Volume 6 الفصل الثاني

Posted by abdHD, Released on

إعدادات القارئ

  

الفصل الثاني

 ما الحياة إلّا ظلًّا عابرًا

 

 

 

 

 

 

" النقطة التالية 183-570. يقدّر أنّه أمايزي ، مجموعة بحجمِ فصيلة."

" صُوّرَت وحدة العدو. فصيلة واحدة من أمايزي... تشمل ثلاثة أهداف."

" استلمتْ. غانسلينجر ، أطلقي النار."

 

* *  *

جرَت الاستعدادات للهجوم التّالي في المنطقة التي يسيطر عليها الفيلق في الجزء الجنوبي من جبال التنين على الحدود القديمة للمملكة المتحدة. شكّل اعتمادهم الرئيسي على نشرٍ مكثّفٍ للوحدات المدرعة الثقيلة في الخطوط الأمامية وخلفهم استعدادات القوات المحمولة جوّاً.

على الأفقِ بين فضّية السماء وهبوب الثلج فوق الآلات ، جثمَت ثلاثةُ من الزينتور وفصيلة أمايزي على منحدرٍ عميق يواجه الغربْ. أينَ استجابوا للأمر الوحيد المُعطى لهم وهو الانتظـار. لم يكن لدى هذه الآلات القتالية أي مفهوم للملل والاستياء من وقت الخمول بينما تنتظر أمر الهجوم.

لكن في لحظةٍ قُلبَ الحال على أثرِ تردد صدى الصوت المفاجئ لمعدنٍ عالي السرعةَ والكثافة يخترق الدروع قبل ابتلاعه من الثلوج المكدّسة. ثمّ سقطت إحدى الزينتور الّتي خارَت قواها بعد ثقب مركز تحكّمها برصاصة.

سرعان ما قلبت وحدات الأمايزي أجهزة استشعارها باتّجاه من تحوّلت إلى دميةٍ مقطوعة الأوتار. ولم يسعفهم وقت التأمّل عندما سقطت الوحدتين المتبقّيتين من الزينتور واحدة تلو الأخرى. حيث بلغت السرعة الأولية للطلقات عالية السرعة والخارقة للدروع 1600 متر في الثانية وهـي أسرع من صدى نيرانها.

ولم يكن بحوزتهم وقتًا لإبلاغ القائد الأعلى للوحدة بهجوم العدو. وعليه تُركت الأمايزي لوحدها عاجزةً ضد وابل من الطلقات عيار 88 ملم التي أطلقت بدقةٍ يدويّة بمثابة معجزة وبأسرعِ ما يمكن لآلية التحميل الأوتوماتيكي أن تفعله.

*  *  *

" إلى قائدي حـاصد الـأرواح ، تخلّصتُ من الأهـداف المُعلنة والثانوية."

" عُـلِـمْ كورينـا. الآن استبدلي موقعك ، سنستهدف هـدفًا مخـادعًا. لودميـلا ، يُفترض أنّ النقطة 202-358 وحدةٌ مدرعةٌ تتكون من لـوي. يرجى التأكّد."

" لحظةٌ من فضلك. إلى سـرب مالينوفكا ، قوموا بتغيير مواقعكم ثمّ انتقلوا إلى النقطة"

أثناء الاستماع إلى حديثِ قائدها مع قائدة سرب سايرينات المالينوفكا – لودميـلا ـــ رفعت كورينا غانسلينجر من موقعِ قنصها ، وسط غابة من الصنوبريـات المتشابكة قممها مثل الرماح المرفوعة نحو السمـاء. مثل الأشواك على ظهرِ التنيـن.


فـتسبّبت ارتداد طلقاتها من المدفع إلى اهتزاز الثلوج عن الأغصان ومَن تراكمت فوق مركبتها. ولـأنّ الثلج لا يذوب بمثلِ الحرارة هذه ، ظلَّ أبيض ناصع. بينما حُجبت السماء فوق أراضي النزاع بغطاءٍ فضّي من وحدات الآينتـاكسفليكا ، فوقها وحدة المراقبة والتّحكم الـرابـي.

وعليه صُبغَ درع الجاغرنوت بلونٍ أبيض للتمويه وإخفاء ظلالها أسفلهم. لكن في اللحظة التي تطلق فيها النيران من مدفعها ذي الـ 88 ملم المدوي ، يُكشف موقعها مودعًا محاولات الاختباء. لذلك تحتّم عليها اختيار مناطقَ ذات أغصان كثيفة التشابك لتتجاوز حرّاس السماء.

في إطارِ العملية المؤقتة ، أشرفَ شين على تمشيطِ مناطق النزاع بصحبةِ الألكانوست المسؤولين عن تأكيد تدمير الأهداف ، وكما فعلت كورينا قاموا بتكرار الاختباء والتنقل عدة مرات. تشكّلت عملية نصب الكمائن من قوّةٍ صغيرةٍ من سرب رأس الحربة وسرية واحدة من الألكانوست ، لذلك كان عليهم الالتزام بالمهمة المحدّدة دون التعرّض لجبهاتٍ عدائية مفتوحة مع الفيلق.

" عملٌ جيد ، غانسلينجر. داريا ، انسحبـي."

تلقّت السيرين عـبـر البـارا ريـد إرسالَ القائد ، والمسؤولة عن المراقبة الأمامية.  اتّسمَت ملامحها بصغرِ السن مقارنةً مع السايرينات مع ضفيرة لون شعرها الورديّ.

لاحَ تعاونهم في قاعدة قلعة ريفيتش واستمرّ عملهم معًا حتى الآن بعد انتقالهم إلى القاعدة الاحتياطية. وبفضل عملياتهم المشتركة المتكررة ، اعتادت كورينا وبقية الموجّهون من الستـة وثمانـون على وجودهم والتوافق معهم.

ومع انخفاض عدد القوة المشاركة في عمليـة جبـل التنيـن فانـغ عن ذي قبل ، لكن قوة الغزو نفسها لم تكن مختلفة كثيرًا وانعكس عليها التحسّن القتالي.

ولم يعني هذا التوافق القتالي حلّ المعضلة الحقيقية المستمرة حتّى اللحظة ، مثل نفور كورينا من طريقة تعامل السايرينات مع أنفسهن وتقديم التضحية أسفلَ السحق.

" سيكون من الأفضل ترك هذا الواجب لنا. إنّ البحث عن مناطق النزاع يقرّبنا من أراضي الفيلق وهذه المهمة خطيرة على الأرواح البشرية."

