وخارجها. وتأكيدًا للمعلومات الموجودة على الشاشات المجسمة، تنهد فيكا قائلًا: " ميليزي، انقلي لي قيادة حزمة الضربات المتنقلة لبعض الوقت. وخذي قسطًا من الراحة."

لم يكن ترك مركز القيادة شاغرًا للقائد خيارًا أثناء القتال. وهذا هو سبب تعليمات فيكا، لكن لينا عارضته بجدية.

" لا. عليكَ أن تستريح أولاً يا فيكا."

" هل تنوي تولي قيادة معركة دفاعية عندما تكون مرهقًا؟ لديك الآن قدرة تحمل أقل بكثير مما لدي. لذا عليك أن ترتاح أولاً… انظر لعيناكَ المنتفخة الشاحبة."

-

في نهاية المطاف، استسلمت ألسنة اللهب في خندق النار للثلج، وانطفأت فوق الصخور بمجرد انتهاء الوقود. وبحلول هذه اللحظات حكمَ ساحة المعركة الشيطان الأبيض الذي غطّى السماء. لم يكن الأمر مجرّد سقوط قوي؛ فقد هبت الرياح الجليدية عموديًا تقريبًا، وشكلت ستارة بيضاء غطت مجال رؤية سرب رأس الحربة. إنّها عاصفة ثلجية شديدة، وكأن السماء نفسها تآمرت عليهم.

لم يكن المضي قدمًا صعبًا فحسب، بل إنّ وضع الرؤية الليلية وأجهزة الاستشعار البصرية الخاصة بهم والرادار غير فعالين أيضًا. حتى شبكة التصويب الخاصة بنظام التحكم في الأسلحة عُطّلت من صقيع الثلج، ومع عدم قدرتهم على رؤية العدو إذا اصطدموا بهم، ومع عدم قدرة شين على توجيه جميع الجاغرنوتز إلى الأمام، كان عليهم موافقة تصريح ليرش بأن أي قتال آخر اليوم سيكون مستحيلاً. احتاجت الجاغرنوتز والألكونوست إلى الصيانة بعد نصف يوم من المجهود القوي.

كما أقاموا معسكرًا في أعماق الغابة الصنوبرية، حيث العاصفة الثلجية هناك أقل شراسة. ترك شين الأندرتيكر لطاقم الصيانة الذين استقبلوه، وأطلق أنفاسه تتجدّد في الليل البارد الثلجي. سارت ميتشي على الثلج المتساقط تحت أقدامها واتّجهت إليه،  لقد كانت شرقية، تمامًا مثل كاي، امتلكت دماء شرق القارة القوية في عروقها. فتاة صغيرة ذات بشرة عاجيّة وشعر أسود مشوّب بالبني.

" سيدي كابتن نوزين، قد تتجمد المفاصل وينخفض جهد الطاقة المساعدة، لذا من الأفضل نقل أي جاغرنوت غير مستعد إلى حاويات مراكب النقل. والمراكب المستعدة للردّ الفوري، أشعلوا النار بقربها حتى لا تتجمّد."

عندما التفتَ نحوها رأى مواصلة ابتسامتها الثقيلة على ملامحها المتعبة.

" أنا من الجبهة الشمالية، لذا فأنا معتادة على القتال في الثلج... لدينا أشخاص آخرون خدموا في الشمال أيضًا، لذلك سنعمل على جميع الإجراءات المضادة! "

"…شكرًا. لكن لا تجهدي نفسك. ارتاحي لأجلِ الغد."

" نعم سيدي. وأنتَ أيضاً يا قائد."

لوّحت ميتشي بيدها وابتعدت ثمّ غادر شين أيضًا. عادت مجموعة من السكافنجر بقيادة فيدو لنقل الحطام المستعاد من الجاغرنوتز المدمرة. قام المسعفون القتاليون بفتح الستائر وسحبوا المعالجون ووضعوهم على النقالات. ومارًّا بجانبهم طاقم الصيانة الذي يحمل أكياس الجثث في فرقٍ مكونة من شخصين بشفاهٍ مزمومة تقمع عدة مشاعر. خلف الخيمة التي أقيمت بجانب المركبة القتالية لوحدة الإرسال الطبي، تمكن شين من رؤية جبل من الأكياس السوداء المتراكمة قبل أن يفتح سيارة النقل الثقيلة لسرب رأس الحربة. أين رحّبت أنجو التي عادت قبله، بابتسامة.

" عملٌ جيد لليوم. ستعود كورينا من فحص الحرس الخلفي قريبًا."

