الفصل الرابع
أنارَ فكرٌ في جوفِه في اليوم الذي حاولَ فيه
إحياء والدته، بأنّ المحاولة في مقارعة الموت أمرٌ محرّمْ. وقد أدّى فشله إلى
فقدانِ جزءٍ منها إلى الأبد. كانَ نبعُ شوق الطفل لأمه عاطفة إنسانية طبيعية.
وليسَ غريبًا الرّثاء على موتِ شخصٍ يعني الكثير.
ولكن محاولة الطفل إحياء أمّه الميتة، يخلقُ
عملا وحشيّ أو مجنون. ولم يكن هذا شيئًا يعرفه أبدًا طالما لم يُقال له. وحتى إن
قيل، فمن أعماق قلبه لم يستطع فهم سبب كونه مرعبًا للغاية. ربّما لكونه حقًا
وحشًا، خاليًا من العقلانية.
وكان ينبغي أن يُدركْ.
السخط والشفقة في عينيّ والده الشاهد على تشريح
جثة زوجته والفاعل طفله. قوّة احتضان أخيه وهو يعانق ذلك الطفل الواقف بلا حراك.
ودموعٌ مُرَّ من شقيقته بالرضاعة التي تعلقّت
فيه.
لذلك حتى وإن لم يفهم، لكنه تعلم هذا الدرس
وأقسم. اعترفَ بتلكَ الخطيئة. خطيئة ملأت والده وأخيه العزيزين بالحزن. لذلك لن
يحاول مرة أخرى أبدًا انتهاك الحدود التي تفصل بين الأحياء والأموات...
لكن.
" فيكا... يا أنتْ... هل أنتَ بخير...؟
"
رقدَت أمامه تلك الفتاة نفسها مسحوقة أسفلَ
قسوة الأنقاض.
"... ليرش."
انفلتَ صوتٌ مُتدفقًا من ثغره دون مراعاة
لإرادته كما لو أنّه شخص آخر. صوتٌ شجِن من حلقٍ جافّ مختنقًا بفعلِ غبارٍ معدني
لوّث الهواء. أدّى انفجار القذيفة إلى تحطيمِ لوح الخرسانة فانهار فوق القاعدة
الأمامية، وغمرَ ركامه نصف الغرفة. كان ذلك نتيجة لإصابة مباشرة بقذيفة سكوربيون
عيار 155 ملم، والتي تمتّعت بقوة نيران كافية لتحويل كل من باروشكا ماتوشكا وقواعد
الخرسانة المسلّحة إلى أجزاءٍ صغيرة.
وهي، طفلته، التي سُحقت أسفلَ قطعة من الأنقاض
أطولَ من جسدها الصغير البالغ عشر سنين، كما لو أنّ شخصًا ما قطعها إلى نصفين من
وسْطِها. فآذت أنفه رائحة كريهة غير مألوفة للذي لم يعرف سوى رائحة القصر المعقّمة
حتى الآن. رائحةٌ لمادةٍ لزجة تزحفُ من تحت الأنقاض، دماؤها.
ورغمَ تعذيبها بالألم الذي لا يمكن تصوّره أثر
سحق جسدها من الخصر إلى الأسفل، إلا أنّها لاحَت بابتسامةٍ كافحَت لفعلها على
شفاهِها الدمويّة بوجهٍ أبيضٍ شاحبْ.
" الشكرُ للرّبْ."
"…لماذا…؟"
أعرب على الفور عن أسفه لطرحه سؤال تداخل بلا
قصدٍ مع بيانها. وكلماتها الأخيرة. لذا لا يمكنه مقاطعة سماعهم أو تفويتهم. لكنه
لم يستطع أسر كلماته على شفتيه.
" لماذا حميتِني...؟ أنا الذي كان يجب أن
يُسحق تحت هذا الركام...!"
سُحقت ليرش في البُقعة التي كان يقف عليها قبل
لحظات الانهيار. عَلِمَ ولم يكن بوسعه إلا ذلك، أنها أبعدته عن الطريق. وهل
تضحيتها لأنه ملكياً؟ لأنه تقرّر أنه سيكون سيّدها؟ هل ألقَت حقًا بحياتها الثمينة
بعيدًا، متشبثةً بهذا السبب الغبي...؟
" ما الذي تقصده بـلماذا…؟"
تجرّعت ابتسامتها المرارة وأمالت رأسها مستفهمة
إيّاه. وكأنها تتساءل كيف لم يدرك ذلك بالفعل.
" أنتَ أهمُّ شخص في حياتي، فيكا..."
"...!"
الفتاة التي اختيرت لحظة ولادَتُها لتخدم إلى
جانبه لبقية حياتها. منذ اللحظة التي أصبحت فيها والدتها مرضعته، بيعَت حياتها
بالفعل. أيّ ولاء أو عاطفة حملتها اتجاهه كانت فقط مدعومة بسبب ذلك. لذا لا بد
أنها عرفت ما دورها.
وظلّت مبتسمة دون مراعاة لأحد، بينما بدأت
عيناها حالمة إلى حدٍ ما، فاقدة وضوحها وتركيزها بسبب فقدانها الدماء.
" أتعلمُ يا فيكا، ربما أكون عبدة، لكني
أُحب هذا البلد. أُحب فصول الشتاء الطويلة وربيعه وصيفه وخريفه المتلألئ. إنّه
البلد الذي ولدتُ فيه، أتعلم؟ إنه المكان الذي عشت فيه معك حتى اليوم."
" لذا من فضلك..." نبسَت ليرش
بنظراتٍ فقدت قدرتها على تمييزه تدريجيًا.
"...استمر في حمايته. استمروا في حماية
وطننا."
"…سأفعل."
أكان هناك إجابة أخرى يمكنه تقديمها لها؟ لعلّه هو نفسه أحبّ فصول البلاد، لكن لم يشعر
بارتباطٍ خاصٍّ معها. لم يحمل أي شعور بالفخر أو الانتماء إلى البلد الذي ولد
وترعرع فيه. ومع ذلك، الفتاة التي تحتضر أمامه، زميلته في الصف، صديقة طفولته
وأخته بالرضاعة... الفتاة التي لم تترك جانبه أبدًا رغمَ نفث الناس سمومهم بالقول
أنّها مجرّد لعبة لثعبان الأغلال.
كانت دائمًا معه. من الطبيعي أن تسكنَ جواره.
ولم يعتقد أبدًا أنه سيفقدها.
" أعدكْ. سأحمي هذا البلد وشعبه…
لذا…"
ثمّ عند إدراكه أنه بدون أدنى شك، لم يكن
إنسانًا على كل حال، بل ثعبان فاسد قاسٍ بطبيعته يأكل الإنسان. ولم يكن بوسعه إلا
أن يتوسّل عدم تكرار الخطأ الذي منع نفسه من ارتكابه مرة أخرى.
" إذن يا ليرش... ألا بأسَ باستمرار
وجودكِ بجواري من اليوم فصاعدًا؟ "
لا تتركني خلفكْ.
وقتئذ في لحظةِ اتّساع أعينها. لو وجدَ أثرَ
تلميح، تردد أو خوف، لتخلّى عن كل شيء فكّر فيه. لكن الفتاة الموالية أومأت
برأسها. وقبلت طلبه الأناني للغاية للسماح له بتحويلها إلى الموتى الأحياء
بابتسامة تحتضن ضحكة فارّة.
"
سأفعل…"
أميري
الوحيد الساحر.
وكانت
تلك كلماتها الأخيرة.
* * *
استيقظ فيكا من قيلولته، مستقبلًا المنظر
المعتاد للجدران الخرسانية السميكة التي تشوّه إحساس المرء بالوقت. لقد اعتاد على
هذا الظلام الخافت الذي يعجّ بظلالٍ ترتدي اللون الأرجواني والأسود للمملكة
المتحدة، والأزرق الفولاذي للاتحاد الفيدرالي، والزي الرسمي الأزرق الغامق
للجمهورية على مدى الأيام الثلاثة الماضية. كان الهواءُ خانقًا بسبب قلّة التهوية،
وكثيفًا بشعورِ الإرهاق.
لقد مرّت ثلاثة أيام منذ بدء الحصار، وكانت
أقصى حدودهم تقترب من الانتهاء. تنهد فيكا بخفةٍ متسائلًا عما إذا كان هذا بسبب
الحلم الغريب الذي راوده.
تواجد داخل مبنى صغير جدًا في قاعدة الخطوط
الأمامية، تمامًا كما كان في ذلك الوقت على الرغم من أنّ تلك الحاوية أصغر حجمًا
بكثير وأسوأ تجهيزًا من هذه. كانت المملكة المتحدة دولة عسكرية، وعائلة إيديناروك
في ذروتها. لقد خدموا كطلائع في ساحة المعركة، وكانوا يقفون دائمًا في الخطوط
الأمامية ليتعلموا كيفية القيام بذلك.
وقد حدث كل ذلك عندما أُرسلَ إلى الجبهة
الجنوبية، ملتزمًا بهذه العادة. ليس الأمر وكأنّ فيكا سيتجنّبها على وجه الخصوص.
أُرسلَ جميع أفراد العائلة المالكة، باستثناء الملك والوريث الأول في ترتيب العرش.
ونتيجة لذلك، عمه الأمير الملكي، وأحد إخوة فيكا الأكبر، وشقيقة فيكا، الأميرة
التي تكبره بخمس سنوات، وإحدى أميرات عمومته، جميعهم ماتوا في المعركة.
وفي محاولته للنهوض، قابله جسده المتصلّب بفعلِ
نومه أينَ استندَ ظهره على الحائط. فكرّر مجددًا بكرهه حقًا لهذا النوع من الأماكن
المظلمة والضيقة.
فذكّرته عند موتِها.
" ليرش."
همسَ اسمها مقاومًا جفاف حلقه المخدوش من آثارِ
الحلم. ليربط نفسه بالبلورة شبه العصبية المتعلّقة بالفتاة المقامة على صورتها؛
قامَ بوضعها خلف رقبتها لإحياءِ جسدها. حيث لن يتمكن أحد من إزالتها.
ولن يضطر هو إلى تركها مرة أخرى.
" أتسمعينني يا ليرش؟ "
جاءَ ردٌّ فوريٌّ منها عبر الرنين.
" بالطبع يا صاحب السمو... أوامرك؟ "
لا يناموا السيرين أبدًا. قد يتوقّف تشغيلها من
أجلِ ضبط آليات التعديل أو الصيانة، لكن الأمر كان مختلفًا عن سباتِ الكائن الحي.
ولم تقم أدمغتهم الاصطناعية ببناء المواد الكيميائية التي تسبب التعب، ولم يحتاجوا
إلى النوم لتنظيم ذكرياتهم.
ببساطة، لم يكونوا بشراً.
" قدّمي تقريركِ أولًا. ما هو وضعكم هناك؟
"
" نملكُ القليل من الذخيرة وحُزم الطاقة المتبقية. وفقدنا
أربعين بالمائة من الألكونوست لدينا. بينما لم يتكبد الجاغرنوتز الكثير من
الخسائر، ولكن... يقترب المعالجون من أقصى حدودهم."
" بطبيعة الحال. يستنفد الجانب المهاجم
أولاً أثناء الحصار. سواء من حيث القوى العاملة أو الإمدادات."
جُهّز هذا النوع من ساحة المعركة ضد الجانب
المهاجم. كان للقلعة المدافعة مرافق إقامة وإجراءات دفاعية على جانبها، بينما كان
عليهم النوم في الهواء الطلق البارد. ربما جعلت التكنولوجيا الحديثة النوم في
الخارج أسهل قليلاً، لكن لا يزال يتعين عليهم قضاء ثلاثة أيام في ساحة معركة ثلجية
لم يكونوا على دراية بها.
" ماذا عن وضع تعزيزات الفيلق؟ إلى أيِّ
مدى وصلوا وفقًا لاستطلاع نوزين؟ "
" اعتبارًا من غروبِ الشمس بالأمس، وصلوا إلى خطِّ لـارك
وتوقفوا هناك."
" من ضمن التوقعات وصولهم لخطّ لـارك...
كما أعتقد أنني يجب أن أرفعَ القبعةُ إجلالاً لفارغوس من الاتحاد الفيدرالي. إنهم
صامدون بشكلٍ جيد."
" بإرادتك... أيضًا..."
أظهرَت ليرش تردّدها في مواصلة الحديث.
“…إنّ إرهاقَ نوزين مُقلقٌ للغاية والأكثر أهمية بشأنه. أعتقد أنه
لا يستطيع أن يصمَّ أذنيه عن صراخ الموتى حتى أثناء نومه… على الرغم من عدم شكواه
بأيّ شيء، إلا أنني أتساءل عما إذا كان وجودنا يسبب له ضغطًا إضافيًا."
إذا استمرّ هذا لفترة أطول، فقد ينهار.
أومأَ فيكا برأسه لاقطًا القلق في صوتها.
" قد يتعين علينا التفكير في بعض
الإجراءات المضادة للتعاون المستقبلي بينكم يا رفاق و الستة وثمانون... سأسأله
بنفسي بعد انتهاء كل هذا."
وقتئذ أدرك فيكا أنّ القلق ليس غريبًا عندما
استوطن داخل لينا أيضًا. فـبسببِ الإجهاد، فقدَ حاصد الأرواح مقطوع الرأس قدرته
على تمييز ما إذا كان يتألم أم لا. لم يكن لدى شين رغبة في جعل الآخرين يبكون،
لكنه افتقر إلى فهم ما جعلهم يبكون في المقام الأول.
" جانبنا على وشكِ نفاد الذخيرة أيضًا. لقد طلبنا من قوة الإنقاذ أن تسرع، ولكن لا محال باستغراقهم وقتًا... لقد وصلنا إلى أقصى حدودنا."
اليوم ومنذ هذه اللحظة ستكون نقطة تحول. كل ما
تبقى هو دفع العدو وسحقه. ولحسن الحظ، كانت بنادق العدو قد استنفدت إلى الحدِّ
الذي أصبح فيه ذلك ممكنًا.
" نحن بحاجة لإنهاء هذا. أظهري لهم واجبكِ
وكرامتك."
رغم بُعد المسافة لم يُخفى عليه ابتسامتها
أثناء قوله.
"
بإرادتك... صاحب الجلالة؟"
"
همم؟ "
" من فضلك اِعْتنِ بنفسك. سأكون بجانبك قريبًا."
رمشَ فيكا للحظة. أوقفَ رنينه الحسي معها،
ونظرَ للأعلى مبتسمًا دون كلمات. ثمّ كل ما انعكسَ على بنفسجه هو السقف الكئيب،
والذي لم يكن خلفه تلك الفتاة...
" فقط أين تعلمتِ هذا يا طفلة السبع
سنوات؟ "
لم تخضع ليرش لعملية محو ذكرياتها. حيث أُضيف هذا الإجراء فقط عندما تقرر تصنيع إنتاج ضخم من السايرينات، وقد سبقهم عدد قليل من النماذج الأولية. إذا وُضع وعيٌ إنساني سليم داخل جسد آخر مع الحفاظ على ذكريات لحظاته الأخيرة، فإنه سينهار ولن ينشط من جديد أبدًا، لذلك لم يُنفّذ الإجراء إلا بعد أن أصبح ذلك واضحًا.
ولأنّ الإجراء لم يكن موجودًا آنذاك، لم يُختبر
على ليرش أبدًا. وفي الأساس وعيها وذكرياتها التي من المُفترض أن تكون حيّة داخلها
عندما كانت على قيد الحياة لم تكن موجودة منذ البداية. جعلَ الأمر فيكا محبطًا
بخيبة أمل شديدة ويأس... في الوقتِ نفسه، شعر بالارتياح قليلًا.
لأنه كان خائفًا بشدّة أيضًا. ماذا لو اشتكت
لتخبره أنها في الواقع لا تريد أن تكون محتجزة هكذا؟ حقيقة أنها لم تكن لديها
ذكريات، ولا أثر لشخصيتها القديمة... وحتى طريقة كلامها مختلفة تمامًا عما عرفه من
قبل، كانت نعمة بالنسبة له.