" ولكنكم... لستم على استطاعةٍ في فعْلِ مهمتي كمـا هـي ، أأنا محقة ؟ "

كادت أن تشيرَ إلى سهولةِ الانشقاق عن العودة والتّخلص من أنفسهم لكنّها كظَمت عن القول. فـهذه الكلمات نفسها التي وجّـهها الخنازير البيضاء إليـهـم. ولكن في الحالةِ هذه السيرين مختلفين عنهم.

نحن لسنا هُــم. متشابهـون ، لكننا لسنا متماثلين.

"... صـحـيـح. نهجنا يركّز على القتالِ عن قرب ولا نتمتّع بمهارات القنصِ التي تملكينها يا سيـدة البندقيـة. ولكن إذا أذنتِ باقتراضنا بيانات قنصكِ وتماثلها مع الجاغرنوت ، سنتمكّن من تحليلها والتعلّم منها ، ثمّ مع اكتساب الخبرة القتالية..."

زمّت كورينا شفاهها بإحكامٍ عند اقتراحها وردّت قائلة :

" محـال..."

هذا كل ما أملك. ساحة المعركة هـي المكان الوحيد الذي يجمعني جوارَ شـيـن. وأمنيتي المركونة في قلبي أن يأخذَ ذكراي معه في اليوم الذي أسقط فيه في المعركة. وبسببِ ذلك توقفنا أنا وهـو عن أن نكون متساويين. لم أعد منقذةً ؛ أصبحت التي تبحث عن الخلاص. لا يمكنني دعمـه... لن يعتمد علي. حتى الآن ، وكلما يتعذب بشأنٍ ما. هذا هو حال من يقف معه... لا توجد طريقة...

"...أن أتخلّى عنها لأيّ أحد."

-

" عُـلـمْ. انسحـاب كلا من سرب رأس الحربة ومالينوفكا من منطقة النزاع."

أشبع شين صدره نفسًا عميقًا عند وصول أمر الانسحاب من لينا في مركز قيادة قاعدة الاحتياط. وعلى الشاشة البصرية للأندرتيكـر ظهرَت الأرض المكسوّة بالثلوج البيضاء. مرّ نصف شهر منذ أن اتخذ قراره ، والذي يشعره الآن بأنّ جزء منه يهرب منها. حيث لم يشغل عقله إلا بالتحضيرات للعملية ، مختبئًا في القتال والمهام اليومية التي تصاحبها في محاولةٍ لتأجيلِ القضيّة التي أدرك أنه يجب عليه القيام بها.

أن يأمَل مستقبلًا لم يكن قادرًا على تخيله حتى الآن.

وعلى الرغم من فهمهِ الآن إلا أنّه أضاع أسبوعيـن ولم يمتلك فكرة عما عليه فعله. كل ما أدركه هـو وقوفه ساكنًا فاقدًا قدرته على التحرك.

لأنّه فاقدٌ لوجهة يسعى إليها. لا مكان يريد الذهاب إليه ، ولا رؤية لنفسه أن يصبح عليها. في جميع الأسئلة التي طرحها على نفسه كان ينتهي في مُلتقى الفراغ المنهك الذي ساور عيشه.

لكن شيء جديد طغى في صدره وهو الشعور بالإلحاح المشتعل في قلبه. ذلك مكّنه على الوقوف مع تصاعد مشاعره ، ويجبره على التفكيرِ بشأنه حتى يجد شيء ما.

" يُسمح لك بالتمني."

هكذا أخبرتـه ورغب في الرّد. لكنه خرج فارغًا ...

" لـا أملـك شـيء يـا لـينـا."

همسَ بخفوتٍ حتى لا تلتقطه البـارا ريـد وفكّر في لين وأمنية غمرها السعادة للجميع ، لكن لا يزال...

" فماذا ينبغي لمن لا يستطيع أن يأمل ذلك أن يفعل...؟ "

ماذا يفعل أولئك الذين لـا يمكنهم الإجابة على صلواتهم...؟

-

بدا أنّ حقول الزهور الملونة والسماء الزرقاء الصافية التي تغطي جدران قاعـة الطعـام هي من السماتِ المميزة بين جميع قواعد الخطوط الأمامية في المملكة المتحدة.

" من المدهش كيف تستمر لينا في ابتكارِ خطط هذه العمليات واحدة تلو الأخرى."

تمركزت حزمـة الضربـات المتنقلـة في القاعة الاحتياطية في الجبهة الأمامية الثانية للمملكة المتحدة ، والمحاطة بقممِ جبالٍ وغاباتٍ كثيفة تغذيها نهر كبير لحصد العناصر الغذائية منها.

وعلى النقيضِ من الانطباع القاحل التي تصوّره عبارة " الأرض الشماليـة " فإنّ المملكة مباركة بروعة الطبيعة ووفرة مكونات الموارد العديدة للطهي بها.

تحدث رايدن بفمٍ ممتلئ بحساء السمك ، والذي طُهي بعناية لإظهار النكهة القوية للمكونات... ولعلّ لذّته تكمن لأنه فرد من بلد بعيدة ولم يكن معتادًا عليه. بينما ابتسمت لينا له.

"عندما كنت قائدةً لسرب بريسينجامين وأثناء الهجوم واسع النطاق ، قاتلتُ مع الاستفادة بكل ما ملكت. ومع ذلك ، أنا متأكدة من أن مطوري النظام سوف يكونون محرومين من النوم تمامًا."

حاولت ألا تفكر كثيرًا في العناصر التي أرسلها فيكا لكي يستخدموها.

ثمّ أضاف ثيو وهو يضع شوكته :

" سمعتُ أنّ أنجو وكورينا ستنفصلان عن بقية الوحدة أثناء عملية جبـل التنيـن فانـغ. وكذلك الحال مع بقية قوات القنص والقمع للأسراب الأخرى."

" حسنًا ، لا أستطيع حقًا إظهار إمكاناتي الحقيقية في المعارك داخل القلعة."

قالت أنجو ثمّ ردّت كورينا في غضب :

"أنا واثقة من إصابة أهدافي حتى في المساحات الضيقة."

تنفّس رايدن أثناء ردّه.

" لهذا السبب نستخدم مهاراتك هذه لسحق وحدات العدو."

" هذه المرة ، لا تستطيع المملكة المتحدة تحمل إقراضنا أي قوات لتغطيتنا بينما نهاجم... إن جعلكما تحافظان على العدو محاصرًا من الخلف بينما نتجه نحو الداخل سيكون أكثر فائدة لنا من مرافقتنا."