" حسنًا."

-

اجتمع داستن وثيو للاستراحة داخل المركبة ثالثهم ريتو رغم كونه من سربٍ آخر. وقد سلّم داستن شين كوبًا مليئًا بالقهوة سريعة التحضير.

"...ماتَ الكثيرُ من الناس."

" نحن المعالجون لا نزال أفضل حالًا. بدًلا منا مات معظم الألكونوست."

" ولدينا أيضًا نقصٌ في الذخيرة وحُزم الطاقة وقطع الغيار... ثمّ انقطاع خط الإمدادات أمر صعب حقًا."

ظهرَت كورينا غاضبة وهي تزيل الثلج عن شعرها البني المحمر، وجلست معهم بعد أن قبلت كوبًا ساخنًا من سيرين قد سارت نحوها.

" انسحبت أنواع سكوربيون من الأسوار. وفقًا لما يقوله الأمير، يوجد آلة غريبة على مستوى السطح تخدمهم. ثمّ لا يوجد سوى ألغام ذاتية الدفع على الجدران الآن. إنه في الواقع أمر مضحك جدًا، فمع كل الثلوج المتراكمة عليهم، يبدون مثل رجال الثلج."

ألقَت كلمات خالية من أيّ تلميحٍ للتسلية في صوتها. وقد نظر إليها شين ملاحظًا مزاجها المتوتر من الشعور بالتعب ويوم مرّ دون تقدم.

" إنهم يقومون بصيانة مدافع أنواع سكوربيون... على الأغلب."

" ربما."

وهذا على الأرجح هو سبب لجوء الفيلق إلى خنادق النار لإيقافهم. كانت مدافع الهاوتزر قادرة على إطلاق النار أفقيًا ولكنها عادةً ما تطلق النار للأعلى بزاوية عالية. ومع تراكم وزن القذائف وكمية البارود، زاد الضغط على مدافعهم. من المحتمل أن تكون أنواع سكوربيون قد وصلت إلى موقفٍ تطلبت فيه الصيانة بعد مناوشات استمرت ليوم كامل.

أثناء مشاهدة محيط الخارج، هزّت كورينا كتفيها من حديثٍ آخر أرادت قوله.

" لقد قالت سيرين للتو أنه إذا أصدرنا الأوامر، فسوف يستمرون بمفردهم من الآن فصاعدًا. وأنهم سيتشرفون بوفاتهم إذا كان ذلك يعني إنقاذ الحياة."

مسحة خافتة وملحوظة من الاشمئزاز ملأت عينيها الذهبيتين. عيون شخص ترى شيئًا لا يمكنها فهمه.

" آسفة، لكنني أعتقد حقًا أنهم مخيفون... من وجهة نظرهم، مات الكثير من رفاقهم. لقد تكبدوا خسائر أكبر بكثير مما تعرض له شعبنا. ولكن بطريقة ما، لا يزال بإمكانهم الابتسام وكأن شيئًا لم يحدث."

تمكّنوا من رؤية عدد لا يحصى من الشباب والشابات يتلقون أكوابًا من السيرين حول المعسكر، ويقدمون كلمات الشكر دون النظر إليهم مباشرة. ولم تظهر الفتيات الميكانيكيات أي علامات قلق، واكتفينَ فقط برسم ابتسامات في غيرِ محلها للمعالجين أثناء استمرارهن في الاعتناء بهم.

" شجاعٌ إلى الأبد، بلا كللٍ ولا يعرف الألم أبدًا، هاه...؟ "

لقد كانوا نفس الفيلق الذي حاربوه.

" إنهم حقًا دمى ميكانيكية... تنكسر ولكنها لا تموت أبدًا. لا يمكنكَ قتل من مات بالفعل."

" لكن..." تدخّل داستن بصوتٍ خافت وهو ينظر إلى كوبه. " إنه شعور خاطئ... هذا مماثلُ للستة وثمانون الذين أُجبروا على تحمّل القتال."

رفع ثيو حواجبه بانزعاج.

" إذاً أنتَ تقول أننا مثل الخنازير البيضاء هنا؟ "

لهجته القاسية جعلت داستن يلوح بيديه معتذرًا.

" لا! هذا ليس ما قصدته. أنا فقط…"

بعد أن سرحَت نظراته لبضع لحظات، خفض عينيه بشكلٍ متجهم.

" أنا، ام... آسف."

فتحَ ريتو فمه مشاركًا.