نالت منه هواجسٌ كثير باعتقاده أنها ربما تتذكر
كل شيء بالفعل، ولكن على الرغم من ذلك، فقد غيّرت لهجتها وسلوكياتها. كل ذلك حتى
لا يظل فيكا مقيدًا بذاكرتها. حتى يتمكن هذه المرة من استخدامها كأداة.
لأنّ أخته بالرضاعة كانت فتاة مثيرة للقلق إلى
هذا الحد. متطفلة لدرجة الحماقة.
"... ليرشينليد."
هذا العالم لم يعد جميلاً بعد الآن. من المحتمل
ألا يأتي الربيع أبدًا إلى عالمٍ بدونك. مع ذلك... تمنيتي أن أدافع عنه. وطالما
أتذكر كلماتك، أشعر أنه لا يزال بإمكاني مقابلتك.
" سوف أفي بهذا الوعد... الآن... وبقدر ما
سيتطلبه."
*
* *
" سيدي حاصد الأرواح."
رغم معرفته أنّها هي، لم يستطع شين إلا سماع
نحيب الشبح بجواره فاستمرّ بتركِ شعورٍ غير مريح. لقد كانوا في حاويةٍ بمثابة غرفة
الاجتماعات الخاصة بهم. كان شين يعيد ترتيب تنظيم الفيلق على خريطة العملية، والذي
تغير إلى حدٍّ ما بين عشية وضحاها، ثمّ رفع رأسه لمواجهة ليرش.
" صباح الخير. فكّرتُ فقط في المجيء
لإيقاظك. "
" ماذا حدث؟ "
ما قاله جعله مدركًا لأمرٍ فنقرَ على لسانه.
كانوا في صباح ساحة المعركة مجددًا، ومن الطبيعي أن يكون حذرًا من حدوث خطأ
ما، لكن الحدّة بلغت صوته أكثر مما كان
ينوي ، والقتال طوال هذه الأيام الثلاثة جعله على حافة الهاوية أكثر مما كان يدرك.
"…آسف."
" لا بأس."
هزّت ليرش رأسها بلطفٍ أوضحَ خلوّ آثار للإرهاق
منها، وواصلت التحدث بوجهها الأبيض الثلجي المعتاد.
" مثل أيّ شخص آخر يشعر بالتعب، ولكن...
يبدو أنكَ تجاوزت الحد. وجهكَ شاحب تمامًا."
" نعم…"
لقد ظنّ أنه معتاد على ذلك، لكن تعرضه لصرخات
الفيلق المتواصلة طوال ساعات اليوم أرهقه. إضافة إلى الجو البارد، والإحباط الناتج
عن المناوشات غير المثمرة، والمهلة الزمنية التي تقترب باستمرار... كان من المدهش
أنه استيقظ في وقتٍ أبكر.
" جسم الإنسان هو حقًا شيء غير مريح. لا
يمكنكَ أداء وظائفك دون نوم، ولا التحرك دون تناول الطعام، ويمكن أن تموت إذا فقدت
جزءًا من أحد أطرافك. يبدو الأمر كما لو أنكَ أصبحت غير صالح للمعركة. لا... ربما
يكون من المناسب القول إنّ الحرب قد تركت البشرية وراءها."
في البداية، كانت الحرب والخسائر في الأرواح
يسيران جنبًا إلى جنب. هدير نيران المدافع الذي يصم الآذان، والتذبذبات الشديدة
والحرارة المنبعثة من الدبابات وفيلدري، والتسارع الكبير للطائرات المقاتلة التي
توقف استخدامها منذ فترة طويلة. استمرار كل جانب في السعي للحصول على قوة تدميرية
أكبر، ودروع أقوى، وقدرة على المناورة بشكل أسرع من أجل تمزيق بعضهم البعض، تحولت
الأسلحة تدريجيا إلى أشياء تضر حامليها.
تحدّثت ليرش من جسدٍ ميكانيكي لا يشعر بأي ألم،
ولا يعرف سباتًا أو جوعًا، ويمكنه القتال حتى بعد فقدان أطرافه طالما ظل نظام
الدفع والمعالج المركزي سليمين.
" ألم يكن ينبغي أن تعهدوا إلينا بالحرب منذ زمن طويل؟ "
ألقى شين إليها نظرة عابرة. لذلك أصبح البشر
مجرّد عبء على أسلحتهم. هل كانت هذه هي الطريقة؟ ما حدّ من حركة السلاح المأهول هو
الجسم البشري الهش بداخله. أدت الحاجة إلى تضمين قمرة القيادة إلى زيادة وزنها
وحجمها. وإذا أخذنا الأمر إلى أقصى الحدود، فباستثناء أجهزتهم العصبية، فإن البشر
مجرد أكياس من السوائل تزن عشرات الكيلوغرامات الإضافية. والأدمغة التي تدير تلك
الأجهزة العصبية سوف تصبح باهتة بسبب الخوف والإرهاق. لذلك هم كأسلحة، كانوا
معيبين تمامًا.
وحتى الآن لا يزالون…
" لن نكون... أفضل من الجمهورية."
رمشت ليرش ببطء، بحركاتِ دميةٍ لم تفهم ما قيل
لها للتو.
" نحن حقًا لسنا بشرًا بأي شكل من
الأشكال."
" أنا لا أقصد ذلك. سواء كان ما يوجد داخل
السلاح إنسانًا أم لا، فهذا ليس هو الحال. بل إنّ دفع كل القتال إلى شخصٍ آخر
والهروب من ساحة المعركة، والتخلص من القوة والإرادة للقتال، ووضع مصيرك في أيدي
شخص آخر. شعورٌ... يشع الشفقة."
كان هذا مصدر فخرهم عندما كانوا في قطاع الستة
وثمانون، وهو أكثر ما يميزهم عن "الخنازير البيضاء". لم يكن لون شعرهم
أو عيونهم بل أسلوب حياتهم. العيش في ساحة المعركة دون أي مكان يهربون إليه،
معتمدين فقط على أجسادهم ورفاقهم. اتخاذ قرار بعدم وضع مصير المرء في أيدي شخص
آخر. هذا هو فخر الستة وثمانون ودليل وجودهم.
وقتئذ تضاحكت ليرش فجأة.
"…شفقة؟ "
وحملت نبرة ضحكتها الواضحة... السخرية.
حدّق شين في التي رفعت ذقنها وضحكت. وبينما
ترنّ الضحكات من حلقها، أغمضت عينيها، ولكن ليس من الضحك.
" شفقة. شفقة. شفقة. أتقول؟ أهذا سبب
قتالنا...؟ أهذا كل شيء؟ "
استمرّت قهقهاتها التي أشعلت الكراهية والغضب
في رمقاتها له.
" اخترتَ من بين جميع الأسباب شعور الشفقة
الذي تعتقد أنه يبرر قيامنا بذلك؟ ثمّ حاربتَ على أرض المعركة ببساطة متهوّرة
لأنكَ لا تريد أن يبدو مظهرك... مُشفقًا؟ "
ومع
زوال ضحكاتها العاصفة، ارتدَت ابتسامة كزهرةٍ تفتّحت على تقاسيمها.
"...على
الأقل أنتَ على قيد الحياة."
مجددًا، عادَ صوتها يشبه زقزقة طائر صغير، ولكن
جرَحهُ صوتٌ غليظ لميّتٍ مِلؤه الاشمئزاز والحسد.
" أنتَ حيٌّ بعد ولم تمُت على عكسنا، لذا
يمكنكَ استعادة وإصلاح الأشياء عدة مرات كما تريد. يمكنكَ البدء من جديد! "
غارقًا في صمته، بُصق على شين انتقادات ليرش
باحتجاجاتٍ شديدة. وعلى الرغم من بسمتها المتفتّحة، اشتعلت عيونها الخضراء محترقة.
قد التقطت قدرة شين أصوات الأشباح الباقية وهم يكررون أفكار لحظاتهم الأخيرة. لكنه
لم يتمكن من سماعِ الأفكار التي تنسجها عقولهم الميكانيكية بعد الموت. حتى لو كان
شابًا من نفس السلالة، حتى لو من بعيد، وحتى لو كان أخًا حقيقيًا.
لم يسمع أبدًا أيّ كلمات شبحٍ يموت وأصبح على
هذا النحو. تلك المشاعر... الحسد والغضب اتجاه الذين ما زالوا على قيد الحياة.
" أنتَ تثرثر دائمًا بمواصلتك القتال حتى
النهاية! إلا أنّكَ لا تستطيع التخلص من جسدك الذي لا يصلح للمعارك! لن تتخلى عن
أعينك التي تسمح لك برؤية الآخرين، ولا عن الصوت الذي يجعلكَ تتحدث إليهم، والأيدي
التي ترغب بلمسهم، والجسد الذي يعيش بجانبهم. لأنكَ ترغب في أن تكون مع شخص ما...
ترغب في العثور على السعادة مع أحدهم!"
انفجرَ صدى إدانتها صارخًا: لا يمكنكَ قول
الشيء نفسه عنها. بعد وفاتها لم تعد تستطيع العيش مع أحد. لم تستطع أن تصبح سعيدة.
وأنت، الذي لا يزال بإمكانك القيام بكل هذه
الأشياء... أنت، الذي لا يزال يعيش... بوقاحة شديدة...
كيف تجرؤ!
لاحت
ابتسامة مرحة على شفتيها، خبيثة وتقطُرُ كراهية.
"
أنتَ لازلتَ حيًّا. كيف تجرؤ؟ "
لا
يزال بإمكانك العثور على السعادة مع شخص ما.
"..."
استمرّت ليرش بالابتسام، وتعبيرها يكاد لا يمكن
تمييزه عن البكاء.
" الوحيدون الذين يجب أن يموتوا هم نحن:
أولئك الذين ماتوا بالفعل منذ فترة طويلة. أنتم البشر لا تزالون على قيد الحياة.
أي شيء تفقده، أو يؤخذ منك، يمكن استعادته."
حينئذ ظهر ظلٌّ قرمزي آخر قرب مدخل الحاوية.
" ليرش."
برزت لودميلا صاحبة الصوت الرقيق الذي يشبه
اللحظة التي تتبلور فيها رقاقات الثلج. سيرين طويلة ورشيقة ذات شعر أحمر غامق لا
يبدو طبيعيًا.
" لقد جمعت سربنا. الاستعدادات للطلعة
جارية."
" عُلمْ. سيدي حاصد الأرواح، من فضلك اجعل
جميع سربكَ يستعدون للانطلاق أيضًا. "
" جميعهم؟ "
نظرت ليرش إلى سؤال شين المريب بابتسامتها
العسكرية المعتادة، والتي كانت غير مناسبة لوجه فتاة صغيرة.
" لقد أخبرتك سابقًا بأنني سأُعلمُكَ إذا
حدث شيء ما، ألم أفعل...؟ أصدر جلالته أمره. والآن سنواصل الهجوم الشامل."
-
كان أوّل ما تسلّل إلى أنفها لحظة استيقاظها رائحة كريهة، أعادت إلى ذهنها ذكرى لم ترغب في أن تلمح طيفها. ذكرى قديمة منذ ثماني سنوات، وذكرى جديدة منذ عام مضى. رائحة المعدن المحروق واللحم المتفحم، رائحة الانحلال والموت. رائحة بقايا قتلى الحرب المخبأة في غرفٍ خلفية، تتحلل تدريجياً.
استقامت لينا بجذعها تهزّ تعبيرها مثقل التعب.
ثمّ سحبت السترة الفولاذية الزرقاء المستعارة تدخل أذرعها بالأكمام، بعدها تسدل
أناملها لتمشيط شعرها قبل أن تغادر غرفتها الصغيرة. كانت فريدريكا، التي بقيت معها
في هذه الغرفة طوال الأيام الثلاثة الماضية، منهكة بوضوحٍ وهي ملفوفة في بطانيتها،
ساكنة تمامًا.
تبعتها رائحة الدماء وهي تسير في الممرّ الذي
سكن في كلّ ركن من أركان جناح القيادة أسفل الأرض بقايا الموتى.
في هذه المرحلة، لم تشعر حتى بأي اشمئزاز
اتجاهه.
لأنه أفضل بكثير من الدفاع الذي دام شهرين خلال
الهجوم واسع النطاق في الربيع الماضي، عندما مات معظم مواطني الجمهورية. آنذاك في
أشدّ أيام الصيف حرارة. رائحة المعدن المحترق، والرائحة الكريهة الخانقة لبقايا لا
تعد ولا تحصى لم تجمع ناهيك عن دفنها خلال الدفاع الذي بدا أنّ لا نهاية له.
والآن، لقد اعتادت بما فيه الكفاية، وتعلمت ألا
تلاحظه. ببساطة، يمكن للناس أن يعتادوا على أي شيء، حتى الأشياء التي لم يعتادوا
عليها أبدًا. لاحت على مدخل باب مركز القيادة، قاضمة شفتيها الورديتين.
وقد لاحظت شيئًا غريبًا. إنّ جميع أفراد
القيادة في مواقعهم، بما في ذلك أولئك الذين كان ينبغي أن يستريحوا. ووجوههم كلها
ملتوية بالتوتر والتشويق، وكأنهم أمروا بابتلاع السم. كما لو كانوا يحصنون أنفسهم
قبل معركة حاسمة.
" هـ- هل حدث شيء؟! " تساءلت على عجلٍ بينما رمقها فيكا بنظرةٍ عابرة.
" استيقظتِ يا ميليزي... ولكن انظري ما
إذا كان بإمكانكِ إيقاظ روزنفورت أيضًا والاستعداد للقيادة. سنشن هجومًا عامًا على
الجدار الجنوبي خلال ساعة."
" هجوم شامل؟ بأمرِ من...؟ "
" أمري بالطبع."
اندهشت أعينها صوبه فهزّ المقابل كتفيه
متنهدًا.
" نحن على أبوابِ أقصى حدودنا. إذا تضاءلت
قواتنا أكثر، فلن نتمكن حتى من شن هذا الهجوم. علينا أن نضربهم قبل أن
يسحقونا."
" الهجوم الأعمى لن يؤدي إلا إلى مزيدٍ من
الخسائر. إن فقدان أعصابنا الآن سيكون بمثابة انتحار..."
" وكذلك سوف نتحصن وندافع عن أنفسنا بشكلٍ
أعمى. إنه مجرد فرق بين ما إذا كانت الخسائر ستأتي عاجلاً أم آجلاً. إذا كان هناك
شيء آخر، فإنّ البقاء على الضمانات الدفاعية سوف يقضي علينا."
كانت محاولة تقليل خسائرهم لا طائل من ورائها.
حتى لو حاولوا الاختباء والدفاع عن أنفسهم، فسيسحقون قبل وصول المساعدة. ولقول ذلك
بوضوحٍ أكبر لا مبالي، ابتسمَ فيكا بمرارة.
" ليس هناك فائدة من محاولة تجميل الوضع، ميليزي. لا يعني الأمر أنني أصبحت يائسًا، ولا أراهن على أننا سنقلب الطاولة بمعجزة أيضًا. ليس كما لو أننا محاصرون بهذا القدر من السوء بعد… ربما لا يزال بإمكاننا الخروج منتصرين."
لكن ملامحه التي تقاسمت تعبيره جعلتها غير
قادرة على تصديقه، كما لو أنّه لاحظ أنّ المطرَ غزيرٌ أكثر مما توقع وهم في ورطة.
وإن قال ذلك فهذا لا يعني أنه لم يفهم الوضع الذي كانوا فيه. فالمساعدات لن تصل في
الوقت المناسب، ولن تستمر إذا ظلوا في موقفٍ دفاعي. لذلك كان خيارهم الوحيد هو
الهجوم. لكن…
" الضحايا."
" سيكون هناك ضحايا، نعم. وحتى العديد
منهم. ولكن، حسنًا... هذه هي الطريقة التي تسير فيها الأمور."
-
"…ماذا؟ "
عندما استدار ويروولف كردِّ فعلٍ على أجهزة
استشعار مركبته، رفع رايدن حاجبه وهو يرى الباروشكا ماتوشكا تتقدّم للأمام من
أعماق ظلامِ الحظيرة.