أثناء مواصلة شين حديثه ، أشرق الفخر على وجه كورينا.

" حسنًا ! اترك الأمر لي ! "

"... يا إلهي ، يا فتاة أنتِ من السهل خداعك..." تدخّلت فريدريكا في الحوار وأكملت: " أتمنى ألا تقعي في فخِّ رجلٍ سيئ."

" المعذرة ؟! "

نهضت كورينا من مقعدها وهي تصرخ ، ثمّ بدأ شين ورايدن وثيو بإضافة حصصهم من الفطر المخلل أحد المنتجات المحلية في المملكة المتحدة على صينية فريدريكا.

" آه! ماذا تفعلون جميعًا ؟! "

" تجاوزتِ هذه المرة حدود سيئة فريدريكا " قالت أنجو بلطف.

" همف! ألا ترين ذلك؟ شين ورايدن وثيو في صفي! "

سحبت كورينا نفسًا أبرزَ صدرها. على عكس طفولية كلماتها ، أبرزت هذه الإيماءة منحنياتها الناضجة ، مما دفع فريدريكا إلى الهدير بغضب من منحنياتها المثيرة أكثر مما قالته لها. جعلَ هذا الحوار لينا تتضاحك على تعافيهم بعد اكتئاب أحاطهم منذ المعركة في قاعدة قلعة ريفيتش.

مع أنّ المشكلة لم تُحل إلى درجةِ تجاوزها ، لكن منذ وصولهم إلى القاعدة الأمامية وعودتهم إلى ساحة المعركة ، كانوا قد أحدثوا تحولاً. حيث استعاد شين وفريقه وموجّهي السرب الآخرين حيويتهم المعتادة وقدرتهم القتالية. على الرغم من كونهم في منتصفِ إلى أواخر سن المراهقة ، لكنهم لا يزالون المحاربون الذي نجوا من القطاع لسنوات. وهذه القدرة من التحول في عقليتهم هي مهارة قاموا بتطوريها لتصبح أمر طبيعي بالنسبة لهم.

" لستما لوحدكما. سيبقى الحرس الخلفي ووحدة فاناديس..."

" اترك الأمر لي يا حاصد الأرواح الصغير ! " قطعت حديث رايدن بصوتٍ صاخب والذي وجّه نظره إلى طاولةٍ قريبة ، بينما تجاهل شين تلك الصرخة. ألقت لينا بنظراتها عليه ، هو الذي لم ينظر إلى الوراء. وجال في ذهنها كيف منذ وصولهم إلى القاعدة لم يتحدث معها خارج القضايا المتعلقة بالعمل. كانت عينيه منخفضتين كأنه غارق في التفكير ، متظاهرًا بعدم ملاحظة عينيها عليه.

متى كانت آخر مرة تحدثا فيها ؟ آه ، بعد المؤتمر الكبير في الحديقة الثلجية المضاءة بالنجوم. عندما أظهر لها للحظة واحدة التعبير الرافض... والمتحير لطفل ضائع.

ما كان ذلك إذن...؟

" شيدن والآخرون...؟ تعرضت القوة الرئيسية للمملكة المتحدة لهزيمة ساحقة ، فهل سيكونون حقًا كافيين للدفاع عن المقر؟ "

" مرحبًا ، يا حاصد الأرواح الصغير! لا تتجاهلني! أعلم أنك تستطيع سماعي ! "

" أستطيع سماعك دون اضطراركِ إلى تكرارِ ما تقوليه. اجلسي هادئة وكوني كلبة حراسة ومراقبة حسِنة مثل عادتك."

" آه ها ها ها! هل اعترفت أخيرًا ؟! لا تقلق. ستحميكِ وحدتي يا جلالة الملكة هنا آمنة وسليمة وليس حاصد الأرواح ! "

بدأ الاثنين شجار لفظي بلا معنى أمامها ، أدّى إلى تورّد ابتسامة على شفاهها بدّد القلق الذي مرّ في ذهنها واختفى.

على الأقل لبعض الوقت.

*  *  *

جُهّزت القاعة لتكونَ مكتبا مخصّصًا للعائلة المالكة ، لكنه حوّلها إلى قاعدة في الخطّ الأمامي يدير فيها خططه. أبصرت ليرش عند دخولها أكثر القاعات كآبة في القصر سيّدها ، محدّقًا في مستندٍ إلكترونيّ ثلاثي الأبعاد معلّق في الهواء.

" سموّك ، إنّ القاعدةَ على وشكِ إطفاء أنوارها لذا حان وقت نومك... أو خذ قسطا من الراحة أولًا ، سأسكب لكَ الشّاي."

" جُزيت خيرًا... مهلًا... قبل ذلك."

نادى اسمها في هدوءٍ وهو يخلع نظارته للعمل المكتبي.

" ليرش."

ارتعشت المدعوّة وهي تضمّ شفاهها عند نبرته الغير رسّمية. لم تكن السيرين مجهّزة بأيّ حواسٍ بخلافِ السمع والبصر ، ولا وظائف تنفّسية أو هضمية وما هو غير ضروري للمعركة ، لكن الاستثناء الوحيد كان قدرتها على تغيير تعابير وجهها.

حدّق فيكا ذو الأعين الأرجوانية ملتحفة الجليد باتّجاه من تسمّرت أمام الباب واقفة.

وخلال الصمت تمكّنت ليرش من فهمِ لماذا أطلق عليه أولئك الذين سعوا إلى تشويه سمعة هذا الرجل لقب الثعبان. عندما ينظر إليها بهذه الطريقة ، تراه وكأنه مخلوق لا إنساني يحبسها في نظراته. ثعبانٌ أسودٌ بارد الدم وآسر. تلك الأعين التي تكشف عمق وروح من يقف أمامها دون أن يفلت منها حركة ، كانت مرعبة حقًا.

" ماذا قلتِ لنوزين خلال العملية الأخيرة ؟ "

"...لا شيء خاص."

" أنتِ تكذبين. استمرّ بتجنّبكِ منذ آخر هجمة. هو يفتقرُ إلى الحساسية اللازمة للاشمئزاز منكم جميعًا لأنكم طيور الموت أو دمى آليّة. وهذا يعني أنه لا يتجنّب السيرين ؛ إنّما أنتِ. ويجب أن يكون السبب شيئًا قلتيه. أأنا محقّ ؟ "  

دبّ في تعبيرها التوتّر. كان هذا سؤالًا قادمًا من الرجل الذي منحها وعيها وهدفها. وعليه فإنّ الإجابة محتمة. وباعتبارها من صُنعِه ، ومن اعترفت بنفسها على أنها سيفه ، لم تستطع البوحَ الرفض. ومع ذلك...