" صحيحٌ أنّ الأمر وكأننا ننظر إلينا في القطاع الستة وثمانون. خاصة في الهجوم واسع النطاق، مات الجميع... متناثرين... بتلك الطريقة كالآن..."

"………"

ضاقت نظرات شين عند مشاهدته وهو يعانق ركبتيه مثل طفل صغير. ولهذا السبب تدخّل.

" هل تشفق عليهم؟ "

" هذا ليس ما عنيته. كما قالت الملازمة الثانية كوكوميلا إنهم مخيفون. إنهم ليسوا بشرًا. أنا لا أفهم حقًا ما هم عليه، لهذا أنا خائف… لكن وجودهم يتضاربون ويموتون بهذه الطريقة يجعلني أشعر بالسوء."

لقد أعطاه الشعور بأنهم قد يتبعون خطى السيرين ويموتون بنفس الطريقة غدًا. وتخيّل المشهد بحد ذاته مرعبًا.

هذا الشعور الذي اتضحَ أنّه يسرده بصوتٍ لا يسمع، كان غير مألوف بالفعل لشين. لقد اعتاد على رؤية من بجانبه يموتون... كان عليه أن يعتاد على ذلك.

" هل تريد البقاء في معركة الغد؟ إذا كان الأمرُ صعبًا فلا بأس بأن ترتاح."

إذا كان الخوفُ يسبب الشلل إلى هذا الحد... فمن الأفضل أن تكون خارج ساحة المعركة. كل ما سيفعله هو إرسالك إلى قبرٍ مبكر.

"…لا."

هزّ ريتو رأسه بقسوة بعد لحظة صمت.

" لا... لا بأس. ليس لدينا ما يكفي من الأيدي. بالإضافة…"

زمّ ريتو شفتيه وتابع، كما لو كان يحاول أن يُلهم نفسه، وقليلًا كما لو كانت لعنة.

"...أنا...أنا من الستة وثمانون أيضًا."

-

بالعودة إلى غرفتها، قامت لينا بفكّ ارتباط السيكادا وعادت إلى زيها الأزرق الغامق. ثم التقطت الزي الأزرق الفولاذي الذي ألقته على سريرها. لقد أحضرته فريدريكا من شخصٍ ما لأجلها وغمرتها الراحة عند ارتداؤه بشكلٍ غريب، ولكن بمجرد انتهاء المعركة، سيتعين عليه العودة إلى مالكه. ربما لا ينبغي لها أن تترك أيّ تجاعيد فيها. بهذه الفكرة، حاولت طيّها بأناملٍ غير ماهرة.

ولكن على الرغم من كونها جندية، إلا أنّها قضت معظم حياتها ترتدي فقط الملابس الموجودة في خزانتها. وعندما تعود إلى المنزل، كانت الخادمة تأخذ ملابسها وتعتني بها. عندما أمضت وقتًا في الدفاع عن الجمهورية بعد سقوطها، لم يكن أمام لينا خيار سوى تعلم كيفية الاهتمام باحتياجاتها الخاصة إلى حدٍ ما، لكن طي الملابس لم يكن بعد مصدر قلق لها في ذلك الوقت.

خاصة عندما يتعلق الأمر بسترة رجل.

وبعد أن تخبطت لينا لفترة من الوقت، تنهدت فريدريكا التي وقفت تراقبها، وانتزعته من يديها. وبما أنّ عدد الأشخاص في مركز القيادة أكبر حاليًا من طاقته الاستيعابية المقصودة، فقد كان على الأفراد الزائدين مشاركة الغرف من أجل استيعاب الجميع.

" سلّميها. أنتِ لا جدوى منكِ تمامًا عندما يتعلق الأمر بالأعمال المنزلية، أليس كذلك؟ "

"...شكرًا لكِ، مساعدة روزنفورت."

" هذا اللقب مزعج. فقط ناديني فريدريكا، فلاديلينا."

طوَت فريدريكا المعطف بأيدي سريعة ومدروسة بشكلٍ غير متوقع. مما قاله شين عنها، فإنّ مهاراتها في الطهي لا تختلف كثيرًا عن لينا، ولكن يبدو أنّ هذا لم يكن هو الحال عندما يتعلق الأمر بالتنظيف.

"...أنتِ جيدة في هذا."

" بعد كل شيء جزءٌ من دور التميمة هو العملُ كخادمة. رغم عدم سماحهم لي بعد بلمسِ مكواة الملابس، بدعوى أنها خطيرة للغاية."