" هذه أوامر صاحب الجلالة. يجب على جميع المعالجين أن يميلوا
إلى الدفاعِ عن نقاط الدخول."
كان صوتٌ لرجلٍ أكبر من رايدن ببضع سنوات، من
خلف درع الباروشكا ماتوشكا السليمة. وهو صوت سمعه عدة مرات لأحد معالجي السيرين.
" بمجرّد أن تخترق القوات الخارجية الجدران، اذهبوا يا رفاق
وأعدوا تجميع صفوفكم معهم. سنبقي الأمور تحت السيطرة هنا... صاحب الجلالة هو قائدُ
الخطوط الأمامية لدينا، ويمكن للمعالجين أمثالنا الذين نتبعه القتال أيضًا."
شعر رايدن بأنّ شيدن تسخر عبر الرنين خلال
ردّها.
" تملكُ روحًا قتالية عالية ــــ سأعطيك إياها. لكن وحدتي في
بريسينجامين هي الحرس الشخصي لصاحبة الجلالة. لن أترك الدفاع عنها لكم أيها
الغرباء. آسفة أيها الفتى المستذئب، لكن وحدتكَ يجب أن تذهب وحدها لتحية
سيدك."
"...حسنًا، أولاًــــ"
لقد ابتلع شكواه الواضحة من الذي تناديه
بسيدي؟ ثمّ طرحَ بدلاً من ذلك في وقته الضائع سؤالاً مختلفًا، ووضع جانبًا
الصورة غير السارة للوجه الذي كان من الممكن أن يصنعه شين إذا قالت هذه الجملة
أمامه.
" من يقود السيرين إذا كنتِ هنا؟ "
-
" لماذا حوّلتَ قيادة جميع السايرينات
إليك يا فيكا؟ "
" لأنني الوحيد القادر على فعلها."
ردّ بإيجازٍ حاد وواثق.
" أعتقد أنك أخبرتني ذات مرة أنه بالنظر
إلى الضغط الذي قد يسببه ذلك، فإن التحكم في مائتي وحدة في وقتٍ واحد هو الحدود
القصوى للمرء."
" ولهذا السبب لن أكون الشخص الذي يتحمل
هذه الضغوط... هذا الاتصال لن يكون لأغراضٍ قتالية وسيكون جيدًا بما يكفي للعمل
الذي ينتظرنا... بالإضافة إلى..."
أكملَ أمير الشمال جملته بهدوء، وكأنها شيء
تافه. مع فخر العشيرة التي داست على عدد لا يحصى من عامة الناس لعدة قرون.
"…هذا واجبي. ليرش، هل أنتِ مستعدة؟ "
" بالطبع. نحن جاهزون متى شئت يا صاحب
السمو." أجابت ليرش وعينيها الخضراء تتجهان نحو شاشتها البصرية. كانت داخل
قمرة القيادة الضيقة والمظلمة لتشايكا، والتي صمّمت لاستيعاب جثث السيرين. ثمّ
ظهرت خيوط السيكادا الفضية من خلفها، وزحفت على طول رقبتها النحيلة منزلقة تحت
ملابسها. كان متصلاً بمنافذ إمداد الطاقة المضافة في جميع أنحاء جسدها، ومنتشرًا
عبر جلدها الذي لا ينتج أي تيار كهربائي حيوي.
ستعمل كحاضنة لأغلبية الرنين واسع النطاق الذي
على وشك الحدوث، مما يجعل تحمل العبء ممكنًا... ولم يكن هذا شيئًا أُمرت بفعله.
إنّه شيئًا تتمناه. كان سيدها على وشكِ التعامل مع تهوّره بمفرده، دون أن يهتم
بالتوتر الناشئ. لكن ليرش لن تسمح له بذلك.
جسدي هو سيف سيدي ودرعه. إن الدفاع عنه هو
كبريائي، وترك ولو شعرة واحدة على رأسه تتأذى فسيكون أكبر عار يمكن تخيله.
حدقت ليرش في القلعة الواقعة على الجرف مع عدوها اللدود، الفيلق.
وقف بجانبها الأندرتيكر، خلفهما جيشٌ صغير من الجاغرنوتز. وأمامهم، وقفت بقية
الألكونوست في تشكيلٍ هجومي وفقًا لأمر سيدهم.
الحقيقة هي أنها لم تكن تريد أن يكون الجاغرنوت جزءًا من هذه المعركة، أو أي من المعارك التي حدثت بالفعل.
إنها حديقة الحرب. أين تنتمي إلى طيور الموت.
" أعطنا أوامركْ، يا ملك الجثث."
-
في مواجهة الحقل الثلجي حيث طُمرت بعض أجزاء
بقايا الألكونوست التي دُمرت خلال اليومين
الماضيين والقلعة واقعة خلفها، طلّت أعدادٌ من الفيلدري التابعة للاتحاد والمملكة
المتحدة معًا بمجموعاتٍ خطّية منظمة. مع وحدات الألكونوست المتبقية في عمودٍ تأخذ
المقدمة، والجاغرنوتز خلفهم. قُسّموا إلى أسرابٍ وفقًا لأمر الهجوم الذي ناقشوه
خلال الإحاطة، حيث تقرر أن يلاحق الجاغرنوت الألكونوست.
واستمرّ شين بالاعتقاد أنها تشكيلة غريبة. حيث
كان الجاغرنوت في وسطها، مع سرب رأس الحربة الذي أخذ زمام المبادرة خلف الألكونوست
مباشرةً، في وضعٍ يسمح له بمشاهدة ساحة المعركة بأكملها. لقد كان تشكيلًا واجه
هدفهم، الجرف الجنوبي، بطريقة صادقة متهورة تقريبًا. وكان فريق الألكونوست في
الهجوم قريبين جدًا من بعضهم البعض مشكّلين خطًا رفيعًا للغاية.
إنّ التشكيل العمودي هو الأنسب لتركيز القوة
العسكرية للفرد واختراق خطوط العدو، ولكن ما كان يقف أمامهم لم يكن سلاحًا متنقلًا
بل جرفًا منيعًا. وقد حُفر خندق أمام هذا الجرف أيضًا، جعل من السهل تخيلهم مقيدين
فيه.
لقد حملوا جذوع الأشجار والحجارة التي جمعوها
على الأرجح بين المعارك، وقاموا بحشوها في حاوياتٍ فارغة رُبطت بالقوة بمثبتاتٍ
سلكية احتياطية لـلجاغرنوتز، ويبدو أنّ الخطة كانت استخدام تلك المواد لملء الخندق
والتسلق بهذه الطريقة.
جوهر قوة التشكيل العمودي هو التأثير الناتج عن
تركيز القوة العسكرية وسرعتها. لكن الخندق والجدار الذي يقف خلفه سيوقفان زخم
السرعة ويجعلان الوتيرة غير فعالة. والأسوأ من ذلك أنّ توقفهم قد يجعل من الصعب
مواصلة القتال، مما يؤدي إلى تأخيرٍ مميت. وسيُقلل مثل هذا التكوين الكثيف واحدًا
تلو الآخر من خلال النيران المركزة لأنواع سكوربيون.
فيما... كانوا يفكرون؟
وبطبيعة الحال، شُرح أمر الخطوط العريضة
للعملية، ولكن قوات شين الفيدرالية لم تستلم سوى دور السيطرة على الجدران والتعامل
مع داخل القلعة. ولم يخبرهم أحد بأي شيء عن الطريقة التي سيستخدمونها لتجاوز
الجدران. كل ما قيل لهم هو السماح للألكونوست بالتعامل مع الأمر، ولا شيء آخر.
بينما شرد شين واقفًا هناك في حيرة، توقفت
ألكونوست بجاوره.
"...سيدي حاصد الأرواح."
صدحَ صوتُ لودميلا. وخطفَ بصره نحو مظلّتها
الخلفية المفتوحة ثمّ أينَ وقفت على منحدر الصعود، وجسدها في عراء الرياح الثلجية.
وقتئذ فاضت نظراتها إلى الحقلِ المليء ببقايا رفاقها وإلى القلعة التي أمامها،
فتحدّثتْ.
" نحن قتلى الحرب الذين كنا بشرًا ذات يوم، وهذا يعني أننا
لم نعد بشراً بعد الآن. أجسادنا صنعها البشر، وقلوبنا هم من جمعوها، نحن آلياتٌ
مصممة لمنع خسارة الأرواح بلا داع."
"……؟"
تهاوَت مثل هذه الكلمات على مسمعه عدة مرات
بالفعل، سواء من صانعهم وسيدهم، فيكا، أو من السيرين أنفسهم. كانوا السيرين في
الأصل قتلى الحرب. واعتمد نظام الدفاع في المملكة المتحدة على إعادة تدوير القتلى
لمنعِ الموت عن المزيد من الناس. ولكن لماذا تتحدّث عن هذا الأمر الآن، قبل
العملية...؟
" إنّ وجودنا من أجل البشرية."
على حافة رؤيته، بدأ العد التنازلي. العد الذي
بشّرَ ببدءِ العملية. أُصدرت أوامر صارمة لجميع المعالجين بما في ذلك شين، بعدم
التدخلِ في الألكونوست.
" وهذه هي..."
-
مع تقدم العد التنازلي، أدرك فيكا فجأة أنّ
الفتاة التي تجلس في مقعد نائبة القائدة بجانبهم لديها القدرة على رؤية ظروف الأشخاص
الذين تعرفهم.
" روزنفورت، أغمضي عينيكِ لفترة من الوقت.
ليس فقط قدرتكِ ولكن عينيكِ الحقيقية."
من المؤكد أنّ فيكا أدرك أنّ ذلك لن يكون
جيدًا. لم يرد رؤية المزيد من الأطفال يتحطمون. أطفالٌ على عكسه، لم يولدوا وحوشًا
وقد تحطموا منذ البداية. لو كان الأمر متروكًا له طوال حياته، فلن يعاني أي طفل
بالطريقة التي عانى منها.
لأنهم إذا لم يفعلوا ذلك... إذا كان الأطفال
الذين ولدوا بشرًا ينكسرون بسهولة ويصبحون وحوشًا لن يحصلوا أبدًا على السعادة
الإنسانية الحقيقية... فلن يتمكن وحش محطم مثله أبدًا من معرفة السعادة...
ضحكَ بصوتٍ خافت على قبحِ وحشيّته، وكان عليه
الاندهاش بمدى أنانيته حتى الآن. لم يكن بإمكانه إلا أن يصلي من أجلِ فرحة شخص آخر
من أجلِ نفسه. هذه هي أفكاره الثعبانية القاسية، الحقيرة، باردة القلب.
استمر العد التنازلي في الدق. ومن طرفِ عينه،
شقّ شفتيه قائلًا:
" من غاديوكا إلى جميع وحدات ألكونوست...
بدء العملية. الآن ـــــ"
الثعبان الآكل للإنسان: غاديوكا.
نعم. لقد كنت دائمًا ثعبانًا مكسورًا. لم يعد
هناك المزيد من المشاعر في داخلي لكسرها. لعلّي إحدى الآليات التي بناها بني جنسي
وزرعها بداخلي لهذا الغرض.
في اللحظات التي يطغى فيها الجنون على العقل،
وعندما يعجز البشر عن الحفاظ على عقلهم، سيحل محلهم الأزمات. لقد كان هذا ما خلق
من أجله... تمامًا مثل الدمى التي صنعها، والتي كانت بمثابة إهانة للإنسانية.
أظهروا لهم الفخر الذي نمتلكه نحن الوحوش، أنتم
الذين لستم بشرًا.
"ـــــ غنّي، يا بجعاتي."
تحدّثت لودميلا واقفة أمام شين. كأنها تغنّي
بابتسامة.
" وهذه هي..."
في الوقتِ نفسه وبعيدًا عن الرنين الحسي
واللاسلكي المزعج، أعلن صوتُ فيكا:
بدءُ العملية. الآن ـــــ
بينما تابعت لودميلا كلامها – بنشوة وهدوء، مثل
قديس شهيد ينظر إلى المقصلة.
ــــ غنّي يا بجعاتي.
"... نظرتُنا عن السعادة."
في اللحظة نفسها، اندفع كل الألكونوست
المجتمعين إلى الأمام. وبدلًا من صرخاتِ المعركة، انفجرت الفتيات في قهقهاتٍ
مُشرقة، مثل حفيف الزهور ترنُّ في حلقهن. كما لو كانوا يعبرون حقول الربيع
الهادئة، ساروا عبر ساحة المعركة الملطخة بالدموية. ومن خلال تخطّي القصف الأفقي
المدفعي لنوع سكوربيون من القلعة، وصل الصف الأول إلى الخندق الجاف المحيط بالجرف.
فجّروا
العوائق المضادة للدبابات في قاعِ الخندق بقصفٍ من مسافةٍ قريبة، واستداروا مطلقين
مراسيهم السلكية على حطام رفاقهم المجاورين، وحرفوا إطاراتهم في رقصةٍ غريبة،
ملقين بأنفسهم إلى قاعِ الهاوية... خلفهم.
"ماذا…؟!"
اختفت ظلال الألكونوست البيضاء المزرقة في وادي الثلج المتجمد مثل مزحة سيئة. وقاموا بسحبِ البقايا المتفحمة والمسودة معهم أثناء قفزهم فوق علامات الارتطام المنحوتة في الأرض، ورسموا قوسًا في الهواء، ثم غاصوا خلفها. وصل الصوت الثقيل المشؤوم لاصطدامهم وتحطمهم إلى آذان الستة وثمانون، مترددًا صداهم على الجدران الجليدية.
وقبل أن تختفي الأصداء، وصل الصف الثاني من
الألكونوست، وألقوا بأنفسهم خلف رفاقهم. ثم تبعهم الصفان الثالث والرابع دون أيِّ
تردد، وهم يسحبون معهم المواد التي حصدوها وحطام رفاقهم واحدًا تلو الآخر. مثل
قطيع من الفئران الحمقاء يندفعون نحو النهر المتدفق عند إغرائهم بصوتِ المزمار.
أسقطت نيران السكوربيون وحدة ألكونوست واحدة في
منتصفِ مسيرة الموت. فدفع الواقف خلفها حطامها مباشرة إلى الأمام وغطس في الخندق
مع رفيقه مأسورًا في أحضانه. قفز قطيع العناكب البيضاء المزرق إلى الأسفل، واحدًا
تلو الآخر وهم يسحبون ويدفعون رفاقهم الذين سقطوا. ضاحكين طوال الوقت بأًصواتٍ
مرحة، من أعماقِ قلوبهم.
وبعد إدراك نواياهم، انحنت السكوربيون على
الجدران إلى الأمام، وركّزت نيرانها على الخندق. أصاب الوابل مقدمة الخندق في
محاولة لمنع الألكونوست من الاقتراب. ليتوقفوا في المقابل للمرة الأولى وأطلقوا
النار إلى أعلى، أين كشفت السكوربيون عن نفسها من خلال الميل إلى الأمام وضرب
بقاياها المدمرة في الخندق. أيضًا ركل أي ألكونوست أصيبت بقذائف العدو حيث ملأ
الألكونوست الذين تلوا الحفرة بإطلاقِ نارٍ لا يرحم.
بعد أن أدرك الفيلق الشجاع عادة حماقة إعطاء العدو المزيد من المواد للعمل عليها، انسحب خلف الجدران. واصل الألكونوست الاندفاع للأمام وإلقاء أنفسهم حتى وفاتهم بينما قام رفاقهم بتغطية نارية. هذا الجنون الانتحاري مثل مجموعة من المتعصّبين الذين يلقون بأنفسهم أمام أقدام تمثال إلهي يعبدونه ــــ الجاغرنوت...
وسرعان ما امتلأ الخندق الذي يبلغ عمقه عشرين
مترًا بهياكل الألكونوست الضخمة التي يبلغ وزنها عدة أطنان. استمرّ اندفاع رفاقهم
إلى الأمام، وعندما رأوا أنهم لا يزالون لا يتمتعون بالارتفاع الكافي، جلسوا
القرفصاء وتمسكوا بقاعدة الجدار. قفزت المجموعة التالية من الألكونوست فوق ظهور
الأولين، ومدوا أرجلهم للخارج بينما سُحقَ الأشخاص الموجودين تحتهم أثر ثقلهم.