" سموّك... حتّى أنا أملكُ كلمات أودّ أن أبقيها سرًّا."

أنا ــــ السيرين الوحيدة التي تدعـى ليـرش ــــ وهـي فاشلة بما فيه الكفاية حتّى تُصبح المُسمّى ليرشينليد. حتّى مَع صُنعي من بقاياها ، وإنتاجي من رغبة مالكي في إعادتها للحياة ، ولكن لم أكن إلّا وعاء عديم الفائدة فشل في التقاط جوهرها.

وعلى الرغم من سماح فيكا لها أن تجاوره بدورِ حارسته الشّخصية ، إلا أنها لم تستطع أن تخبره بما أدلته على مسامِع شين. إعلانها أنها لم تعد حيّةً بعد الآن ولا يمكنها أبدًا تحقيق السعادة إلى جانب من يريدها بجواره... أيّ طالما جاورها فيكا ، فلن يجد الفرح أبدًا.

تُخزّن النسخ الاحتياطية للشبكات العصبية والنماذج الذاتية المزيّفة للسيرين في مصنع الإنتاج.

حتّى مع دمارهن في المعركة ، سيُعاد إنتاجهن عن طريق نسخ التخزين بسهولة. وهذا النهج لم يشمل لـيرش. لأنّها لم تملك أيّ نسخ احتياطية لها ، إنّما هـي الوحيدة  الّتي احتُفظَت البنية الحقيقيّة لذاتها داخل جمجمتها.

كانت ليـرش حتّى الآن... الوعـاء الوحـيد لـليرشينليد.

ولم يكن هذا سببًا فنيًا ، إنّما إرادة فيكا. سلّمت ليرشينليد رفاتها له طواعية لتصبح سيرين ولم يكن ليحدث ذلك إلّا برغبةِ سيّدها. هذا ما ظنّه فيكا. لذا عندما يواجه شأن ليرشينليد آمن منذ زمن أنّ إحياءها يجب أن يكون حدثًا لمرة واحدة. إذا تدمّرت بشكلٍ نهائي سيسمح لروحها بالتّحرر.

لذلك لم تستطع البوح لسيّدها عن اعتبار نفسها مزيّفةً لنسخة ليرشينليد التي يعتزّ بها فيكا. وأنّها لا تجلب الفرح في الوقت الذي يدفع اهتمامه نحوها لأنّ من يريدها أمامه. أبدًا.

لم يفوّت سيّدها وقتًا يسخر منها.

" أعرف ذلك كثيرًا. هل تعلمين أنني لم أقم بإدخالِ توجيهاتٍ لطاعة أوامري دائمًا عندما برمجتك منذ البداية...؟ وعلى الرغم من ذلك أنا أسألكِ ماذا قلتِ له ؟ "

لم يكن يأمرها بالإجابة. إنّما طلب منها.

تجعّدت تقاسيمها في لحظة. مُنحت جميع السايرينات قدرة تبديل تعابير وجوههم ، على الرغم من كونهم أسلحة.

مُنحوا وجوهًا وأصواتًا وعيونًا وجلد بشر. في الواقع ، لم يكن ذلك ضروريًا للقتال ولم تخدم إلا لخفض معدل الإنتاج. ولكنّه أجرى أبحاثًا لإعادة إنشاء هذه الميزات باستخدام مواد اصطناعية.

إنّ أساسَ مفهوم بناء السيرين يعتمد على هيكلٍ ميكانيكي نبعَ من رغبةِ طفل في إنشاءِ وعاءٍ حيّ جديد لأمه المتوفّاة. حيث أقرّ بهم للاستخدام الحربي وخُضعوا للإنتاج الضخم. 

ولكن أن يكونوا تلك الآلات القتالية التي تكرّر وتنتج... أو منتجًا مزيّفًا لتقليد البشر... رآهم فيكا بنظرةٍ مغايرة ، لأنّ تلك الدمى كان بإمكانهن أن يكنّ الأم التي فقدها أو الفتاة التي أحبها. كان من الممكن أن يصبحوا ما أرادوه لأنفسهم.

بصفته صانعها وفي مشاعره الداخلية تأكّدت أنّه لم يرغب في رؤيتها تُرسل إلى المعركة وتُعامل مثل قطع الغيار المستهلكة. فكيف يمكنها التمرّد عندما أغدقها بالمودّة ؟ كان عليها أن تجيب وإن ستؤذيه.

"... بإرادتك ، سموّك."

*  *  *

" مثلما توقّعت. فإنّنا حقّقنا جمع كبير من صيدهم الثّمين خلال نص شهر من مكوثنا هنا."

انتمى عددٌ كبير من الستـة وثمـانون من موظفي الخدمات إلى أطقمِ صيانة ريغينـليفز التابعة لحزمة الضربات المتنقلة. مثل اللذان هما جزء من المجموعة : الرقيب جورين أكينو والعريف توكا كييشا. 

" من الصعب إعادة استخدام بقاياهم الحربية ، وخاصة الآلة من نوع لـوي ؛ لأنّهم يتعمّدون وضع معالجاتهم المركزية جوار بقية وظائفهم لحماية البيانات السّرية ، لذلك ما إن تقوم بتدميره سيحترق بلا فائدة. لكن لأنّ المعالج مخصّص أكثر للدّعم اللوجستي ، فـرأيتُ أننا قادرين على إعادة تدوير أجزاء بقاياهم المتناثرة."

أشارَ جورين إلى البقايا المُلقاة في الساحة مقدّمًا تقريرا إلى شين ، والذي جاء للاطمئنان على عملهم. كان طويلُ القامة ، شعره أحمرٌ باهت وعينان زرقاوان فيهما بريقٌ ساخر.

بينما برَزت المبتسمة في حديثها ، توكا من سلالة سافيرا الأصيلة ذات الشعر الذهبي ، رقيقة الوجَه والتي تنافرت مع بدلة طاقم الصيانة القاسية.

" هذه تقنيّة مُستخدمة ما قبل الحرب ، حتّى الفيـدرالية عملت بها ، لذلك لا يبدو أنّ الفيلق مهتمٌ بامتلاكنا لها. هذا يساعدنا في عمليات مثل هذه ، يوفر علينا متاعب الاضطرار إلى صنعها من الصفر."