بعد التفكير في أمرٍ للحظة، وضعت السترة المطوية على المكتب وشفنت لينا بنظرةٍ جانبية.

" ألم يقال لكِ أن ترتاحي؟ لقد أحضرتُ لنا الطعام، لذا اجلسي وخذي قسطًا من الراحة."

" لكن…"

حينها أبدعت ملامح فريدريكا بتقديمِ تعبيرٍ لازدرائها من أعماقِ قلبها.

" أنتِ حقًا فتاة بطيئة الفهم، أيّتها الفتاة المزعجة الأشخاص الموجودون بالخارج يستريحون أيضًا في الوقت الحالي. تحدثي إلى شينييه قليلاً، حتى لو كان كل ما تتبادلانه هو كلمة أو كلمتين فقط."

-

ربّما لن يستمروا لمدة خمسة أيام حتى وصول المساعدات. على الأكثر، يمكن أن تستمر لمدة سنتين أخريين. بعد أن أصيب بالإرهاق ونفاد الصبر، غادر شين المركبة بعد أن أنهى استجوابه للقادة، والتي كانت مليئة بالتقارير السيئة، ووجد ليرش في انتظاره.

" لا يبدو أنّ الثلجَ سيتوقف الليلة... يمكنكَ ترك الحراسة لنا. يجب عليكم جميعاً أن تحصلوا على قسطٍ من الراحة."

وبينما يوجّه إليها نظرة استجواب، فهمت ليرش تساؤله.

" نحن لا نحتاج إلى الراحة، لأننا طيورٌ ميكانيكية."

" قد يكون هذا صحيحًا بالنسبة لك... ولكن ليس بالنسبة لمعالجيك."

" نحن لسنا بحاجةٍ إلى قيادةٍ تراقبنا لمجرد الحراسة الليلية. ويوجد بعض المعالجون في حالةِ يقظة مستعدّين لأيِّ معركةٍ ليلية."

...كما هو الحالُ الطبيعي. لا يوجد هدنة مؤقتة في أيّ معركة حصار بمجرّد حلول الليل بين الأعداء. ومع ذلك، كان عرضها مفيدًا جدًا لشين أيضًا. بإمكانه القتال دون أن ينام بضعة أيام، لكن كفاءته وقدرته على الحكم ستتأثران بسبب ذلك. إذا كان يستطيع أن يستريح، فسيفعل.

" شكرًا لكِ... سأحذركِ إذا حدث شيء."

رمشت ليرش لمرةٍ واحدة.

" مفهوم. سأتركُ واحدة منا إلى جانبك...ولكن..."

الطريقة التي أمالت رأسها لفتت شين كبادرة طفولية بعض الشيء. قد ناداها فيكا أحيانًا بأنها تبلغ من العمر سبع سنوات، إذن لعلّها بدأت العمل منذ عمر السابعة. وبدت تلك الإيماءة البريئة كحركة قد يقوم بها طفل في هذا العمر.

"...سيدي حاصد الأرواح. هل يمكنكَ حتى أثناء نومك سماع صراخهم...؟ "

" نعم."

" هذا…"

كانت ليرش في حيرة من أمرها لانتقاء الكلمات المناسبة. وألقت عيناها الخضراء نظرة قلقة، مما أعطى الانطباع بأنها إنساناً حقيقياً يقف أمامه. عيونُ من انفطرَ قلبه لوجعِ إنسان آخر.

" حسنًا لا بدّ أنّ الأمرَ صعبٌ جدًا بالنسبة لك. لا أستطيع إلا أن أتخيله، ولكن إزعاج راحتك في جميع الأوقات يجب أن يكون تعذيبًا رهيبًا للإنسان. "

"…ليس كثيرًا."

بالنسبة لشين، فقد اعتاد الصراخ المألوف لمدة عشر سنوات. وتضاعف حجم الأنين تقريبًا منذ أن دخول كلاب الراعي إلى المعركة، لكنه اعتاد على ذلك الآن.

" إنّ تزامن الإدراك بالبـارا ريـد في الأصل إعادة إنتاج للقدرة الخارقة للطبيعة لدى الشخص. وكم سيكون رائعًا لو أمكن أيضًا التحكّم بقدراتك وإعادة إنتاجها ميكانيكيًا في يومٍ من الأيام... خاصة بالنسبة لنا، الذين ليس لديهم راحة ليشعروا بالانزعاج. يمكننا أن نحررك من عبء الاضطرار إلى تحذير الآخرين، دون أن تعاني من أي ألم أو إجهاد."