باستخدام أجسادهم كأحجار بناء، قام الألكونوست بتجميع جسر فولاذي للأعلى.
ذات مرة، في العصور الماضية، قامت إمبراطورية
كانت تفتخر بتقنياتها الهندسية، ببناء طريق حصار
في وسط الصحراء يضم عشرات الآلاف من السجناء والعبيد لعبور جدار يبلغ
ارتفاعه مائتي متر، وكل ذلك لإسقاط قلعة منيعة في منتصفه. وكما لو كانت تلك
الحكاية مستوحاة، فقد شكل الألكونوست منحدرًا متجهًا نحو الأسوار ـــ وهو طريق
حصار يتكون من حطامهم المعدني. كانوا أنفسهم هم المكونات الرئيسية هنا، لكنهم
قاموا أيضًا بسحب أنواع سكوربيون إلى مسعاهم، بالإضافة إلى أمايزي الذين سقطوا
وقامت السايرينات بسحبهم ودفعهم للأسفل.
من خلال عبور هذا الجسر، ارتفع السطر التالي من
الألكونوست. سحقوا رفاقهم تحت أقدامهم، فقط ليسحقوا من قبل الوحدات التي ستأتي
بعدهم، واكتسبوا الطول تدريجيًا. استمرّت ضحكات الفتيات في الترددِ عاليًا، ولم
يكن الستة وثمانون قادرين إلا على المشاهدة بصمتٍ بينما الجنون يتكشّف أمام
أعينهم.
-
كان منظرٌ مرئيًا أيضًا للينا في مركزِ القيادة
أعلى الجرف.
" فيكا...! "
" لا يمكننا ترك الستة وثمانون يفعلون نفس
الشيء."
في اللحظة التي استدارت لمواجهته، لم يقم الصبي
الذي أمر بهذه التهمة الانتحارية بتقطيب جبينه حتّى. واعتلى محياه عينان باردتان
كقساوة الشتاء متجمدتان على الدُمَى
الضاحكة حتى وهي تُسحقْ.
" لا أستطيع أن أكون مقتصدًا مع هؤلاء
الفتيات وأترك رجالي والستة وثمانون يموتون في هذه العملية... بمجرّد أن يموت
أحدًا منهم، لا يمكن إعادته مرة أخرى. لا يمكن استبدالهم، ولا بأي شخص."
لحظتئذْ، جهلت لينا مغزى شفتيه المزمومتين. لم
تسمعه أبدًا يتحدث عن أمه التي فقدها إلى الأبد أثناء محاولته إحيائها، ولا عن
الفتاة التي أصبحت بمثابة قالب لـِليرش، والتي ماتت وتركته وراءها. لكن…
" لكنهم ــــ السيرين ــــ أمواتْ. إنهم
مجرّد تقليد للبشر، ليس لديهن حتى شخصيات خاصة بهن. تنتج السايرينات بكمياتٍ
كبيرة، ويمكن استبدالها. لا يوجد سبب للندم على استخدامها بهذه الطريقة."
تحدث وهو يبصق كلماته ببرود، دون أن يشيح
بعيدًا عن منظر الدمى وهي تتحطّم وتنهار. هو الذي أبقى إحداهن، ليرش، بجانبه
دائمًا... هو الذي أعطى تلك الفتيات غير البشريات اسمًا بشريًا ومظهرًا مختلفًا.
طعنَ منظر وجهه وهو يراقبهم قلب لينا وآلمها
كغرسِ سكين. إذن هذا هو الثعبان بارد القلب، الوحش العاجز عن فهمِ التعاطف
الإنساني، والذي يحاول الدفاع عن البشرية وعالمها باستخدام منطقه وأخلاقه الخاصة.
اندفع آخر ألكونوست إلى الأمام، متسلقًا
المنحدر الفولاذي مع صدى صوت الطقطقة والصرير من خطواته. وبعد رؤيته استدار فيكا،
آخذًا البندقية المضادة للدبابات من أحدِ الحرس الملكي، وخرج من مركز القيادة
برفقة جندي.
" أتركُ الغزو والأوامر لكِ أيتها الملكة.
سنقوم أيضًا بالهجوم. أعطني تعليمات بشأنِ التوقيت."
أوضحَ
من خلالِ أفعاله وليس كلماته أنه بعد فقدانه كل قواته، لم يعد له دور يلعبه هنا.
ركضَت الألكونوست الأخيرة مندفعة للخارج وقامت
بتمديد اثنتين من أرجلها العشرة لأعلى لتسلق الجدار. أُغرقت بالشظايا وتطاير جزءًا
من قمرةِ قيادتها، لكن حديد التسلق عند أطراف أرجلها حفرت في الوجه الصخري، وسكنت
بعد قفل جميع مفاصلها.
وهكذا، انتهت مسيرة موت العناكب ذات اللون
الأبيض المُزرق أخيرًا.
تبقّى على هذه الأرض ألكونوست وحيدة، التشايكا خاصة ليرش. لقد تخلّت الوحدة بأكملها عن حياتهم حرفيًا، وشكلوا طريق حصار مرصوف بالجنون المتجسد. بالقربِ من قمة المنحدر كانت لودميلا، التي علقت في طريق الحصار وبالكاد احتفظت بأي من شكلها الأصلي، مع قطع رقبتها ورأسها المتدلي رأسًا على عقب، محدّقة بغرابة في الأندرتيكر، شين الجالس في داخلها.
يمكنه القول عن ابتسامتها. والتواء جلدها
الاصطناعي وعضلاتها حتى بان هيكلها المعدني تحت ما تبقى من النصف الأيسر من وجهها،
لكنها أبدَت الرشاقة ببسمتها، وكانت سعيدة.
جميعكم، تعالوا الآن. وبكل الوسائل. بدا أنّ
ابتسامتها صرّحت بهذه الكلمات.
* * *
" تسك...! "
الرعشة التي اصطادت جسده أبَت أن تُقمع. والشيء
نفسه انطبق على رفاقه الغارقين بتِيهِ المشهد. وكلّ جاغرنوت في أوجِ قوّته تردّد
للحظة، متعثرًا بفكرة الدخول إلى طريق الحصار الغريب. وعلى أثر النيّة في التقدّم،
تجمّد شين مكانه عند وصول هدير الفيلق. أينَ بدأت أنواع سكوربيون وأمايزي التي
انسحبت آنفًا من نيران الألكونوست في الزحفِ خارجة من مخابئها.
وبعد كل ما شهدوه للتو، لم يتمكنوا من تركِ
تضحيات السيرين تُدفن عبثًا.
فصرّ شين أسنانه وهتفَ بصوته جازمًا.
" ــــ لنتقدّم."
" أأنتَ جادٌّ...!"
لا شكّ أنّه ريتو. ولم يأبى شين لكلماته متجاهًلا صراخه، وقد دفع عصا التحكّم للأمام. منطلقة الأندرتيكر في الطليعة تتبع آثار التربة السوداء التي خلّفها هجوم الألكونوست. ثمّ بعد لحظة من التأخير، تبعه رفاقه الأقرب الثعلب الضاحك والقنّاصة وساحرة الثلج. يليهم اندفاع الوحدات المتبقية من سرب رأس الحربة مقسِمةً أثناء ذهابها.
نجا معظم الحاضرين من الستة وثمانون لسنواتٍ من
ساحة المعركة في قطاعهم. لذلك ودون أن يُطلب منهم تلقائيًا قامت الأسراب المسؤولة
عن الحراسة الخلفية بفتحِ نيرانها لإخماد ما في المقابل. حيث تشبّث الجاغرنوت
بالسكوربيون الذي أطلّ برأسه أمامهم وركضوا محلّقين عبر السماء المغطاة بالثلوج
وخط النيران المشتعل.
وقتئذ، أصبح الثلج أثقل، كما لو كان إخمادًا
لنحيبِ السيرين.
وصلوا إلى خندقٍ مليءٍ بالحطام دون أن يقللوا
من سرعتهم مطلقًا، وصعد الأندرتيكر على جسرهم الغريب الذي شكّلوه من انتحارهم
مندفعًا فوقهم ومتسلقًا المنحدر على نفسٍ واحد. نظرًا لعدم ملؤه بموادِ بناءٍ
فعلية وأساسها ضعيف، كانت أرضية الطريق غير مستوية، ومن السهل تخطّيها دون تعثر.
وحتى مع تركيز أعينهم على الهدفِ في الوصول، ما
زالوا يرون بقايا السيرين المروعة التي تمهد لهم الطريق للأمام والطريقة التي
يُركلون سحقًا مع كل خطوة من الجاغرنوتز. كان سحقُ أنقاضَ ألغام ذاتية الدفع أمرًا
شبه يومي بالنسبة لهم، وإن كان للسايرينات أشكال بشرية، لكن الحقيقة هي لم يعودوا
بشرًا. ولم يختلفوا بشكلٍ أساسي عن الفيلق، الذي استوعب أدمغة قتلى الحرب لمواصلة
الحرب.
إنهم حتى ليسوا الدماغ البشري نفسه. والفرق
الوحيد مع الفيلق هو ما إذا كان تكرار البنية قائمًا على نسخِ شبكاتهم أو خلية
اصطناعية. ورغم ذلك كانوا نفس الشيء. ينبغي أن يكونوا نفس الشيء. تدمير الفيلق
والدوس على السايرينات أثناء تقدمهم...
" تسك...!"
لكن شعور الاشمئزاز الذي يخالجهم باجتياحٍ لا
يوصف لم يختفي. كان المشهدُ مروعًا مثل الركض فوق جبل من جثثٍ تتشبّث بساقيك وأنتَ
تسحقها، بينما ترفض تركك وتلتف حول أطرافك.
سمع شين همسات رفاقه حيث ثيو يتمتم " أنا
آسف..."، وتئن كورينا متألمة " أنا أكره هذا"، بينما تحاول أنجو
قمع الارتعاش في صوتها أثناء محاولتها تهدئة ريتو الذي يحاول يائسًا ألا ينفجر من
البكاء. على حافة شاشته البصرية، رأى ساق الأندرتيكر وهي تدوس على ظهرِ سيرين لا
تزال تحاول التحرك. في تلك اللحظة اتسعت شفتيها المنمقة في شيء يشبه الصراخ. كانت
يداها متشنجتين نحو السماء طلبًا للمساعدة أو ببساطة معطّلة، قبل أن تسقط بصمتٍ
بلا حول ولا قوة.
لم يكن لدى نظام الجاغرنوت وظيفة ردود الفعل.
بغض النظر عما يطأ عليه، لن يصل شيء إلى المعالج سوى اهتزازاتٍ طفيفة والتي لم
يستطع النظام العازل التعامل معها، وكان الجاغرنوت مزودًا بممتصاتِ صدماتٍ قوية
للسماح له بالمناورة بسرعة عالية، مما يعني أنّ الاصطدام بحجمِ إنسان لن يرتد
أثره.
ولهذا السبب إنّ الشعور بقشرة البيضة تنفجر في
يده أثر إحساسه وهو يمسك بعصا التحكم، وصوت الدوس الذي كان ينبغي أن يحجبه محرك
الجاغرنوت وخطواته، لا بد أن يكونا مجرّد أوهام استحضرها عقله. كذلك الصرخات التي
اعتقد أنّه سمعها، والدماء التي تناثرت ولطّخت مركبته.
بلغَ صرير أسنان شين احتكاك لا إرادي عندما ضغط
عليها بشدة.
……لا.
هو فقط لم يدرك. لم ينظر إليها على هذا النحو.
لقد نسي فقط أين كان.
كان حمل الاسم الشخصي بمثابة لقب مسموم ولعنة،
يُعطى لأولئك الذين هربوا من براثن الموت وعادوا أحياء من المكان الذي فُقد فيه
الكثير من رفاقهم حياتهم، إلى شياطين الحرب مثله حيث يواصل القتال بشربِ دماء
أصدقائه، وتكديس جثثهم. اسمٌ مخصص للوحش الذي عاد حيًا من قطاع الستة وثمانون في
الجمهورية، ساحة المعركة التي خرج منها واحد فقط من بين كل ألف.
لذلك
الشعور بالبؤسِ الآن سيكون كذبة.
لأنّ الطريق الذي سلكه حتى الآن، والذي قاده
إلى هذه القمة، كان مرصوفٌ دائمًا من بقايا رفاقه.
من أجل البقاء على قيد الحياة، داسَ فوق شخص
آخر. شخص ميت. وآخر كان لا يزال على قيد الحياة. شخص لم يستطع إنقاذه، شخص كان
عليه أن يتخلى عنه، شخص لم يتمكن من الوصول إليه. ودون أن يلاحظ ذلك، هكذا نجا،
مرّ على كلّ محتضر وسارَ فوق الجثث المتراكمة عابرًا برك الدماء أسفله.
ولم يكن ما يخطو عليه الآن مختلفًا. لقد واصل
المضي قدمًا، حتى لو كان ذلك يعني تجاوز جبل من الجثث. لقد حدث هذا المشهد ببساطة
ليكون مظهرًا لذلك. إذا كان القول أنّ المشهد بأكمله بؤسًا… فلم يكن طريق الحصار
هذا فحسب، بل المسار بأكمله هو الذي قادهم إلى هذه النقطة… وإنّ الأمرَ لا مفرّ
منه، لأنه لم يكن هناك حرب دون خسائر. لا يوجد أمة في التاريخ استطاعت البقاء دون
تضحيات.
فالإنسان ببساطة لم يعرف كيف ينجو بأي طريقة
أخرى.
لاحَ في مجالِ رؤيته رأسٌ عيناها لا ترمش،
صاحبته ذات الشعر القرمزي على قارعة جسرها فقدت وظيفتها وحياتها. لقد سقطت رقبتها
التي تمزّقت أثر اهتزازات ركض الأندرتيكر فوقهم. ثمّ تدحرجت بعيدًا عن الأنظار.
وهو وما تمزّق في داخله أخرجه شاهقًا جرحَ حلقه، ومنع دموعه من حرقِ وجنتيه.
لينا. أنا آسف. الناس يعيشون... البشر
يعيشون... أنا...
…لا
أستطيع أن أجدَ الجمال في هذا.
-
على عكس القصور، التي تسعى إلى تجسيد
السلطة وذروة الراحة، فإن أسوار القلعة هي هياكل أُسّست للمعركة، كسيفٍ ودرع ضد
الغزاة. كانت الجدران الشاهقة والخنادق الجافة والمغمورة التي تحيط بها أمرًا
مسلمًا به، إضافة إلى النوافذ الخدّاعة في الجزء العلوي من البوابات، والحواجز
متعددة الطبقات التي تصبح أعلى فأعلى كلما تعمقت، وكان مدخل القلعة محددًا فقط على
الطابق الثاني. ثمّ السلالم الحلزونية في اتجاه عقارب الساعة. على الرغم أنّ جميع
ما ذُكر آليات لم تكن فعّالة إلا في العصور التي كانت فيها السيوف والأقواس أسلحة
أساسية، إلا أنّها لا زالت تظهر قيمتها.
- صورة توضيحية للنوافذ الخدّاعة-
في الجزء الداخلي من القلعة في الساحة المقابلة
للجدار الجنوبي. تواجدت مجموعة من السكوربيون تنتظر أسفل الجزء العلوي من الجدار
مباشرةً، وتقوم بمحاذاة فوّهة مدافع الهاوتزر خاصّتها تحسبًا لهجوم العدو. لم
يتمكنوا من إيقاف بناء طريق الحصار، لكن لا يزال بإمكانهم منع التسلل من خلال
مهاجمة اللحظة التي يصبح فيها العدو أعزل أثناء محاولتهم الهجوم.
كان طريق الحصار عملاً سريعًا وبُنيَ بشكلٍ رفيع للغاية. وهو حماقة تامة على المستوى الاستراتيجي، حيث لا يزال يتعين على قوات العدو تقسيم نفسها، والتضحية بالمزيد من الأعداء لتشكيل هذا الطريق، مما يعني أنّ أعدادهم قد انخفضت فعليًا إلى النصف. لن يكونوا قادرين على حفاظ رسوم الحياة أو الموت هذه لفترة طويلة.