كان كلاهما جزءًا من طاقم الصيانة الذي كان متمركزًا في نفس القاعدة مع شين في قطاع الستـة وثمانون. آنذاك ، كان يسجّل أرقام قياسية في تدميرِ مركبته الجاغرنوت ، واعتاد أن يأتي إليهم للصيانة كثيرًا. وعلى هذا النحو ، احتفظوا بلحظاتهم معًا في ذاكرتهم حتى بعد سنوات.

" هـيه ، بالتّفكيرِ أنكَ أصبحتَ قائدًا. أنّ ذلك الفتى الصغير مِن ماضينا ، نشأ ليصبح رجلًا."

... ورغم وقوفهم في الوضعِ نفسه خلال عامه الأول بعد تجنيده ، إلا أنّ معاملته كما لو كان طفلاً ، أمرًا مزعجًا. تبسّم غورين من نظراتِ شين إليه بثغرِه الصامت ثمّ كسرَها للأسفل في لمحةٍ من المرارة.

" ما حدث ليس كبركَ إنّما تدمر الريغينليف بقدرِ ما اعتدتَ تدمير الجاغرنوت. في تهورك أنتَ كما كنت دائمًا ولم تتغير."

رمـشَ شين عند هذا التصريح المفاجئ.

"...ألمْ أتغيّر ؟ "

تشاركوا القاعدة نفسها منذ سبع سنوات. آنذاك عندما لا يزال مقتنعًا بأنه المسؤول عن محاولة ري قتله ، ثمّ قضى نحبه في العثورِ عليه لقتله لا مبالٍ في احتمالية موته. وأنّ الدربَ الذي قضى على رفاقه وتركوه لوحده ، هو خطؤه الذي دفنه في قلبه. بينما الحقيقة هـي جميعهم كانوا ضحيّة تكليفهم القتال في أشرس الساحات.

لكن بمرورِ الأيام نضجْ ، تغيّر صوته وصاحبَ رفاقًا ممن قاتلوا معه ، واعتقدَ أنّ الكثير في داخله كذلك تغيّر. صدّق نفسه ولكن...

لم يتغير ؟ منذ تلك الأيام ؟ حقًا ؟

تبسّم جورين وواصلَ حديثه دون ملاحظته الشكوك التي تنبت داخل شين.

" نعم. أنتَ أقوى أضعافَ تلك السّنوات وعلى محياك الموثوقيّة... لكن طريقتكَ في الغوصِ في الخطر هي نفسها. قتـالكَ يجعلني أتساءل دومًا عن امتلاكك رغبة الموت."

-

لم تخفّف عنه المغادرة ثقلَ كلمات غورين. ثمّ ابتسامة توكا الساخرة التي وقفت بجانبهم ولم تنكر ما قاله.

ألم يتغيّر حقًا ؟ ليس في الأسبوعين الماضيين ، ولا منذ أن أدرك حاجته للتغيير... ولكن منذ أيام قطاع الستـة وثمانـون ؟ أحقًا ؟

" شين."

سمعَ مُناداة له قادمة من متاهةِ مفترقِ الممرات المصممة لقاعدة المملكة. وعند وصوله إلى التقاطع توقّف ما إن رأى كورينا.

ثمّ عبسَ في حيرةٍ وهو يسأل :

"...ما خطبُ مظهرك ؟ "

" هـاه...؟ آه ! "

ألقت نظرة على ملابسها قبل أن تتحوّل إلى تفاحةٍ حمراء. ولم يرَ شين ما الذي يستدعيه أن تُحرجَ بهذه الحُمرَة الفاضحة. حيث خلعت سترتها العسكرية وعلّقتها على ذراعِها ، وربطة عنق قميصها مفتوحة. ليس من اهتماماته التّعليق ولكنّه حرصَ على السؤال لأنّها انتهكت القضاء العسكري.

" هذا ، آه... لا شيء! "

لاحَت على أساريرها الارتباك الشّديد ، وأثناء تحريكها العشوائي ليديها تمكّن من رؤيةِ تمسّكها بقلادةٍ غريبة اللون من دمجِ الأرجواني والفضي.

... عـادَ ليفكّر في موقفٍ سابقٍ غريب. أثناء تقرير فحص معدات الدعم اللتان تلقّتها كورينا وأنجو للمهمة القادمة ، لم يسأل أحد عن تفاصيل المعدات. حيث رفضت فريدريكا ولينا التّحدث أمامه وكان مبهمٌ أنّ فيكا التزم الصمت جانبًا. ثمّ سأل مارسيل ما إن صادفه ولكنّه أصبحَ شاحبًا ومتيبّسًا.

بعد جهد مبذول ، تمكّنت كورينا من الهدوء ومواصلة محادثتهما.

" لا تكترث. اممم... مرحبًا ، شين."

استطاعَت أن تنظرَ إليه مباشرة بعينيها الذهبيتين.

" أأنتَ... مذعورٌ الآن ؟ "

"………"

صمتٌ أطبقَ فمه ولم يقطع تحديقه.

...اللعنة. حاولتُ إخفاءه حتى لا يلاحظه أحد... حتّى لينا. لم أكن أريد أن تؤثر هذه المشاعر على الطريقة التي يرونني بها.

-

بقلبها مُثقل القلق ، نظرَت إلى عبوسِه كما لو لمسَت له جرحًا لم يندمل. هذا التعبير الذي هو نتاج صراعه الداخلي من إدراكه أنّها حتّى هـي تملك ما تخبره عن وضعه الحالي. ولم يحب شين أن يشعر أحد بالقلق عليه ، خاصةٌ كورينا.

سوف يراني دائمًا... أخت صغيرة مزعجة ، أليس كذلك ؟

"...المعذرة. هل يزعجكِ هذا؟ " سأل.

" لا ، لا ، لا بأس. أردّتُ قولَ شيء."

متى لاحظت ذعـره ؟ عندما أتوا إلى هذه القاعدة وخلال الأسبوعين اللذين قضاهما في التدريب استعدادًا للهجوم القادم. بلغت حرارة القتال في الوقتِ الذي قضته كورينا بجواره ، تلك اللحظة التي هي أقرب إليه من لينا ، وخدمته في القناصة التي لا يمكن لأحد أن يحل محلها في القيامِ بدورها.

آنذاك شعرَت بهالةِ دائرة الذعر التي أحاط شين بها نفسه. وقادته في محاولةٍ للهروب بعيدًا ، في مكانٍ ليس هنا ولا مع أحد.