جعدَ شين جبينه في انزعاج. يحرّروه؟

" لم أتطوع لأكون بمثابة إنذار تحذيري."

" أنا أعلم جيدًا. إنّ تجنيدكَ في الجيشِ جاء بمحضّ إرادتك. من المحتمل أن تقول إنك معتاد على هذا أيضًا، تمامًا كما لم يكن لديك خيار سوى أن تصبح معتادًا على قيادة فيلدري... ولكن إذا جاز لي التعبير عن رأيي بحرية، فأنتَ تضغط على نفسك بشدة، يا سيدي حاصد الأرواح. كما يفعل الستة وثمانون الكرام الآخرون. لديكَ هدية الحياة الثمينة. يجب أن تعتز برفاهيتكَ أكثر."

شعورٌ غريبٌ حقًا أن تسمعَ شخصًا هو مجرّد نسخة من الشبكة العصبية لشخصٍ ميت كما استمعَ للكلمات من فاهِ ليرش الميتة بالفعل. كما لو أنها تحمل الكثير من الواقع في داخلها، وبالتالي يصعب دحضها.

أو بالأحرى…

" لماذا أنتِ شديدة التركيز بشأننا هكذا؟ بالنسبة لكِ، نحن مجرّد جنود من بلد آخر."

توقفت ليرش للحظةٍ تمكّنها من انتقاءِ كلماتها.

"...لأننا السيرين، بطريقةٍ ما، مثل... نعم، مثل الغسالات."

"……؟"

غسالة ؟

" دورنا هو العمل بدلا من الناس. ومهمّتنا الوحيدة توّلي عمل الإنسان الشاقّ... وكغسالة، مشاهدتي لشخصٍ يقف أمامي ويكدح بينما أجلس أنا غير مستخدمة، لا أستطيع إلا أن أفكر، لو سمحوا لنا فقط بالتعامل مع كل هذا العمل المضني وتكريس جهودهم في الوقت لمحبة بعضهم البعض، ورعاية أطفالهم، وتحسين حياتهم والاستمتاع بها. لأنّ هذه…"

...هي الامتيازات التي لا يمكننا الاستمتاع بها أبدًا.

بينما ظلّ شين صامتا، أدلَت ليرش بابتسامةٍ له. ابتسامة فخورة ومشرقة، منفصلة عن مدى فظاعة كلماتها.

" نحن جثثٌ ومعداتٌ للمعركة، مدمجين معًا للقتال. ليس لدينا مستقبل. وكل ما لدينا هو الهدف المعطى لنا. لكنكَ أنتَ الحي، ولكَ الحرية في أن تتمنى شيئًا ما في المستقبل.. يمكنكَ تمنّي أي شيء، على عكسنا."

"…أنتِ…"

" ألستُ بشرية ؟ سيدي حاصد الأرواح، من يستطيع سماع أصوات الموتى، أنحنُ كذلك...؟ "

شلّ لسانُ شين عن الإجابة الفورية عندما ألقت سؤالها بابتسامة مريرة. كان يستطيع سماع الأصوات القادمة من السايرينات التي أمامه. مثل الفيلق وأصوات رثائه من أولئك الذين ماتوا وأُبعدوا عن المكان الذي كان من المفترض أن يكونوا فيه، من الأشباح الذين بكوا باستمرار، متوسّلين أن يسمح لهم بالعودة أو الخلاص.

نفس الأصوات مثل العديد من رفاقه الذين أصبحوا خرافًا سوداء. نفس الشاب الذي لم يلتقِ به قط من بعيد... مثل الأخ الذي هزمه. مما يعني أنهم ماتوا. لم يعودوا على قيد الحياة. إذا سُئل شين عما إذا كانوا من بين الأحياء، فلا يمكنه الإجابة إلا بالإنكار. لم يكونوا على قيد الحياة. 

لكن لسبب ما، كان الإدلاء بهذا التصريح، وإخبارهم بأنهم مجرّد أشباح وليسوا بشرًا أمرًا لم يستطع أن يفعله. لأن ذلك سيكون بمثابة القول بأن شقيقه ورفاقه الذين لا يحصى عددهم ليسوا بشرًا أيضًا.

ولعلّ ليرش استشعرت صراعه الداخلي خلف صمته، فهزّت كتفيها.

"…فهمتْ. فبعد كلّ شيء نحن لا نبدو إليك سوى جثثٌ متحركة. "

“…أنكِ لستِ على قيد الحياة هذه حقيقة كبير. لكن..."