حينئذ
تجاوزت المراسي المعدنية ثغرات الأسوار المسننة، وحلقت باتجاه أعلى الجدران. اثنين
منهم. وأربعة خطوط من مخلبٍ قابع في كل طرف. اخترقت مراسيهم السلكية بعمقٍ الجزء
العلوي من السور، وثبّتَت نفسها. وفي اللحظة التالية، قفز اثنان من الجاغرنوتز على
جدار القلعة ومن كلا جانبي فوّهة أنواع سكوربيون أطلقوا نيرانهم.
- الصورة التوضيحية لثغرات
أسوار القلاع -
برزت علاماتهم الشخصية لثعلبٍ ضاحك وهيكل عظمي
مقطوع الرأس يحمل مجرفة.
"ــــ ما أنتم، متخلّفون عقليًا؟! بالطبع سيستهدفوننا عندما
تندفعون نحوهم وجهًا لوجه، فمن الأحمق الذي سيقوم بذلك؟ "
" لقد خطر ببالي بعد أن أخبرني داستن. من
المستحيل أن يعرفوا مواطنو الجمهورية السابقون بنظرية التسلل."
بصق ثيو تعليقه، متخلصًا من الألم الذي عاشه
منذ لحظات، بينما أنهى شين عقوبته، ببرودة التخلص من الآلام الكثيرة. وفي نفس
الوقت وقع انفجاران. زأرت أبراج الدبابات التي يبلغ قطرها 88 ملم، واخترقت خطوط
نيرانها ذات السرعة الأولية البالغة 1600 متر في الثانية أجنحة أنواع سكوربيون.
انفجرت المقذوفات متعددة الأغراض عند الاصطدام، مطلقة العنان لطوفانٍ من النفاثة
المعدنية وموجة من الشظايا التي أحرقت بلا رحمة أنواع سكوربيون غير المدرعة.
وبطبيعة الحال، لم تتلقى أنواع سكوربيون الهجوم
بشكلٍ سلبي. حيث ثبّتت أجهزة الاستشعار البصرية وأجهزة الاستشعار خاصّتهم أشعة
الليزر على الهدفين، وحاولوا توجيه اتجاهاتهم ضدهم وفقًا لخوارزميتهم التكتيكية.
حاولت...وفشلت.
أثناء محاولتهم تغيير اتجاهاتهم، اعترضت براميل أنواع سكوربيون الأخرى طريقهم. فاصطدم أحدهم بآخر وترنّح، مما منعهما من الحركة. كانت السكوربيون مكتظة في الهيكل الداخلي المحصور للأسوار، وظلت ثابتة وغير قادرة على الحركة. أفرغت الجاغرنوتز خراطيشهم في غمضة عين، مستهدفين أجنحتهم بوابلٍ لا يرحم.
داخل أسوار القلعة، ومن أجل تشتيت قوات العدو
الغازية إلى وحداتٍ صغيرة وقمعها بإعاقتها، قُسّمت التحصينات الداخلية نفسها
بالعديد من الحواجز، وينطبق هذا التقييد أيضًا على أنواع سكوربيون التي تحمل مدافع
طويلة على ظهورها. لا يمكن لأنواع المدفعية بعيدة المدى السكوربيون التي لا تحتوي
على برجٍ دوّار إطلاق النار في أيِّ مكانٍ آخر غير ما هو أمامها. ولأنهم الآن غير
قادرين على الهجوم المضاد أو المراوغة، فقد أصبحوا أهدافًا عاجزة.
على غرار الاثنين اللذين أخذوا زمام المبادرة،
قفز جاغرنوتز آخرون قطريًا بمراسيهم السلكية، وانضموا إلى الهجوم واحدًا تلو
الآخر. استخدموا نيران المدافع الرشاشة لتفريق الألغام ذاتية الدفع التي غطّت
الجدران لوقف أي غزاة، ثم استخدموا أبراجهم لسحق أمايزي التي اندفعت نحوهم.
أخيرًا هبطت الجاغرنوت برج القوس لداستن فوق
كومة من حطام السكوربيون، واستخدمت قاذف الدخان خاصّتها لتشكيل حاجزٍ من دخانٍ
أبيض، لإخفاء تحركات القوة الغازية. وتحت غطاء الدخان، سارع سرب كلايمور بقيادة
ريتو للاستعادة الحظائر مع فتح أبواب منصات الصواريخ على ظهورها لوحدات القمع
السطحي.
"ــــ إلى جميع وحدات الإطلاق. اقمعوا جميع الإحداثيات
المنقولة!"
أطلقت الوحدات نيرانها بأوامرٍ من لينا. وأبحرت
الصواريخ في الهواء فوق القطاع السطحي، تاركة وراءها آثارًا من الدخان الأبيض قبل
إطلاق القنابل العنقودية بداخلها، والتي أمطرت فوق القطاع وعلى الفيلق خفيف الوزن
الذي اندفع نحوهم. انطلقت الشظايا العبوة الخارقة المضادة للدروع الخفيفة، لتشكل
وابلًا من النيران التي تنتقل بسرعة ثلاثة آلاف متر في الثانية وتجتاح الأوزان
الخفيفة بصوتٍ يصم الآذان.
وهكذا قُمع الجزء العلوي من القلعة. كل ما تبقى
هو القضاء على بقايا العدو. في هذه اللحظة توقفت التشايكا بجانب أندرتيكر. وانفتحت
مظلّتها الخلفية مظهرةً وجه ليرش الصارخة:
" سيدي حاصد الأرواح، الآن، لدينا الفرصة!"
" نعم."
لم يتبقَّ أي ذخيرة لمدافعهم عيار 88 ملم. كان
لدى الثعلب الضاحك أسلحة رشاشة مُجهزة على أذرعه الفرعية، لذلك لم يكن ذلك يمثل
مشكلة كبيرة بالنسبة له؛ بينما الأندرتيكر مجهزًا بأسلحة مشاجرة، مما يجعله في وضع
غير مواتٍ في حالة اندلاع معركة بالأسلحة النارية.
في تلك اللحظة، رنّ نحيب غريب.
نحيبٌ شبحي لم يسمعه سوى شين. صوت رثاء ينسج
لغة ميكانيكية لا يستطيع فهمها. صوت العقل الميكانيكي البحت الذي لا ينبغي أن يكون
موجودًا الآن بعد مرور ست سنوات على سقوط الإمبراطورية.
كانت ساحة المعركة لا تزال مليئة بالدخان الأبيض، مما يجعل من الصعب على الجاغرنوت اكتشاف وجود بعضهم البعض. لكن قدرة شين استمرت خلال اضطرابات ساحة المعركة، واكتشف بدقة مصدر النحيب. ارتفعت المظلة الصخرية للقلعة في الأعلى مثل نسر ينشر جناحيه للدفاع عن فرخه. بين تلك الأجنحة العظيمة، وقفت شخصية بهدوء بين بقايا جمجمة النسر، التي سقطت في حربٍ سابقة.
ظلالٌ ذكية للمفترس المتوحش. وحدة استشعار تشبه
رأس الأسد وشفرة سلسلة على ظهرها، حساسة للغاية بحيث تبدو الأجزاء الفردية مثل ريش
الطيران. كان بإمكان شين أن يميز البريق المنبعث من زوج أجهزة استشعارها البصرية
الصارخة من خلال الدخان الأبيض.
الفونيكس.
* * *
التقط مظهرها بواسطة الكاميرا الخارجية الباقية بالكاد، وعرُضت على الشاشة ثلاثية
الأبعاد لمركز القيادة. فضاقت أعين لينا عندما نظرت إليها.
مظهرها…
بدا أنّ فريدريكا كان لديها نفس الفكرة عندما
عبسَ جبينها.
"…يبدو الأمر مختلفاً عن بياناتنا. ما خطب
أجنحتها؟ "
أجنحة. نعم أجنحة.
كان جسمها
الرشيق ذو الأربع أرجل، الذي يذكرنا بالمظهر الوحشي للأسد أو النمر، مغطّاة
بأجنحةٍ تشبه السكين ذات قشرة فضية. بينهما، في الجزء الذي يتوافق مع كتف الحيوان،
وقع هناك زوج من الشفرات الطويلة الممتدة، مما أعطى فونيكس صورة تقشعر لها الأبدان
لطائر غريفين يحلق في السماء.
-صورة توضيحية لطائر غريفين-
يهتزُّ كل جناح من جناحيه بحركاتٍ لا تشبه
حركات الكائنات الحية. لقد أعطى وهجًا رقيقًا والذي ليس انعكاسًا للضوء من الثلج
ساحرًا كل من وضع عينيه عليه. لقد كان توهجًا فضيًا معدنيًا يتدفق مثل السائل.
" الدرع السائل...؟!"
وفقًا للتقرير الذي قدمه شين، كان لدى فونيكس
درع أخف من أمايزي. نظرًا لمدى ضعف درعها، بمجرد إزالة جزء منه بواسطة رصاصة
متفجّرة، يمكن اختراقها بقذائف بندقية مضادة للأفراد عيار 7.62 ملم. بدون هذا
الضعف، لم يكن لشين أن يتمكن من هزيمتها.
في الواقع، كانت قدرتها على المناورة الذي بقي
في تسجيل الفيديو لمسجّل المهمة أمرًا يمكن حتى للينا أن تتذكره، والتي لم تتواجد
في الخطوط الأمامية. تمتعت بقتالٍ مذهل وسرعة عالية جعلت حتى الفيلق الآخر، الذي
تجاوز بالفعل القيود الأساسية للإنسانية، شاحبًا بالمقارنة. وفي تلك المعركة
الواحدة أدركوا ضعفها وانتصر هو عليها. أو ربما كانت ببساطة لا تزال قيد التطوير
في المرة الأخيرة التي واجهها شين.
لكن…
لحظتئذ
زمّت لينا شفتيها.
-
كان هجوم الفيلق المندفع إلى الحظيرة في كلِّ ممر شرسًا للغاية، وشُكّل مسار غزو للدخول من خارج القلعة. إذا فقد الفيلق السيطرة على السطح لصالح الجاغرنوتز، فسيهاجم القسم الموجود تحت الأرض بعد ذلك. وبعد أن أدركوا أنه سيتعين عليهم الاستيلاء على القلعة قبل حدوث ذلك، كررت أمايزي والألغام ذاتية الدفع اندفاعاتهم الانتحارية.
أخيرًا، انفجر وانهار الحاجز الأول للممر
الخامس بسبب تعرضه لنيران سكوربيون التي شقّت طريقها إلى المنطقة. في خضم المعركة
المحمومة، وصلت رسالة لاسلكية من سرب آخر إلى رايدن.
"ــــ نائب الكابتن شوجا!"
" ريتو؟! أين أنتَ الآن؟ "
" في غضون ستين ثانية سنكون أمامك مباشرة! ونقوم بالهجوم،
لذا تأكد من تجنبنا! "
" تسك ، إلى جميع الوحدات، أوقفوا إطلاق النار
وانسحبوا من أمام المصاعد! اهربوا من خط النار! "
بعد فترة وجيزة من قفز الجاغرنوتز و باروشكا
ماتوشكا، اندفعت نيران مدفع رشاش عيار 12.7 ملم إلى الجزء الخلفي من خطوط الفيلق.
أطلق الوابل في هجوم مفاجئ كلي من أعمدة المصعد المؤدية إلى المسار المعقد للعودة
إلى السطح. واستهدفت أمايزي من ظهورهم المدرعة الرقيقة، وتناثرت الألغام ذاتية
الدفع. بعد تجاوز بقاياهم المسحوقة، تسلل ريتو وسرب كلايمور إلى القطاع تحت الأرض،
وهاجموا الفيلق المتبقي الذي هرب وحاول تجنبهم.
" لقد سيطرنا على القطاع السطحي، كما يقوم حلفاؤنا بدورياتٍ
في الممراتِ الأخرى. لذا يرجى أن تتوجّهوا للأعلى يا نائب الكابتن شوجا!"
" نعم…"
فجأة، برزَ حدثٌ عقدَ جبين رايدن ورفع حاجبيه.
كان الدخول متهورًا غير متوقع وهجومٌ من نيرانِ مدافعٍ رشاشة عنيفة للغاية، لاحَ
فيها هجوم يائس تمامًا عندما اقترنت بصراخِ ريتو العصبي عبر الرنين.
وقد أصيب عدد قليل من أفرادِ باروشكا ماتوشكا
الذين فشلوا في الهروب في الوقت المناسب برصاصاتٍ طائشة وكانوا بخير نوعًا ما؛ لأن
درعهم الأمامي السميك كان قادرًا على الصدّ.
"...ما المشكلة يا ريتو؟ "
" لا شيء! "
لم يُخفى الشقّ اللاذع في ردّه. ولكن إن أوضحَ
أكثر من ذلك، لأغرقَ ملامحه دموعًا وانفجر فورًا. كان الأمر كما لو أنّه فقد للتو معظم
رفاقه، وظنّ أنّ جثته متناثرة فوق أكوام أجسادهم.
" حقًا لا شيء... لذا يرجى الإسراع فقط."
-
أخيرًا تلاشى الدخان الأبيض. وهبطَت فونيكس
مسيطرةً على ساحة المعركة عندما انقشعت ستائر الثلج عن الأبصار تدريجيًا وأصبح
أكثر خفوتًا. فوق مظلة صخرية تشبه أجنحة الطائر المحلّقة، كانت ساحة المعركة أسفله
محاطة بالعديد من أبراج المراقبة التي تعمل عكس اتجاه عقارب الساعة. هناك أينَ
تناثرت البقايا المعدنية للسكوربيون المدمّرة على الأرض على طول الهياكل الداخلية
للحواجز والأقسام الداخلية، والتي انهارت من وابلٍ من قذائف الدبابات.
علامات المعركة المروعة للغاية التي تغلغلت في اللونِ الأبيض الصامت. علامات قُبح الفساد وزعزعة الثبات.
في الجانب الآخر، كان بإمكان فونيكس رؤية
وتأكيد موقع الأندرتيكر في أعمقِ جزءٍ من صفوف الجاغرنوتز، لا يزال واقفًا على
جدار القلعة على الجانب الجنوبي الشرقي.
فرّق شين شفتيه مخاطبًا جميع الحاضرين وعيناه
مثبّتتين عليها.
" إلى جميع الوحدات، انتشروا. وتجنبوا
القتال المباشر بأيّ ثمن. قد تصابون برصاصٍ طائش."
كانت تميُل رأسها الشبيه بالوحش إلى الأمام،
ثانيةً أطرافها لاستجماع وبناء قوّتها.
إنها قادمة.
قفزَت في الهواء، وسقطت مباشرة إلى الأسفل
متحكّمة في وضعيتها بتلويحِ شفراتها المتسلسلة. وعند هبوطها على أحدِ بلاطات سقف
الأبراج، استخدمت التأثير لبناءِ زخمٍ تدفع نفسها للأمام. نحو الـأندرتيكر.
قفزت التشايكا بعيدًا عن طريقها، وحافظت على
مسافة حتى لا تتدخل في المعركة. بينما تخلّص الأندرتيكر من جميع خراطيشه الفارغة،
واستعد. بالمثل استقبلت فونيكس استعداده وقفزت مرّة أخرى إلى الحاجز مقلّصة
المسافة بسرعة مناوراتها عالية السرعة.
كان الأثر الوحيد المرئي لتتبعها هي قطع الخرسانة والجليد المتناثر في
الهواء بفعلِ تحركاتها. انقضّ ظلّها الفضي على الـأندرتيكر، واختلطت بين قفزات غير
منتظمة من جانبٍ إلى آخر في خطواتها...
متى…؟
" يا للإتقان. يجب أن تكوني أحمقًا من نوعٍ خاص لتندفعي بهذه
الطريقة."
ظهرت قذيفة مدفع بجوارها مباشرة. قصفٌ من مسافة
قريبة ومن مدفعِ دبابة سريع الانطلاق متجاوزًا سرعة الصوت. وقد كان مطلق النار
طاغية مختبئًا في ظلّ البرج. إنّها القنّاصة كورينا. وحتى لو تنبأت بمسار حركتها،
فإنها لا تزال فيلق معادي ذات نطاق سرعة يمكن اعتباره سلاحًا بريًا. كانت الأسلحة
النارية عديمة الفائدة ضد العدو، وكان القنص خارقًا يقطع كل الدعم من نظام التحكم
ويصوب نحو الهدف بناءً على حدسه وحده.