كأن المغادرة ضرورة ملحّة تضغط عليه بلا رحمة وتحثّه على الإسراع ، حتى وإن جهلَ معرفة المكان الذي عليه الارتحال إليه. وعليه علقَ في مكانه وافتقر إلى التقدم لم يخدم إلا في زيادة ذعره.

رغمَ حقيقة أنه اذا لم يعرف إلى أين يذهب ، فليس عليه الذهاب.

" إذ... إذا كان الأمر مؤلمًا ، فلا تجبر نفسك على التغيير."

اتّسعت عيناه الدموية التي حدّقت بهما وواصلت :

" منذ مغادرتنا القطـاع وجئنا إلى المملكـة ، استمرّ الجميع بإخبارنا أن نكون صادقين مع أنفسنا. لكن كما تعلم ، نحن وصلنا إلى هذا الحد من خلال كوننا كما نحن. لذا لا بأس أن نبقى على ذلك."

عند خطابها الطويل أدركت كورينا ما تحاول قوله : لم يكن ليس عليك أن تتغير. كان من فضلك لا تتغير. لأنهم إذا توقفوا عن كونهم أولئك من قطـاع الستـة وثمـانون وأصبحوا شيئًا آخر...

مـاذا إن اخترتَ مكانًا مغايـرًا لساحة المعركـة... المكان الوحيد الذي يمكنني أن أكون فيه معك.

" لذا أنتَ لستَ بحاجةٍ لإظهار حزنك وألمك وتجاهد نحو تغيير لا ترغب فيه. لـا بـأس في بقائنا على ما نحن عليه الآن."

من فضلك لا تتغير. ابق كما أنت. متأكدة من أنكَ لن تختارني كما هي الأمور الآن ، لكننا ما زلنا نتمتّع بعلاقةٍ مريحة أريد أن تستمر : أننا الزملاء في فرقة الستـة وثمـانون الذين سيقاتلون ويموتون معًا في ساحة المعركة نفسها.

" لستَ بحاجةٍ لأن تتغير."

-

فرّقَ شفاهه عند كلماتها. وبدا أنّه فهم شيئًا للتو.

"...نعمْ. نحن بخير لأنّنا كما كنا حتّى الآن."

حقيقتهم الّتي عرفوها أنّهم يقاتلون حتّى اللحظة التي يسقطون فيها على أرضِ المعركة بعد فقدانهم القوّة. هذا فخرهم الوحيد وإن كانوا من الذين لا يمكنهم إلّا تمنّي هذا المصير ، ولا يمسّـه الخطأ. العيش والموت في دربهم المُختار ليس شيئًا مخجلًا.

هكذا نجوا من قطاعِ الموت المُحتم الستـة وثمـانون. حمـاية كبريـاؤهم من الدّوسِ والتشبّث به. لذلك لم يكونوا مخطئين. ومع ذلك...

" لكن.. لا يتعلّق الأمر بعدم إرادتي في التغيّر ، بل وُجبَ فعلها. أدركت لزوم امتلاكي أُمنية. لذا..."

لم يكن خطأ أن يبقوا على حالهم أو يرغبون في العيش لوحدهم أو بجوار بقية الستة وثمانون الذين يُقدّرون الحياة نفسها. لكن لم يكن صحيحًا إذا أرادوا العيش بجوارِ من هم مختلفين عنهم. لأن أسلوب الحياة هذا سيؤذيه.

نظرَ بعيدًا عن أعينها الذّهبية اليائسة المتشبّثة ، مدركًا مدى قسوة كلماته التالية.

" لا يمكنني البقاء على حالي."

*  *  *

طوال الأيام الماضية لم تكفّ لينـا عن الإحساسِ بالغرابة اتّجاه شيـن. ظاهريـًا لم يُبدي أيّة مشاكل ، وتعامل مثل عادته حول التخطيط لهجوم أو تنفيذه أو تقديم تقارير عنه ، وظلّ هادئًا ومتماسكًا.

لكنّها لم تتعامـى عن وجودِ فكرةٍ تُزعجه ، في الوقتِ نفسه جهلتها. لذلك قررت أن تسـأل.

" مـا الذي يُزعـج شـيـن ؟ "

" اِسـألـيـه."

عند رفع ذقنها وهي جالسة في مكتبها ، قابَلت أعينها رايدن ممسكًا بفنجان شاي على الأريكة المجاورة وفي محياه التخبّط  كأنه يقول :  " لماذا تسأليني ؟"

تجهّم وجهها عند ردّه. كان لجوؤها إلى رايدن وهو أقرب أصدقاء شين من معرفتها أنّ الأخير لن يجيب وإن سألتـه ، أو لعلّه سيجيب إذا سأله رايدن. أحاطها الضيق سرًّا بالتفكير في أنّ رايدن سيرفض مشاركتها فيما استعدّ شين الإفصاح عنه.

" ماذا عنكِ شيدن ، هل سمعتِ منه؟ "

"... جلالتك ، أنتِ متوترة للغاية حتّى لم تلاحظي أنّي وحاصد الأرواح لا نتفق جيدًا بما يكفي للتشاور مع بعضنا بشأنِ هذه الخصوصيات."

أجل. كلما التقيا يتشاجران من جدالٍ طفولي.

" ولكن يقولون أنّ العداوة تؤلّف المحبّة..."

" لا ، لا! قتالنا طبيعي مثل الذئـب والنمـر ، لا يوجد ما يؤلّف قلوبنا كأننا لا نتفق جينيًا."

"...الذئاب والنمور ليسوا أعداء طبيعيين ، وفي هذه الحالة سوف يفوز النمر. لذا أنتما أيًا منهما ؟ "

متجاهلة تعليق رايدن ومعدمةً حضوره ، حشرَت شيدن قطع من الكعكِ المخبوز في فمها ومضغتها بصوتٍ صاخب متعمّد.

" لكن نعم ، ألاحظ شيئًا غريبًا حوله. وإذا صحّ ذلك فلمَ لا يتحدّث عنه لأحد ؟ أو الأفضل أن تأمريه جلالتك ، فأنتِ قائدته."

" هـذا..."

أجل. إن أظهرَ أحد مرؤوسيها تشتيتًا يعوّق نجاح العملية ، فمن مسؤوليتها استفسارها وحلّها أو يتعامل معها عاجلًا بمفرده. وإذا كان كلا الأمرين صعبين ، فإبعاده عن العملية وارد.

"...ليس بهذه الطريقة."