قطع شين المواصلة لفوضوية أفكاره وعبثية الكلمات على طرفِ لسانه. فابتسمت هي ببساطة زاهية.

" لا تسيء الفهم يا سيدي حاصد الأرواح. ليست لدي رغبةً في أن أصبح إنسانًا، ولا أتوقُ إلى أن أعامل كإنسان. أنا سيفٌ ودرع الأمير فيكتور، وبالتالي لستُ بحاجةٍ إلى قلبِ الإنسان الهش وجسده... ومع ذلك..."

نظرت ليرش إلى جسدها وبصوتٍ ضعيف نبسته شفاهها الصغيرة.

“…أنا لستُ الشخص الذي امتلكَ هذا الجسد في الأصل. وأنا مجرّد بقايا دماغ كياني الذي خُلقتُ فيه. وهذا وحده يؤلم سيدي… وإدراكي لذلك يجعلني أشعر… نعم، إنه يجعلني أشعر بالوحدة."

"………"

على عكس أصوات السيرين الأخرى، فإنّ صوتها الصارخ من داخلها لم يكن ذكرًا. لم تكن تنتمي إلى جندي من المملكة المتحدة الذين كانوا ذكورًا بالغين فقط، مما يعني أنها من المحتمل لم تكن شخصًا ماتَ في المعركة.

وامتلكت شعرٌ ذهبي لا يمكن تمييزه عن شعر الإنسان، ولم يكن لديها شبه بلورة عصبية مدمجة في جبهتها.

ربما هي مختلفة جوهريًا عن السايرينات الأخرى، والتي كان من المقرر استخدامهن في ساحة المعركة بدلاً من البشر، وبالتالي مُيّزنَ على أنهن بدائل. ولكن أوضح مظهرها أنها لم تكن مخصصة للمعركة، بل أنشئت بهدف إحياء شخص معين.

"...من أنتِ... في الأصل؟ "

 

فيكا، لن أترككَ خلفي...

 

ردّد الصوتُ أفكاره النهائية مكرّرًا في ذات الوقت رغبته بالخلاص، كغيره من أصوات الأشباح الأخرى. لقد كان صوتُ ليرش أصغر منه ببضع سنوات. صوتُ فتاة شابة يشبه زقزقة الطير.

" السيدة ليرشينليد... كانت أخت سموه بالرضاعة."

إذن هي شخصٌ يعرفه فيكا... مثل والدته التي توفيت بعد وقتٍ قصير من ولادته.

ثعبانُ الأغلال والاضمحلال ــــ جاديوكا.

هذا اسمُ الأفعى المشهورة بحراشفها ذات نمطُ السلسلة؛ سمّه قوي جدًا لدرجة احتمال تآكل اللحم البشري؛ وحكاياتٌ تتحدث عن كيفية ولادته بأكلِ لحمِ والديه فقتلهما. يبدو أنّ هذه خرافة تنبع من حقيقة أنه حيوان سّرلُودْ. فبمجرّد عيشهم يستهلكون حياة المقرّبين منهم.

ولأوّل مرة، شعر شين أنه يفهم مشاعر ذلك الأمير الثعبان، الذي حمل هذا الاسم عن طيب خاطر. في محاولةٍ لحملِ عبء وفاة أولئك القريبين لقلبه، وهو شعور كان مألوفاً للغاية لشين.

" مما سمعته أنها رافقت سموه خلال معركته الأولى وتوفيت هناك... وهذا الجسد صُنع على هيئة السيدة ليرشينليد."

ــــ هل تتوق ليرش للعودة إلى حيث تنتمي؟

سبقَ وسأله فيكا ذلك... لأنه هو من ربطها بهذا العالم. واتّضح السبب وراء تعبيره آنذاك عندما أكدَ شين رغبتها بالخلاص.

" لقد صنعني سموّه لإحياء السيدة ليرشينليد. لكن جسدي وروحي ليسا ملكًا لها، ولا أمتلك أيًا من ذكرياتها. وهذا وحده... محبطٌ للغاية."

 

"…عذرًا لإخباركَ شيئًا غريبًا جدًا. من فضلكَ انسَ هذه المحادثة... و... أتمنى لكَ ليلة سعيدة."

وبابتسامةٍ مرحة غادرت ليرش، ثمّ استدارَ شين عائدًا إلى مركبة النقل المدرعة. أينَ وُجد الجاغرنوت في الحاملة أيضًا، لكن أعضاء الفصيلة الآخرين لم يعودوا بعد. ومن المحتمل أنهم يتحدثون الآن مع رفاقهم من الأسراب الأخرى.