تحرّكت القذيفة بشكلٍ أسرع من الصوتِ الذي
تركته في أعقابها، واندفعت للأمام دون أي أشعة ليزر، لكن فونيكس اكتشفتها فقط من
خلال وميض الفوهة. فألغت قفزتها بكبحٍ مفاجئ، وبالكاد تمكّنت من تجّنب مسارها.
لكن.
الطلقة، التي كان من المفترض أن تُخطئ هدفها
عندما خرجت عن مسارها وساهمت في هروب الفريسة، انفجرَت وامضة ومدمّرة أمام فونيكس
مباشرة. انتشرت ألسنة اللهب وموجات الصدمة في كل الاتجاهات بسرعة ثمانية آلاف متر
في الثانية. لقد تطايرت الشظايا التي أطلقتها بسرعة أكبر حتى من قدرة فونيكس على
مراوغتها.
فتيلُ القرب. كان في الأصل فتيلًا خاصًا مخصصًا
للاستخدام المضاد للطائرات، وقد ضُبط للانفجار وإطلاق شظايا حتى بدون التأثير في
حالة دخولها المجال الكهرومغناطيسي للهدف. ونظرًا لعدم قدرتها على تجنب العديد من
الشظايا، سقطت فونيكس أرضًا. من الواضح أنهم لم يخترقوا درعها، لكن بعض السائل
الذي يغطيها تمزق وطفت في الهواء كبتلاتِ الزهور.
"ـــــ مرحبًا أيّها الغبي."
أثناء انتظارها بالقربِ من نقطة الهبوط
المتوقعة، ابتسمت ساحرة الثلج بلا رحمة أو بالأحرى أنجو التي بالداخل. حيث انفتح
في اللحظة التالية، قاذفة الصواريخ الموجودة على ظهر مركبتها وأطلقت النيران.
انطلقت الصواريخ في الهواء في مساراتٍ متعرجة مختلفة، منفجرة واحدة تلو الأخرى حتى
اندفعت قنابل فرعية باتجاهِ فونيكس وأسقطت وابلًا عليها، والتي قصفت جميع طرق
الهروب الممكنة، بما في ذلك الطريق الذي اختارته فعليًا.
انغمست فونيكس تحت وابل الرصاص الذي طاردها دون
توقّف، وكما لو أنّه حكم عليها بأنّه أمر لا مفر منه، تقدمت مندفعة بقوة وهربت
محلّقة.
"ــــ ها، إنّها آتية. كما يقولون، الأغبياء يحبون الأماكن
المرتفعة!"
قامَ الثعلب الضاحك، الذي انتظرَ مع مرساته
السلكية المثبتة على بلاطِ السقف المائل لأحد الأبراج، بتوجيه المدافع الرشاشة
الثقيلة في كلا ذراعيه المتصارعتين نحوها. ثمّ سحب ثيو الزناد. وبينما كانت فونيكس
في الهواء متحركة بشكلٍ غير طبيعي، تلقّت الرصاصات القليلة الأولى مباشرة. بعدها
قامت بتحريكِ نصل السلسلة في قوسٍ عريض، لتحفر بشدة في الحائط كمرساة مرتجلة وضغطت
عليه ليرتد بقوة فارّةً من منطقة المدافع.
تخلّى الثعلب الضاحك على الفور عن موقع إطلاق
النار وطار نحو برج آخر بمرساته السلكية في محاولة لملاحقتها، عندها بدأ جاغرنوت
جديد في قنصها. قامعًا منطقة أخرى عن طريق القنابل الصغيرة. إنّها نيران مدفع رشاش
ويروولف الذي سارعَ من الحظائر.
"ــــ يبدو أننا نصطاد وحش بري هنا. أشعر بالأسفِ من
أجلك."
وانهارت بعدة قذائف دقيقة من عيارٍ صغير بعد
محاولتها الهروب والقفز على المتراس المرتجل. حفرت آثار الهجمات بعد سقوطها في
الأسوار تاركة ثقوبًا. لم تكن مندفعة من مدافع الجاغرنوت عيار 88 ملم ولا من
الباروشكا ماتوشكا عبار 120 ملم، بل من بنادقٍ مضادة للدبابات عيار 20 ملم فقط...
فاعلها عدة أشخاص قاموا بالإطلاق عليها، ضمنهم كان جلالة الأمير نفسه.
أخيرًا، تخلّصت فونيكس من وابل الطلقات الخارقة
التي تستهدف أجنحتها، وتهاوت ناظرة حولها من المناطق المحيطة. كان الفيلق عبارة عن
آلاتٍ قتالية، وتميّزت هذه الآلة على وجه الخصوص بذكاءٍ ميكانيكي خالص، لذلك من
المحتمل أنها لم يكن لديها أي شيء مشابه للعواطف. ولكن إذا فعلت ذلك، فستكون الآن
هي اللحظة التي تنقر فيها على لسانها منزعجة.
كانوا في كل مكان. فوق الجدران، فوق الحواجز
التي تفصل مجمع القلعة إلى قطاعات، وفوق أبراج المراقبة. في ظلالِ المرافق ذات
الترتيب الغريب وتصميماتها الداخلية. جميعهم تجنبوا خط نيران الآخرين، باستثناء
فونيكس في منتصفِ فوضى أعدائها. وقد امتزجت ظلالٌ بيضاء للجاغرنوتز مع الثلج أثناء
محاصرتها.
-
همست لينا ببرودٍ وهي تنظر إلى الوضع على
الشاشة المجسّمة.
" من المؤكد أنّ سرعة حركتها وأداء
مرونتها أمران مذهلان... لكن هذا لا يعني أنه لا توجد طريقة للتعامل معها."
ولا شك أنّ سرعتها، التي جعلت حتى التصويب
التلقائي لجميع أنظمة التحكم في النيران عديمة الفائدة، لا مثيل لها بالنسبة
لسلاحٍ بري. ومع ذلك، فإنّ الأسلحة الحديثة قادرة على تحقيق سرعات أعلى وقدرة
كاملة على المناورة بـِـ 32 بُعدًا، بل إنّها أسقطت حتى الطائرات المقاتلة، التي
سيطرت على سماءِ ساحة المعركة حتى حرب الفيلق.
كان أحد هذه الأسلحة هو فتيلُ القرب، الذي يبدأ
عمله عند الاقتراب من العدو حتى لو لم يؤثر عليه، ثمّ يطلق العنان لطلقةٍ من
الشظايا المنصهرة. أو الرؤوس الحربية العنقودية، التي تطلق وابل من القنابل
الصغيرة القادرة على تغطية نصف قطر واسع في وقتٍ واحد. أو المدافع الرشاشة
والمدافع الآلية، التي تطلق عشرات الرصاصات في الثانية الواحدة خلال دورة هجومها،
لتشكل وابلًا كثيفًا.
إذا لم تتمكن أنظارهم من مواكبة ذلك... إذا ثبت
أنّ التصويب وإطلاق النار في نقطة واحدة أمر مستحيل...
" نحتاج فقط إلى ضربِ منطقة كبيرة... هذا
كل ما في الأمر."
هذا هو الإجراء المضاد الذي انشؤوا، سواء من حيث التكتيكات أو الأسلحة التي سيحتاجون إلى استخدامها. السبب الوحيد الذي جعل شين يكافح كثيرًا ضد فونيكس في المرة الأولى هو أنه لم يواجه شيئًا كهذا من قبل، وبطريقة ما، بسبب طبيعته كمحارب. كانت الأندرتيكر وحدة متخصصة في قتال المشاجرة وتفتقر إلى أي أسلحة واسعة النطاق. سيكون من الصعب عليه أن يقوم بهجومٍ مضاد فعال بمفرده.
" كنتُ أتساءل كيف سنستدرجها إلى الوابل،
لكن لم أتوقع أبدًا أن نستخدم أندرتيكر كطعم." وقد تابعت فريدريكا : "
إنّ الدم الذي يجري في عروقكِ أبرد مما ظننت يا فلاديلينا."
" هدف العدو هو إبادتنا والاستيلاء على
شين. وطالما أننا نعرف ذلك، ليس لدينا خيار سوى الاستفادة منه."
كان أكبرُ فشل لـفونيكس في معركته السابقة هو
أنّه سمح لشين بالهروب، عودته بتقاريرٍ غنيّة بالمعلومات القيمة، مثل حساب وتقدير
مواصفاتها... وأهدافها. لم تقتل شين عندما كانت قادرة تمامًا على القيام بذلك،
وهذا التسلسل المشبوه من الإجراءات جعل هدفها واضحًا تمامًا.
وبما أنهم علموا ما كانت تسعى إليه، فيمكنهم
استدراجها بالطعم. من وجهة نظرهم، كانت فونيـكس ذئبًا أحمقًا جائعًا استدرجوها إلى
شبكتهم المحيطة عن طريق تعليق فريسته المرغوبة أمام عينيه. نعم، لقد تغلبت بمفردها
على سربٍ كامل من مركبات الريغينليفز ودمرتهم جميعًا دون تلقي ضربة واحدة. ومن
المحتمل أن تكون قد رأت أنّ الفجوة بين قدرتها القتالية وقدرات ريغينليفز كانت
كبيرة.
وبناءً على هذا التقدير، لم تهتم بأيِّ شيء سوى
هدفها ذو الأولوية القصوى، شين الذي كان قوة يجب الحذر منها. لذا قاموا باستخدام
وحداتهم كطعمٍ لإغرائها باتخاذ قرار خاطئ وإغراقها بأعداد هائلة.
وكان تكتيكًا جبانًا تمامًا. لقد اعتقدت أنهم
قد لا يعجبهم ذلك، ولكن بمجرد أن اقترحته كإجراءٍ مضاد بعد العملية الأخيرة في
المحطة، كان الستة والثمانون، بما في ذلك شين، غير مبالين إلى حدٍّ ما بالفكرة.
في الأصل، استندت الإستراتيجية الأساسية للستة
وثمانون إلى إشراكِ وحداتٍ متعددة من الفيلق. ولم يكن لديهم خيار سوى الاعتماد على
الفخاخ، والإغراءات، وتكتيكات فردية مقابل العديد إذا أرادوا هزيمة الوحش الفولاذي
الذي يتباه بأداءٍ عاليٍ يفوق المنطق السليم، بآلاتِ الألمنيوم الرديئة الأخرى.
لذلك لن ينظروا إلى هذا التكتيكِ على أنه تكتيك جبان.
" مساعدة روزنفورت. يتولى الكابتن نوزين
حاليًا مسؤولية مراقبة موقع وحدة العدو، وستنضم الملازمة الثانية ليدا إلى المعركة
بمجرد انتهائها من إخلاء المنشأة. ومع ذلك، كلاهما أفراد قتاليين. سنعتمد عليك
عندما لا يكون لدى الاثنين الحرية في إصدار التحذيرات."
وقتئذ سخرت فريدريكا بلطف.
" لقد طلبت منكِ أن تناديني بفريدريكا،
أيتها الحمقاء... فهمت. يمكنكِ ترك الأمر لي."
-
نصبت الجاغرنوتز بالفعل أفخاخهم في جميع أنحاء القطاع السطحي. فوق الجدران والفواصل، على قمم الأبراج، بين متاهة الحواجز والأبنية. لقد حاصروا فونيكس من جميع الاتجاهات الأربعة وما فوق. بينما تحاول هي الاندفاع متهرّبة ومخترقة الحصار، ولكن أينما ظهرت، تعرضت لكمين، تاركة في أعقابها رذاذًا فضيًا.
موجة من طلقاتِ الرصاص. مطرٌ من قنابلٍ صغيرة.
زأرت المدافع الرشاشة مثل الوحوش، وطلقات البنادق المضادة للدبابات تمزّق الهواء
البارد خلال توجّهها نحوها. ولزيادة الأمر، عصفت المئات من الكرات الفولاذية
برذاذٍ اقتحم هيكلها والتي بدا أنّ سرب المشاة ركضوا لنصبها أثناء المعركة الشرسة
بين الأسلحة المدرعة.
صيد الوحش الأكبر.
أثناء تحديقها في الشاشة ثلاثية الأبعاد،
اعتقدت لينا أنّه لا يوجد اسم أكثر ملاءمة لهذه المعركة. إنهم يجمعون حكمتهم
وأسلحتهم لاصطيادِ وحشٍ شرس، ماكر، خطير وأقوى من أيّ إنسانٍ بكثير. وكانت هذه
طبيعة هذه المعركة.
" سرب فالشيون وسرب جلايف، غيّروا
مواقعكم إلى القسم الثالث الجنوبي. كابتن نوزين والملازمة الثانية ليدا استخدموا
الأندرتيكر لاستدراجها إلى المبنى المذكور... اكتُشفَت بقايا العدو في الممر
الثالث والعشرين. سرب ماسي، انتشروا هناك لإبادتهم. "
" عُلمْ."
امسحوا الأعداء المتبقين في القطاع تحت الأرض
واصطادوا الوحشَ الموجود على السطح. عندما قامت لينا بتحريك قطعِ عدة أسراب في
ساحتيّ المعركة في نفس الوقت، أشرقَ الضوء الذي يمر عبر السيكادا في أنماطٍ مذهلة.
أضاءت إشارة إلى عملها بكفاءةٍ عالية وسط الضوء الخافت لمركزِ القيادة.
وأثناء تهربها من الهجمات، رفعت فونيكس رأسها
الشبيه بالوحش كما لو كانت تدعو إلى شيءٍ ما.
وما
حدث تاليًا هو انخفاض كثافة السحبِ في الأعلى ورفرفة قطيع الآينتاكسفليكا إلى
الأسفل، مُخفيًا ظلالها الفضّية عن الأنظار بانتشارِ تمويهٍ بصري. ثمّ ركلت أرجلها
غير المرئية الأرضَ بصوتٍ مدوي، ولم تترك سوى آثار الأرضية المتشققة تحتها كبصمةٍ
أخيرة لها عندما اختفت إلى مكانٍ ما.
" ــــ ميتشي، خلالَ خمس ثوان، وإلى الأمامِ مباشرة...
إطلاق!"
" نعم سيدي! "
امتثالًا لتعليماتِ شين الذي كان قادرًا على
إدراكِ موقع العدو، وبغض النظر عن قوانينِ الفيزياء، استجابت فصيلة من ستةِ وحدات
على الفور. أطلقوا جميعًا العنان لوابلٍ من نيرانِ المدافع الرشاشة التي مزّقت
تمويه الآينتاكسفليكا وانكشفت فونيكس مرة أخرى. لكنّها قفزت نحو الغطاء متجنّبة خط
النار الذي لا ينفكّ عن ملاحقتها. ثمّ ما لبثَ أن اعترضت دعامة خرسانية سميكة
طريقهم، وفقدت أجهزة استشعار الجاغرنوت الضعيفة موقعها.
" هذا سهلٌ جدًا! كرو، فقط أعطها حصة جيدة من طلقاتِ
الرصاص!"
" أنا أعلمُ يا ليدا، أنتِ فقط اكبحي حماسك."
تصاعدت قهقهات شيدن على مسمعهِ، والتي أزالت
الأعداء في حظائرِ الطائرات وتركت الدفاع إلى وحدةِ حراسة مركز القيادة صاعدة إلى
السطحِ للمساعدة في الاستطلاع.
" الطريقة التي تقدّمها في توجيه الأوامر مماثلة لحاصد الأرواح وهذا يجعل بشرتي تقشعر، رغم ذلك... هيا أيّتها الطفلة، ما التالي؟!"
" لا تدعوني بطفلة، أيتها الحمقاء الوقحة!
إلى القطاع الخامس الجنوبي، الممر المركزي، أطلقوا النار!" صاحت فريدريكا
وعيناها القرمزيتان تتوهجان بخفوت. أطلقت الصواريخ الصغيرة، تاركة آثارًا من
الدخانِ الأبيض لتنشيطِ الباحثين عنها، متجهةً نحو فونيكس. ونهضت وحدات المشاة
المختبئة على أسطح المنشآت حاملة على عاتقها قاذفات صواريخ أرض جو ثقيلة وأطلقت
النار على الخصم.