أرادته أن يراها صديقة يستند عليها ، وليست قائدته... أخفض تفكيرهـا كتفيـها.

-

ومع ذلك ، أخذت زمام المبادرة في واجبِ القائدة اتّجاهـه.

" شـيـن ، إن شعرتَ في أيّ مخاوف ، فسأقرضكَ أذنًا."

" ما الذي تتحدّثين عنه فجأة ؟ "

واجهته بعد تردّدها في بدءِ المحادثة ، بينما واجهها هـو بتعبيرٍ حائر ، ثمّ تنهدت فريدريكا التي صادف وجودها في المكتب.

" بدوَتَ غارقا في التفكيرِ لذا يسعدني الاستماع إليك إذا أردتَ الحديث. أو يمكنني ترتيب جلسات استشارية منتظمة لك."

" آآآه..." أبدى شين تعبيرًا متألمًا للحظة. لكنه سرعان ما كتم مشاعره وهزّ رأسه.

" إنها مسألة خاصّة ، وليست مُقلقة إلى حدِّ إزعاجي."

" لكنها ستحدث مشكلة إذا انتهت بتداخلها في العملية..."

" اعتقدتُ أنّي فصلتهم جيدًا أثناء أدائي لمهامي... أأحدثتُ مشكلة ؟ "

بلغت الحيرة نبرةُ لينـا. لم يُحدث شين أيّ خطأ اتجاه عمله أو قدرته على إكمال واجباته. لكن لم تكنس شعورها الذي التقطَ تظاهره واصطناعه لتعبيره الحالي على وجهه الشاحب. هـو نفسه ولـا ، وكأنه يتأرجح على حافّة نفسه لكن يبقيه مكبوتًا أمامـها.

" لـا. لكن..."

لم تستطع دحضـه وانغمسَت في صمتٍ بادلها فيه هـو. بينما في الزاوية ألقت فريدريكا شكوكًا للجوّ الجديد الذي أحاطهما ، ثمّ سرعان ما قدِمت طرقة قوية على الباب كسرت الهدوء المحرج. وقفت أنيت تلقي نظرة خاطفة داخل الغرفة ، حيث وصلت مع جريث مع بقية حزمة الضربات المتنقلة إلى الجبهة الأمامية لتعويض النقص في القوى العاملة.

" لينـا ، أيستغرقُ حديثكما وقتًا طويلاً ؟ أحتاج إلى استعارة الكابتن نوزيـن بشأنِ ما تناقشنا حوله."

أومأت برأسها ناظرة للّذي ألقى ملامح الاستفهام وأحاطها بالارتباك. كانت مسألة تناولتها مع أنيت من قبل ولم تحتاج إلى مناقشته على انفراد.

" نـعـم ، ولا بـأس في إخبارهِ هنا."

ابتسمت المقابلة في سخريـة.

" إن اتّضحَ أنَّ عليه القول لي من الصعب جدًا تنفيذه أثناء العملية. أتريدين منه قولها أمام قائدتـه...؟ لعلّ الضابط لن يهتم ، لكن عليكِ أن تراعيـه."

صـحـيـح.

" فـهمت. أنتِ محقّة... اعـتـذاري أيّها الضابط ، تفضّـل."

-

أفرغ أنفاسه من رئتيه حالما غادر مكتبها مع أنيت. لعلّ قدومها صدفة ولكنّه نجى. تسلّقه خيوط الارتباك تعيق راحته عندما سألته عمّا إن وجدَ ما يزعجه. لم يُرد أن تلاحظ هِـي من بين الجميع قلق منه ، لكنّه فشل وقد لاحَ على وجهه وتصرفاته.

أعادَ عبوسَ محياها وصوتها المهزوز داخلَ نبرة جرسها الفضّي.

" إن شعرتَ في أيّ مخاوف ، فسأقرضكَ أذنًا."

...لكن لا يمكنني البوح لكِ.

كيف يخبرها عن ضعفه الأبدي في تحقيقِ رغبتها ؟ أنّ إرادته في التغيير تعارض جهله في البدء بذلك ؟ وأن لا يكون عبئًا عليها... ولا يؤذيها مجددًا ؟

-

" هذا من وجهةِ نظرنا. ما رأيك فيه بصفتك القائد الميداني ؟ أخبرتني لينا ألا أمنح الإذن إذا اعتقدت أن تنفيذ العملية سيكون صعبًا."

" لا يعرقلها ولكن..."

أرشدتـه أنيت إلى أحد المستودعات المليئة بالذخيرة وحزم الطاقة المعدة استعدادًا للعملية ، بينما وقف شين في الزاوية يطالع الوثائق الإلكترونية التي سلمتها له.

" إنّ المناوراتَ القتالية لـريغنليف ستكون قاسيةً على جسدٍ لم يعتاد عليها... خاصة على الذين ليسوا من أفراد القوات القتالية مثلكِ ، رائـدة بينـروز."

هزّت المذكورة كتفيها بلا مبالاة.

" ألم تصعد فريدريكا على متنِها من قبل ؟ إذا كان بإمكانِ طفلة تحمّلها ، فلا أرى سببًا يمنعني."

"...مفهوم. سأختار من يتولّى نقلكِ. أوصيكِ أن تعتادِ عليها مسبقًا أيتها الرائدة ، كما سأرتّب جلسات تدريبية لكِ."

" أشكركَ على لطفك."

ثم واصلت بادئةً في مضايقته.

" علمتُ أنكَ ستستمِع إليّ... كنتَ دائمًا تستسلم في النهاية كلما سألتك شيئًا سخيفًا.."

قالت وهي تعلم عن ذاكرته المفقودة لماضيهما. وإن تذكر فكان عن اللحظات التافهة العابرة التي لا تجعلها ذات قيمة. كانت إجاباته دائمًا إما عادية  لا أتذكرها أو ربما مقتضبة. ومع توقعها الرد نفسه الآن ، إلا أنه صمَتْ.

"...الضابِطْ ؟ "

" لم أكن..."

النظرة التي هدفَت لرؤيتها لم تلتقيها عندما أمالها بعيدًا.

"...لم أكن لأوافق حقًا إذا سألتِني عن طلبٍ سخيف... ريتا."

اتسعت عيناها في اندهاشٍ لحظي سرعان ما أخفضت حاجبيها راسمة ابتسامة مقوّسة للأسفل.

" إذن أنا لستُ الرائدة بينروز."