وقتئذ رنّ صوت تشغيل البـارا ريـد ، وخاطبه جرسٌ فضيّ خجول ومألوفٌ على مسمعِه.

" ــــ شين؟ "

" لينا. ماذا...؟ "

أوشك على سؤالها شيئًا لكنّه صمتَ بلطفْ. وتفحّص نبرتها داخله التي خَلت من أيّ ظلالٍ قد تشير للذعر وحالة طوارئ. هِي ذاتها النبرة الهادئة التي تنسجها بأحاديثٍ مع كلّ ليلة آنذاك في تلك الثكنة. أثرها ترنّحت شفتاه بابتسامةٍ ساخرة لا إراديًا ، وداخله تمكّن من القول أنّ شيئًا كان متوترًا دون وعي وقد انحلّ في لحظة.

وخلال الصمت تنهّدت لينا مرتاحة بينما وجّه شين سؤاله بعد انسياب الجوّ بينهما عبر الرنين :

" هل أنتِ بخير؟ "

" جميعنا بخير بطريقة ما. شكرًا لكم يا رفاق على إبقاء القوة الرئيسية للفيلق مشغولة."

ثمّ ارتدى صوتها الجدية: " ألستَ تشعرُ بالبرد؟ قالت فريدريكا إنّ هناكَ عاصفةٌ ثلجية تهب في الخارج..."

" إنّه جوٌّ ليس بإمكاننا التعامل معه. تصبح الخطوط الأمامية للقوات الفيدرالية باردة جدًا في الشتاء ، على الرغم من أنها لا تقارن تمامًا بمدى البرودة هنا. وبحوزتنا معدات لاحتوائها والنجاة.

في الأصل خصّصت مركبات النقل المدرعة لفيلدري ßلنقلها إلى مسافاتٍ طويلة. وصُنعت لتكون بمثابة ثكنات عندما يحين وقت التخييم ، وعلى الرغم من بُعدها كل البعد عن كونها سكنًا مثاليًا ومريحًا ، إلا أنها جيدة بما يكفي للراحة. وهي أفضلُ بكثير من مقعدٍ رخيص في قمرة القيادة الضيقة وذلك التابوت المصنوع من الألمنيوم ، والذي صُمّم كما لو كان يخالف فكرة بيئة العمل ذاتها.

" هل تأذى أحد…؟ لقد نسيت ، لكن لولا استخدام البـارا ريـد لن أعرف شيئًا."

 

تمتّع شين دائمًا بصوتٍ هادئٍ ومستقر لكن خطر ببال لينا أنه إذا حاول إخفاء الحقيقة عنها... إذا كان سيخفيها لتجنيبها ألم معرفة أنّ شخصًا ما قد أصيب أو قُتل ، فلن يكون لديها أي وسيلة للمعرفة.

" أليس الأمر كما كنّا عليه قبل عامين...؟ أنا داخل الجدران ، وعليكم يا رفاق أن تتحملوا كل القتال. إذا تعرّضتِ للأذى والمعاناة... فلن أعرفَ أبدًا ما لم تخبريني بذلك."

لقد حاصرتهم في ساحةِ المعركة لضمان بقائها على قيد الحياة. إنّ جزئيًا سبب قتال شين والآخرين هو افتقارهم إلى الإمدادات اللازمة لجعل الجميع يتراجعون والآخر لأنهم سيتركون لينا والبقية ليموتوا في القلعة إذا فعلوا ذلك. لأنهم توقفوا حرصاً عليهم عندما سقطت القلعة ، وقد حوصروا في الحصار معهم بسبب ذلك. لو لم تكن لينا والآخرون هنا ، لكانوا بالتأكيد قادرين على التراجع إلى برِّ الأمان.

إذا أصيب أيّ شخص... إذا ضحّى أحدهم من أجلهم ، فسيكون خطأهم. وفي هذه الحالة على الأقل...

" أنتِ في أخطرِ مكانٍ على الإطلاق الآن ، لينا. وليس الأمر وكأنكِ لا تقاتلينَ أيضًا." ردّ شين مدركًا لصراعها الداخلي ولعلّه لا... لكن هذا اللطف المُنساب منه هو الذي سمح لـلينا بالبقاء بجانبه.

ودون قصد ارتسمت ابتسامة مريرة على شفتيها.

وإذا كان... إذا كان هذا هو الحال... فيجب أن أكونَ أنا من يتلفّظ بهذه الكلمات القاسية.