قفزت فونيكس مجددًا في محاولة لتفاديهم، لكن
الصواريخ أخذت منعطفًا حادًا وتعقبتها بدقة. صاروخ موجّه نشط. رصاصة سحرية فولاذية
تنبعث منها موجة استهداف تطارد العدو بمجرّد التقاطه، حتى نفاد الوقود الدافع أو
إصابة الهدف.
توقّفت فونكس فجأة وظهرها على الحاجز، مواجهة
الصواريخ القادمة وجهاً لوجه. وإدركًا لنوايها، تراجع جميع الجاغرنوتز المحيطين
بها. شفرات السلسلة التي كانت بمثابة عُرفها ارتفعت عاليًا. لقد استخدمت زوجًا من
الشفرات الدوارة لقطعِ خطٍّ واحد من الصواريخ ثمّ سحبت المجموعة الثانية قافزة
عليها تمامًا. جعلت الحركة المفاجئة الصواريخ إما تفقد مسار فونيكس أو ببساطة غير
قادرة على تغيير المسار في الوقت المناسب، واصطدمت جميعها بالحاجز وانفجرت.
انهار الحاجز الخرساني المسلح السميك مع صوت
هادر. واختلطت فونيكس بالغبار والدخان، راكلة الجدران من اليسار إلى اليمين،
متجهةً نحو المظلة...
" تفعيل!"
بأمرٍ حادّ، انطلقت الأسلاك الكهربائية أفقيًا
من كلِّ برجٍ في القمة، ونُشرت شبكة مرتجلة في الهواء تسببت في سقوط فونيكس في
منتصف قفزتها.
ـــــــــــــــــــ ؟!
فور سقوطها على الحجارة، نهضت فورًا على قدميها
وقفزت بعيدًا في الهواء مظهرة بوضوح تحرّكها بطريقة مماثلة. من المحتمل أنها لم
تتخيل أبدًا أنّ لديهم هذا النوع من الفخ السخيف. تحدث فيكا عبر الرنين حيث كان
الوحيد الذي تفاعل مع الموقف بتسلية.
" هذا فخٌّ نصبناه للإسقاط الطائرات في حالةِ تعرض القلعة
للحصار بغارةٍ جوية، بأسلوبٍ " لتمُت نفسي مع كلّ شيء"... هيه، كان لدى
أسلافي تصرفات ملتوية للغاية، حتى أنني أقول ذلك بنفسي."
أدلى رايدن على الفور تساؤلًا يحمل الذهول: "أكاد أخشى أن أسأل،
لكنك لم تضع أي قنابل ذاتية التدمير في قاعدتك، أليس كذلك أيها الأمير؟"
"همم؟ بالتأكيد فعلت ذلك. هذا الطبيعي. ألا توافقني في أنّ
هناك جماليّة مُختلفة لتدميرِ قلعةٍ هاويةً مع العدو؟ "
"………"
شكّت فريدريكا في نظرها عندَ تململ مارسيل في
محاولةِ الوقوف على قدميه للحظة رغم الخوف.
ثم همست قائلة: "لقد بدأت أشك في أنّ...
عائلة إيديناروك إسبيرز ككل، هم مجرّد حمقى بطابعِ الذكاء..."
ولم تستطع لينا إلا أن تشعرَ بنفسِ الطريقة.
…حسنًا على أي حال.
" اختُرقَ قسم الحاجز الثاني للقطاع
الخامس. وُجبَ على جميع الجاغرنوتز في القطاع المذكور أن ينتقلوا إلى القطاعين
الرابع والسادس المجاورين. إلى سرب سكاي هوك، يرجى التوجه للمساعدة. سرب ليكاون،
إنّ ذخيرتكم على وشكِ النفاد، صحيح؟ قوموا بتغييرِ الأماكنِ مع سرب سايث."
ظهرَت رسالة منبثقة في إحدى النوافذ الفرعية
لإعطاءِ تقرير. عن إزالةِ حصار البوابة الأمامية، وبدأ السكافنجر في دخولِ
القاعدة... دون تمكّن فيدو ومجموعته من تسلّقِ الجدران العمودية والمجيئِ معهم،
لذلك كان عليهم الالتفاف والصعود عبر الطريق الأمامي ليصلوا.
" سندخل ونسحقهم. لا تمنحوا العدو لحظةً
للراحة."
"…لا."
صورة توضيحية للدرع المتباعد ومنعه لاختراق القذيفة :
على الرغم من أنّ درعه السائل حتى الآن قد
دُمّر إلى حدٍّ كبير بسبب الهجمات والدفاعات، إلا أنّ الضررَ الذي لحق بالهيكل
الرئيسي نفسه كان خفيفًا. من ناحية أخرى، بدأت عدة وحدات الجاغرنوتز في الانسحابِ
من القتال تدريجيًا. من ضمنهم الثعلب الضاحك الذي أُجبرَ بعد أن استنفد ذخيرة
مدفعه عيار 88 ملم ورشاشيه الثقيلين. ومركبة القنّاصة التي قُطعت ساقيها بعد
اتّخاذها خطأً في التراجع، وسمحت للعدو بالاقتراب كثيرًا. فاضطّرت ساحرة الثلج إلى
التّخلي عن حجرة الإطلاق الفارغة وسحبتهم بعيدًا.
كما دُمّرَ خمسةٌ من أبراجِ البنادق المضادة
للدبابات، واضطّر المشاة إلى التراجعِ عن الخطوط الأمامية بعد استنفاد ذخيرة
أسلحتهم المحمولة. وأخيرًا، تحطّمت الأبراج والحواجز واحدًا تلو الآخر أيضًا. أيّ،
لقد انهار الحصار. ووصل فيدو ومجموعته من السكافنجر، لكن أمر التقائهم سيستغرق
وقتًا حتى يعيدوا تجميع صفوفهم وتخزينهم، وحتى ذلك الحين، عليهم الحفاظ على قوتهم
القتالية الحالية بطريقة ما...
حينئذ توقّفت فونيكس فجأة في الزاوية التي
انهارت فيها معظم المرافق بسبب القصف. وأدارت رأسها مثل الحيوان، مؤكدة مواقع
الجاغرنوتز المحيطة بها. ثمّ دمجَت عدة طبقات من الدرعِ الشبيه بالريش الذي يغطي
هيكله، وحوّلها إلى شكلِ أسطوانةٍ رفيعةٍ ملتفّة. برميلِ بندقية. رفيع وطويل جدًا
حيث سرعته الأولية فائقة للغاية!
"— طلقاته إلينا قادمة! تجنّبوه!"
في غمضةِ عين، انتشرت خيوط فضية في كل
الاتجاهات وسطها تواجدت فونيكس. وهذا على الأرجح تحولًا آخر للدروع. وكانت القذيفة
المُتشكّلة مسمارية كبيرة وحادّة، وآلية إطلاق النار إما تعمل بالهواء المضغوط أو
بقوة الطرد المركزي. لقد اعتقدوا بحماقة أنه نظرًا لعدم قدرة فونيكس على حملِ
أسلحة ثقيلة من القذائف، فإنها لم تكن قادرة على شنِّ هجماتٍ بعيدة المدى.
بدا أنّ القذيفة لا تمتلك القدرة على اختراق
درع ريغينليف الخفيف، لكنها لا تزال كرة ثقيلة تتحرك بسرعة عالية، وطلقة واحدة
استنفدت معظم الدرع السائل. ترنّح الجاغرنوت الذي تلقّى ضربةً مباشرة بشدة وتوقف
في مساراته. ثمّ في قفزةٍ واحدة، اندفع فونيكس عبر الفجوة التي أحدثها.
اقترب رذاذها الفِضيّ من ظلالِ العملاق القابع
في إحدى زوايا شبكة التطويق المخترقة. ولوّحت فونيكس بشفرةِ السلسلة اليسرى بشكلٍ
مائل لتقطع كيكولوبس أثناء مرورها.
" كشش، أيّها الصعلوك!"
نقرت شيدن على لسانها منزعجة. نظرًا لأنها لم تستطع التهرب منه، فقد قرّرت غريزيًا جعله يتجنبها بدلاً من ذلك. وكما كانت تنوي، حركت فونيكس مسارها بعيدًا عن خطّ النار خاصّته، نتيجة لذلك، انحرف أيضًا عن المسار الذي من شأنه أن يقطع كيكولوبس إلى نصفين. وبعد لحظة من التأخير المؤقت، اصطدم رأس حربي مقطوع إلى ثمانية بظهر فونيكس فانهار دون صوت وانفجر.
انتقلت موجات الصدمة من قذيفة رأس القرع شديدة
الانفجار إلى الدرعِ السائل لـفونيكس، مما أدّى إلى تشتيتها بعنف. ولكن في الوقت
نفسه، قُطعت كوكولوبس من مدفعها الرشاش الأيمن إلى ساقيها الخلفية والأمامية
وأُجبرت على السقوط.
" شيدن! "
" أنا بخير... لا بأس بذلك."
استطاع شين سماع شيدن وهي تصرّ على أسنانها
عندما انطلق تنبيه القرب عبر قمرة القيادة.
"آسفة، لقد تجاوزتني... إنها في طريقك الآن يا جاذب
النساء!"
-
" لقد وصل إلينا...! شين!"
شحب لون لينا عندما رأتها تخترق الحصار. وكان
ذلك ضمن نطاق الاحتمال المتوقع. في المقابل لم يتمكّن طُعم فونيكس الأندرتيـكر من
التراجعِ عن القتال حتّى مع نفاد ذخيرته. ومن أجل التنبؤ بمسار حركتها، كان من
الضروري إحاطتها وفتح لها مجال واحد وهو رؤيتها لموقع الأندرتيكر... وكانوا يدركون
جيدًا المخاطر التي ينطوي عليها ذلك.
امتلكَ شين القدرة على الحركة التجاوزية وكان
مسلّحًا لقتال المشاجرة. كلاهما لهما نفس الخصائص، لكن فونيكس تفوقت على أندرتيكر
في كليهما، مما جعل الأول العدو الطبيعي للأخير. حقيقة أنّ شين عاد حيًّا من
مواجهته الأخيرة لم تكن أقل من معجزة.
لكن هذه المرة…
اندفعت فونيكس إلى الأمام، ملوّحةً بشفراتِ
السلسلة. بينما قام أندرتيكر بتحريكِ اثنتين من ساقيه إلى اليسار، واستعدّ نصف
جسده للصدمة.
اشتَبكوا.
قطعت شفرة أندرتيكر عالية التردد درع فونيكس من
اليسار...
...وبالمثل اخترقت شفرات فونيكس قمر قيادة
الأندرتيـكر بسهولة كما لو كانت تقطع الماء.
* * *
<< رفض إصلاح الهدف. تأكيد الهزيمة. >>
<< تأكيد تدمير الدروع الداخلية. تأكيد غياب
التفاعل البيولوجي. تأكيد-->>
* * *
أدلَت ليرش ابتسامة ملتوية من داخلِ قمرة
القيادة المدمرة لأندرتيكر.
" لقد فاتتك، يا قطعة الخردة
المعدنية."
" إذن، لا يمكن أن تفرّقنا إلا من خلالِ
مظهرنا الخارجي؟ أسلحتنا وعلاماتنا الشخصية."
لحظتئذ، همس شين من داخل قمرة قيادة
التشايكا، التي حضَرت خلف فونيكس. حيث قام بتبديل أماكنه مع ليرش فانتقل من
الأندرتيكر نافد الذخيرة إلى التشايكا بعد استعادتهم قطاع السطح مباشرةً، وتحت
غطاء حاجز الدخان الذي أنشأه جهاز تفريغ الدخان الخاص بداستن.
لم يكن لديه وقتاً لانتظارِ فيدو بصبرٍ وإعادة
تزويده بالذخائر، لذلك نظرًا لمواجهة سرعة فونيكس كان عليه أن يلاحقها عبر مجال
رؤيته بشكلٍ أسرع مما يستطيع المواكبة.
كان مصدر الفكرة لينا وأمر بها فيكا لاحقًا؛ لا
يعني أنّ الجاغرنوت والألكونوست أسلحة من بلدان مختلفة شيئًا طالما أنّ كلاهما
كانا فيلدريß من
نفسِ الجيل، ومن المفترض أن يقودهما البشر أو أشباه البشر. فيما يتعلق بوظائفها
الضرورية والعقلانية المريحة التي تقف وراءها، كانت المفاتيح والمقاييس الخاصة بها
كلها متشابهة إلى حدٍ ما. على هذا النحو، لم يكن تجريب أحدهما بدلاً من الآخر
أمرًا لا يمكن إتقانه بعد بضع جلسات تدريبية على التبديل.
استقرّت أنظار شين على فونيكس للمرة الأولى، والتي أصدرت إشارة صوتية
إلكترونية تشير إلى أنها كانت مثبتة على هدفها. قام شين بسحبِ الزناد، الذي تواجدَ
على موضع إصبع السبابة لعصا التحكم اليمنى، وهو الموضع الوحيد الذي لم يتغير أبدًا
في أي نظام سلاح.
ثمّ ضربَ من مسافةٍ قريبة من خلفها، بهجومٍ
مفاجئٍ كامل. ولزيادة الوضع، دخلت شفرة سلسلة فونيكس اليسرى في الأندرتيكر،
مما أفقدها القدرة على الحركة. ومع ذلك،
فإن غرائز الآلة القتالية دفعتها إلى تغييرِ شفرة السلسلة اليسرى. لقد حوّلت معظم
درعها إلى شكلٍ سلكيّ،
وطعنته
في الأرضِ ليطرد جسده بعيدًا. في حركةٍ كانت أسرع قليلاً من القفز أو الابتعاد،
مستفيدًا من إخلاء معالجه المركزي بعيدًا عن خط النار.
وبعد لحظة، خدشت رصاصة الحرارة المتفجّرة على
جانب درع فونيكس ولكنّها حلّقت بلا فائدة. أدت الطاقة الحركية المحيطة بها إلى
إزالة البقايا الصغيرة من الدرع السائل والدرع الأسود والإطار المعدني الموجود
تحته.
"...تسك."
كان من المفترض أن يكون هجومه ضربة مضمونة،
لكنه لا يزال يتجنب التأثير الكامل. لم يستطع شين إلا أن يضحكَ على سرعة رد فعل
فونيكس السخيفة. لم يسبق له أن يفتقد هذه المسافة أبدًا خلال سبع سنوات من خبرته
القتالية. لكن الآن…
" لقد تخلصتَ أخيرًا من كل دروعك أيها الأحمق."
انفتحت مظلة الأندرتيكر وانطلقت صاعقة متفجرة،
ومن أسفل المظلة المنفجرة قفزت ليرش مثل الرصاصة. كانت ساقها اليمنى مفقودة
بالكامل، ودماء السيرين الزرقاء الزاهية تنزف منها، تأكيدًا على خدشها من قبل
شفرات السلسلة. تشبثت بدرع الجاغرنوت بساقها وذراعيها المتبقيتين، وجثمت مثل حيوان
قبل أن تدفع جسدها إلى الأمام.
مع غمد السيف في فمها ويدها اليمنى على مقبضِ السيف نفسه، هزّت رأسها بقوّةٍ ساحبة إيّاه كأسدٍ ينقضّ على فريسته. أُطلقَ النصل، الذي أحدثَ ارتدادًا من رقاقاتِ الثلج، لصرخةٍ عالية صدَحت وأصبح متوهجًا في اللحظة التالية.
شفرة عالية التردد. صُنع في الأصل لاستخدام
فيلدري ß،
ولم يكن سلاحًا مصممًا لاستخدامه في القتال الفعلي بالأيدي. حينئذ تمزق الجلد الاصطناعي
ليد ليرش إلى أجزاء صغيرة في جزءٍ من الثانية.
"— هااااه!"