"ــــ شين. لو…"

 

ما قالته لينا بعد ذلك ملأ شين من الغضب حتى وقف شعره للحظة.

"... لو رأيتَ وجود فرصة سيقضى فيها عليك ، أريدكَ أن تنسانا وتنسحب... ولو كان الأمر مستحيلًا بالنسبة لكم جميعًا ، فعلى الأقل البعض منكم ــــ"

" سوف أغضبُ يا لينا."

عارضَ كلماتها المتدفقة المسمومة. كان هذا شيئًا لم يستطع سماعه والسماح لها بقوله.

" إخبارُنا بالتخلّي عنكم والفرار هو إهانة لنا. لذا ، حتى لو كنتِ أنتِ من قالها أيّتها العقيد... حتى لو كان أمرًا، فلن أستمع إليه."

" أنا لا أخبركَ بأن تهرب. التراجع الاستراتيجي هو خطوة تكتيكية مشروعة تمامًا... وليس الأمر كما لو أنكَ لم تتخلى عن الأشياء من قبل. لقد فعلتَ ذلك للدفاع عن أصدقائك الذين ما زالوا على قيد الحياة. مثلما أخبرتَ أنجو بعدم ملاحقة رأس كاي."

" هذا... تسك..."

حاولَ بشكلٍ تلقائي إنكارِ حجّتها لكنه تلعثم عندما أدرك عدم استطاعته. ولم تكن كاي فقط. وُجد الكثيرون ممّن لم يتمكن من إنقاذهم. لم يقدر على ترك الكثير من الناس يموتون من أجلِ إنقاذِ شخص واحد ، ولن يخاطر بحياته لتغطية حياة شخص آخر أيضًا.

" أنتِ على حق ، ولكن..."

" أنا لا ألومك. أنتَ قائدُ الفرقة ، لذا فمن الطبيعي أن تختارَ المسار الذي من شأنه أن ينقذ أكبر عدد من الأرواح... وما أٌقوله هو نفسه. لا أريدكَ أن تعتذر عن هذه الاختيارات."

"...!"

لم يكن نفسه. لقد تخلّص من الأشياء التي اعتبرها غير ضرورية مراتٌ أكثر مما يستطيع عدها. لكنهم لم يكونوا مثل تركها هي هنا لتموت. من الحقيقة أنّ الرفاقَ سيموتون في نهاية المطاف بالنسبة لشين والستة وثمانون. الجميع في ساحةِ المعركة سوف يختفون. تمامًا مثل والده وأمه وأخيه الذين ذهبوا للقتال أولًا. مثل الرفاق الـ 576 الذين أخذهم معه بعيدًا عن القطاع الذي حاربوا على أرضه. مثل يوجين ، الذي أخرجه من بؤسِ معاناته.

حتى فيدو، الذي قاتل إلى جانبه لفترة أطول من أي شخص آخر، تركه في وقتٍ ما. كان الاختلاف الوحيد هو من تركه أولاً، لكن الجميع تركوا شين في النهاية وراءهم ومضوا قدمًا، على الرغم من عدم رغبتهم في الموت. ومع ذلك، طلبت منه أن يتخلى عنها بهذه السهولة. ودون علمها، استأصلَت كلماتها أول أمنية تمناها أخيرًا منذ أن لفظ أنفاسه للحياة.

أريدُ أن أريكِ البحر، تمنّى.

في المقابل ما سمعته أُذناه منها  " اتركني خلفكْ."

لكونها رفيقته، وقاتلت بجانبه، فهذا قد يعني أنه حتى لينا ستتركه في النهاية أيضًا. لقد كان يعرف ذلك جيدًا بما فيه الكفاية. أو... ظنّ أنه فعل. ولكن رغم الواقع العلقم لم يستطع الاعتراف بذلك. لم يكن يريد حتى التفكير في إمكانية خسارتها...

"…شين."

" لا."

وبينما لفظَ ردًّا عكسيّ أدركه... أنّ صوته بدا كصوتِ طفلٍ ضائع، متألم وغاضبْ.

-نهاية الفصل الثالث


[كادر العمل]

ترجمة وتدقيق: pandoravanitas@

تبييض وتحرير : abdHD__@

تعريب الغلاف وتنسيق المجلد: abdHD__@


ملون الصورة التوضحية الخامسة: mobfanforever@



التعليقات

إعدادت القارئ

لا يمكنك تغير لون الخلفية بالوضع المظلم
تغير نوع الخط غير متاح بالوقت الحالي
إعادة ضبط