سقط مذنب فضي فوق فونيكس، الذي اعترضه بتأرجحِ
شفراته المتسلسلة. كان مشهدُ فتاة صغيرة وإن كانت مصطنعة وهي تواجهَ فيلقًا في
قتالِ المشاجرة بنصلها ولحمها، بمثابةِ نكتةٍ سيئة أو كابوس حي.
قطعت شفرة السلسلة التي أُلقيت ليرش من خصرها
إلى الأسفل. فدفعت نصلها في قبضةٍ سفلية إلى قاعدة شفرات السلسلة، وجرّدتها من
درعها. مرّ الضوء الشاحب المزرق للتيار الزائد الناتج الذي أُنشئ ليمر عبر شفرة
السلسلة، كثعابين من الكهرباء عبر السيف، مما أدى إلى تفحّم ذراع ليرش اليمنى.
بينما تعثّرت
فونيكس عندما تسلّل الضرر الذي اخترق الدرع أخيرًا إلى آلياتها الداخلية. انزلقت
يد ليرش وسقطت عالقة في كتفِ خصمها. وسقط غمد سيفها المهمل على الأرض، مصدرًا صوت
رنين.
تردّد صدى الصوت الثقيل لحامل البندقية لتشايكا
عبر قمرة القيادة، والذي بشّرَ بإعادة تحميل القاذفة. صوت الشبيكة والإنذار نبّه
شين، وأبلغه أنهم يصوّب الهدف.
وفي الوقت نفسه، عملت فونيكس على تطهيرِ شفرة
السلسلة المدمرة حيث تسرّب على السطح الممزق سائل فضيّ. لقد فقدت كل أسلحتها
وتعرّضت لأضرارٍ جسيمة. وبدا أن هذا الوضع مناسب لاتخاذ قرار التخلي عن الوحدة.
ولكن قبل أن تتمكن من ذلك، التقت أعين شين
بخاصّةِ ليرش.
حتى لو قيل لهم أنهم ليسوا بشرًا، حتى لو كانوا
دائمًا ملفوفين بأنينِ الموتى، كانت عيناها تحترقان بنفس القدر من الإرادة
والعاطفة مثل أي إنسان. تحرّكت شفتاها، وفي لحظةِ كلماتها قطعها صوت الرنين، أينَ
صرخ الصبيّ الذي كان سيدها بحدّة.
"— أطلق النار! "
هل كان شين سيمتنع عن إطلاقِ النار لو أنّ
أحدهما توسّل إليه أن يتوقف؟ لقد خطر هذا الشكّ في ذهنه، ولم تغامر أفكاره أكثر من
ذلك. لأنّ جسد شين ووعيه، الأمثل للمعركة، فقام بسحبِ الزناد تلقائيًا.
مزقت الطلقة الخارقة للدروع ذراعها اليمنى من
كتفها، وأسقطتها على الأرض. اصطدمت القذيفة شديدة الانفجار مؤدية إلى توليد نفث
معدني يثقب درع فونيكس، ويتسرب إلى إطاره من الجزء الممزق ويشعل النار في هيكلها.
وبعد لحظة، ارتفع قطيع الفراشات الفضية فوق النيران السوداء، وهرب إلى السماء
المغطّاة بالغيوم الثلجية.
" لذا فقد أفلت. لقد أحدث الفيلق أمرًا
مزعجًا حقًا هذه المرة..."
نظر فيكا إلى السماءِ الرمادية، وتنهد وهو يحمل
بندقيته الثقيلة المضادة للدبابات. تواجد في أحد أبراج المراقبة المرتبطة بالمرافق
السطحية للقاعدة. إذا كان عليه أن يخمن، فإن كل فراشة على حدة كانت عبارة عن وحدة
نظام. وحتى لو دُمّر عدد قليل منهم أثناء هروبهم، فيمكن إعادة إنتاج البدائل
لاحقًا. لكن لم تكن هذه هي القضية…
" لماذا يفعل الفيلق شيئًا كهذا؟ "
تميّزت
فونيكس بقوّةٍ لا يمكن دحضها، إلا أنّها من حيث الكفاءة القتالية، فهي في الواقع
أسوأ بكثيرٍ من الآلات السابقة ذات الإنتاج الضخم. أيّ بصورةٍ مُغايرة، إنّ قتلَ
بطل واحد لعدد كبير بسيفٍ في يده، فإنّ إنتاج عدة آلاف ممن سحبوا سيوفهم وقتلوا
عشرات الآلاف أسرع وأسهل بكثير. وهذا هو التقدّم في الأسلحة من أيّ وقت مضى،
حاصدًا المزيد من ضحاياه.
القتل المُمنهج الفعّال.
إنّ العصرَ الحديث لساحة القتال لا تتطلّب
بطولة. عندَ استطاعة مدفع واحد أن يهدم قاعدة تؤوي الآلاف، أن تدهس دبابة واحدة
عددًا لا يحصى من المشاة. فما الحاجة في مكانِ ساحة المعركة لأبطالٍ يحملون
سيوفًا! على الرغمِ من أنّها فكرة لعلّها تحمل بعض الجدوى للبشرية، لكنّها لم تكن
تحمل مثل هذه القيمة على الإطلاق بالنسبة للفيلق.
آنذاك كان الأبطالُ تكتيكًا يستفيد منه
الضعفاء. أولئك الذين ليس لهم قدرة من مجاراةِ العدو وجهاً لوجه، فاختاروا بدلاً
من ذلك توجيه ضربات مركزة من شأنها أن تمنع العدو من مواصلةِ.
وهذا وصفٌ باختصار يليق بحزمة الضربات المتنقلة
الستة وثمانون، متربّعٌ في جوهرها، وكان حاصدُ الأرواح في الجبهةِ الشرقية هو هذا
النوع من الجنود.
أولئك الذين كانوا هم الأقوى والأكثر صلابة في القتال،
وبالتالي الأقل عددًا. مثلَ رصاصةٌ فضّيةٌ قويّةٌ وثمينَة ونادرة. هم الملاذ
الأخير للبشرية، لكنه لم يكن تكتيكًا فكّر الفيلق أن يعتمده، مُطلقًا.
إضافة إلى وجودِ مسألةِ السّمة الأخرى الأكثر
تحديدًا للسلاح: الخلود. إذا كانت نية الفيلق هي الحفاظ على السجلات القتالية، فهم
يحتاجون فقط إلى نقل البيانات، كما فعلوا حتى الآن. حيث يمكنهم نسخها احتياطيًا
وإنتاج وحدات بديلة متعددة بكميات كبيرة، بينما تلك الفردية فلا فائدة من الحفاظ
عليها ، لأنها ليست أكثر من عنصر قابل للاستهلاك يمكن التخلص منه.
إنّ آخرَ ما يحتاجه السلاح هو غريزة الحفاظ على
الذات. هذا ما لم يفهمه فيكا من فكرة تطوير سلاح كمتنقّل عالي الحركة. لقد فضحَ
ذلك انعدامَ التوافق مع طريقة عمل الفيلق الأساسية المتمثلة في القضاء على جميع
العناصر المعادية. على الرغم من أن الآلات المستقلة كانت تصدر أحيانًا أحكامًا لم
يكن لأحد أن يتوقعها عندما لا تكون هناك إرادة بشرية...
لحظتئذ غيّرت الفراشات مسارها في السماء.
"…مم؟ "
للحظة، حلّق
سربٌ من الفراشاتِ الدقيقة السائلة فوق القلعة وبدا أنها تتجه جنوبًا، وهي المنطقة
التي يسيطر عليها الفيلق، ولكن في منتصف الطريق، غيرت اتجاهها وأخفضت فجأة من
ارتفاعها لانقضاضها.
لقد هبطوا بقربٍ غير متوقّع. وفي موقعٍ لا يبعد
سوى بضعة كيلومترات عن القلعة.
"..."
أبقى عيناه في حالةِ تأهّبٍ من تحركاتها بينما
لوّح بيده لاستدعاء شاشة هولو. ولحسنِ حظّه أنّ لديه كاميرا خارجية واحدة غير
مكسورة تستهدف المنطقة. قامَ بتحريكِ تركيز الكاميرا لتتبّع هيكل فونيكس الذي كان
لا يزال ضمن نطاقه الفعال...
ولمّا رآه شهق.
هدأ التوتّر في مركزِ القيادة قليلًا بعد صدِّ
فونيكس وجميع وحدات الفيلق الأخرى.
"...ميليزي. ما هذا؟ "
تردّد صدى صوت فريدريكا في جميع أنحاء الغرفة
مشوّبًا بالإلحاح.
" الكاميرا الخارجية الجنوبية رقم خمسة...
ماذا يحدث هناك؟ "
ثبّتت عيناها القرمزية على شريطِ الكاميرا في
زاويةِ الشاشة الرئيسية. حيث قامت لينا بتكبيره ليحتل الشاشة الرئيسية بأكملها.
ثمّ... أسَرَت لينا أنفاسها.
-
وفي الوقتِ نفسه، التفتَ شين إلى المركزِ الذي
أشعره بنظرةٍ ثاقبة نحوه. خلال الأيام الثلاثة الأخيرة في المعركة، فُجّرت جدران
القلعة، وتُركَ مساحة ضئيلة مثل الشّق، سمح له رؤية حقل الثلج الممتدّ للأمام على
بعد بضعة كيلومترات. فوقَ الثلج البِكر النقيّ الناصع، وقفت أمايزي واحدة دِرعها
قديم جدًا، ويمكن رؤيتها من مسافةٍ بعيدة.
عادة ما تميّز الفيلق بطلاءٍ أسود مُحمرّ، لكن
هذا النوع من الكشافة كان أبيضٌ مثلَ ضوء القمر، ممزوجًا بالثلجِ المحيط. افتقر
إلى الرشاشين متعددي الأغراض، وتقف بلا حماية في ساحةِ المعركة المهجورة.
ونوعًا ما، بدا أمر صمتها متعجرفًا. مُنتصبة
بقامتها ورغم تمزّقها مثل الملكة، منعزلة وقد سيطرت بنظراتها على كلّ شيء.
إنها قائد وحدة الفيلق التي تواجهه المملكة
المتحدة. أمايزي من النوع الكشفي الذي نادرًا ما يُنظر إليه على أنه الراعي من
المجموعة الإنتاجية الأولية للفيلق، والذي لم يكن من المفترض أن يكون موجودًا حتى
يومنا هذا حيث تستمر المعارك الشرسة.
الملكة عديمة الرحمة.
دونَ صوت هبطَت مجموعة من الفراشات بقربِه،
والتي هيَ الجسم الرئيسي لفونيكس. وكانت قوة من الديناصوريا تختبئ في المنطقة
المجاورة، متربّصةً في الثلج، تحرسُ ملكتها الحقيقية كفارسة.
لفَتت بقعةً من الألوانِ النابضة بالحياة على
الكتفِ الأيسر لأمايزي عينيّ شين. رمزُ فتاة مُتكئةً على الهلال. وهي علامتها
الشخصية التي لم ير قط وحدة فيلق تحمل علامة واحدة تشبهها...
علمَ أنّه ليس بمفرده عند سماعهِ لصوتٍ عابر من
فيكا، والذي اتّضح رؤيته لذات الأمايزي.
"زيلين...!"
اشتُقّ اسم زيلين من إلهة القمر القديمة سيلين.
ولعلّ علامتها الشخصية لهلال القمر مستوحاة من ذلك، أو ربما حملت هذا الشعار
تفضيلًا له عندما كانت على قيد الحياة.
أثناء الأفكار المُنسابة، قامت الملكة عديمة
الرحمة بتحويلِ مستشعرها المركّب في اتجاههم. وردًا على حركتها ارتفعت أصوات
الآهاتِ المُدوية. صوتُ امرأَة شابّة، تتحدث عن الأفكار الأخيرة التي راودتها قبل
وفاتها. صوتٌ يليقُ حقًا بحامِلة اسم آلهة القمر. ثلجيٌّ، لطيف، والأهم من ذلك
كله، لا يرحم.
ولكن على الرغم من ذلك…
" لقد كنتُ... فتاة جيدة."
كان صوتها ضعيفًا وبائسًا، مثل صوت طفلة تحاول
يائسة حبسَ دموعها.
" لهذا السبب أردتُ... أن تعودَ
إليّ."
"── شين."
في ذاكرته ابتسمت والدته.
واقفين أمام باب الكنيسة في زاوية معسكر
الاعتقال. امتلكت شعر حريري طويل بنفسِ اللون الأحمر لأخيه، وعيناها مثل الأحجار
الكريمة القرمزية تماماً كعينيه. مُرتدية زيًا ميدانيًا فجًا ومهترئًا، وهو ما لا
يناسب سلوكها الرقيق. يدها الشاحبة، التي لا يتذكر أنها ضربته قط ولو مرة واحدة،
كانت أناملها بين خصلات شعره تمشّطه.
افعل كما يقول أخوك والقس.
كن ولدًا طيبًا...شين.
هكذا قالت وابتسمت بأعينٍ حنونة.
لقد تذكر. تذكر.
…تذكّرَ أخيرًا. وجه والده، صوت والدته, وأخيه
الأكبر اللطيف. صديقة الطفولة، الفتاة التي لعب معها كل يوم. ممتلكاتهم في عاصمة
الجمهورية الحريّة والمساواة، الأبحاث التي أجراها والده، والذكاء الاصطناعي
المخلص على شكلِ كلب الذي كان لديه من قبل.
"...!"
إنّ الحقيقة هي أنه لم يفقدها أبدًا. ولم يكن
أبدًا قادرًا على تذكر ذلك. إنه فقط لم يرد أن يتذكر... حقيقة أنه لن يتمكن أبدًا
من العودة إلى هذا العالم السعيد عندما لم يكن يعرف شيئًا...
لقد مات جميع أفراد عائلته ولم يعثر عليهم في
أي مكان. المنزل الذي يمكن أن يعود إليه كان مجرد هيكل فارغ لما كان عليه من قبل.
وحتى لو عاد، فلن يكون هناك أحد في انتظاره. حتى لو عاد إلى زمن السلام، فلن يتمكن
أبدًا من الابتسام كما كان في ذلك الوقت.
وبما أن أبسط الأشياء قد سُرقت منه، فقد أدرك
فقط... خُبثُ الإنسان. قسوة العالم. سخافتها. دناءتها وفقدان الرحمة.
ولو لم يعتبر أنّ هذا العالم مصنوع من صفاتٍ
كهذه، لم يكن ليتمكّن من تحمّله.
وجوه والديه الذي اعتقد أنّه يستطيع تذكرهما،
ومشاهد منزله الدافئ، والكلب الميكانيكي الذي احتضنه، تلاشوا وفقدوا وضحوهم مرة
أخرى، وأصبح باهتًا واختفى كما لو كان يتفتّت إلى رملٍ مُنسكب.
ذكريات عائلته لم تحترق بنيران الحرب. لقد
مزّقها بنفسه ورماها... حتى لا يشتاق إلى ما لن يتمكن من وضع يديه عليه مرة أخرى.
ولم يعد يستطيع أن ينكر ذلك بعد الآن.
لفترةٍ من الوقت، كانت الكشاف الأبيض من نوع
أمايزي تُحدّق في البشرِ الذين بادلوها النظرات الصامتة، ثمّ استدارت في خطواتٍ
مُنسحبة فريدة من نوعها للفيلق. نهضت الديناصوريا الرابضة نافضة الثلج المتراكم
عليها وتبعت خطواتها. لقد أحاطوا بها يحرسون ملكتهم الرقيقة، وأخفوها خلف أطرهم
الضخمة.
وفي لمسةٍ نهائية تحوّل قطيع الفراشات إلى صفٍّ
يلحق بالمجموعة تاركين نظرات مهووسة بغرابة اتجاه شين، وإن كان ذلك مع تلميح من
التردد.
اختفت الملكة عديمة الرحمة في ظلامِ الثلجِ مع فرسانٍ يخدموها... ولم يطاردها أحد.
-نهاية الفصل الرابع
[كادر العمل]
ترجمة وتدقيق: pandoravanitas@
تبييض وتحرير : abdHD__@
تعريب الغلاف وتنسيق المجلد: abdHD__@
ملونة الصورة التوضحية السابعة: rzeiqn @
.jpg)