ريتا. اسمُها الذي خصّصه لها قبل إرساله إلى معسكر الاعتقال. عُثر على إحدى والديها منتحرًا والآخر مات في الهجوم ولم تخبر لينا أبدًا بلقبها. وحين لم يتذكرها عندما اجتمعا ، اعتقدت أنّ الاسمَ اندثر ولن يعود ويناديها أحد به مجددًا.

" أتتذكّرني؟ "

" ليس كليًا. أشعر بالكثير من الفجوات ولكن..."

أخذ نفسًا قصيرًا.

" لكن الحقيقة أنّي لم أفقدهـا أبدًا. لذا تقبّلي اعتذاري عدم التذكر حتى الـآن."

" لـا بأس. ليس خطأك... وحتّى تتذكّرَ كل شيء ، سأكون أنا من تعتذر."

فجأة شعروا بنظرة عليهما ، فنظروا حولهم ليجدوا ظل فيدو يتلصص من خلف إحدى الحاويات. طردته أنيت بعيدًا بإشارة من يدها.

على الرغم من عدم امتلاكه إرادة أو مشاعر ، لكن الطريقة التي بدت بها أجهزة الاستشعار البصرية الدائرية الكبيرة تنظر إليهم أعطت انطباع قلقـه على شـيـن. وكان لطيفٌ جدًا.

وفي ملاحظةٍ تافهة ، كان فيدو هو الاسم نفسه الذي أطلقه على كلبه الأليف في الماضي. بدا أنّ بساطته في التسميات لم تنضج معه.

لم تتمكّن أنيت من تحديدِ متى تذكرها ، لكنه انتظر الفرصة بطريقته الخاصة. عـانت لينا مؤخرًا من قلقٍ حول شين الغائب فكره ، ولعلّ شأنهما كان مرتبطًا بهذا التغيير في حالته العقلية.

نعم ، لـيـنـا. الـآن لم تعد مألوفـة أمامه... بل صديقة لينا.

" حول ما حدث قبل قليل. تصورتُ حدوث مشكلة إذا لم أتدخل ، لكن من فضلك لا تقلق لينا كثيرًا. حقيقة أنكَ هادئ للغاية أثقلت كاهلها لأيـام. واستجمعت شجاعة لا حصرَ لها لتسألك ، لذا لا تتجاهلها كثيرًا ، حسنًا ؟ "

"………"

مرّت عشر سنوات وعادته في التزامِ الصمت كلّما شعرَ بالضيق لم تتغير وكأنه لا يزال طفلٌ صغير.

ولعلّه كذلك لأنه عالِق حيث فُقدَت نفسه. خلالَ الخمس سنوات من تجنيده في الفرقة العسكري في قطاع الستـة وثمانـون كان مقدرٌ له الموت. علَم أنّ لا مستقبل له وانتزعوا منه التفكير فيه حتّى وإن أصبحَ بالغًا ؛ لأنّه سيستمر في القتال.

لذا لم يكن بإمكانه أن يصبحَ الذي لم يتخيّله أبدًا. كانَ البالغونَ هم أوّل من رحلوا ولم يتبقَّ في القطاع سوى الأطفال. لم يروا نماذجًا يحتذى بهم مثل الآباء أو معلّمين أو أشقاء أكبر سنًا.

ولم يكن بحوزتها القول عند إدراكها :

هذا... سيئ حقًا.

فُقدان خطاكَ ولا نهاية لطريق مجهول. العيشُ جاهلٌ بما تريد.

" آمل ألّا هذيتُ بملاحظتي. لعلّني أزعجتكَ الآن..."

شهقت في لحظةٍ بردَت فيها أعينه الدموية وشهدت تغيّر حضوره أمامها لأول مرّة ، فتبتلع ريقها في توتر.

"...الفيلـق ؟ "

" نعم... المعذرة. سأوجّه فرقتي الآن."

مما عنَى مغادرته.

" كونوا حذرين."

-

بعد مغادرتـه لم يفارق الحرج لـيـنـا. بينما فارق الصمتُ فريدريكا وتدخّلت مُتحدّثة.

"...أحيانًا ، في العجلةِ الندامة."

عند التفاتها خلفًا لمواجهتها ، لم تكن عيناها القرمزين تنظر إليها ، بل كانتا تتعقبان شين خلف الجدار الخرساني السميك.

" شينييـه ليس قويًا كما تعتقدين. ولا يفهم نفسه... إنه مليء بالشكوك منذ وقت طويل. لذا لا تتعجّليه في الإجابة لأنها لا تخدم إلّا في محاصرته أكثر..."

".........؟ "

شـيـن... لم يكن قويًا ؟

" أنتِ مُخطئـة..."

" أتتذكرين اللحظة التي قابلتِ فيها شينييـه لأول مرة ؟ "

أسدلت جفنيها في استحضارِ لقائهم الأول. أكان يوم النصب التذكاري لموجّهي الجاغرنوتـز ؟ لـا...

" عندما قاتلنـا مورفـو."

" نعم. ثمّ ألا تتذكرين كيف بدا آنذاك ؟ إنها جزء لا تتجزّأ منه... عندما رفض نيّته في أن يظهر لكِ."

ذاك الصوت الذي صدحَ من مركبته المتضرّرة بين أزهار زنبقـة العنكبوت. وكـان...

فجـأة ، انطلق صوت إنذار حادّ.

"ما هذا ؟! " صاحت فريدريكا.

" هذا الإنذار...! "

ليس من المقرّر أن يكون اليوم كمائـن ، ومع ذلك تدافعت وحدات كثيرة إلى مناطق النزاع ، وكان هذا السرب...

" شنّ الفيلق هجومًا مضادًا وأجبروا على التراجع...! "

-

رأى شين حال وصوله إلى ساحة الانطلاق أفراد رأس الحربة حاضرين جميعهم. اتّجه نحو غرفة الاستعداد ونادى على جورين ، سرعان ما تتبّع شعر كورينا القرمزي وهي مندفعة تسبق خطواته. نُشرَت القوة التي استعدّت لتقديم الدعم وسبقت في الإنقاذ ، لكن أعداد العدو هائلة للغاية. ولا يوجد قوات عسكرية كافية للسيطرة على الخط حتّى يتمكن حلفاؤهم المتفرقون من التراجع إلى منطقة آمنة.

" جورين ، هل سـرب رأس الحربـة مستعد للمغادرة ؟ "

" بالطبع. لن أكون عامل فخور إذا كان التجول حول بقايا الفيلق يجعلني أنسى الصيانة ! "

أدارَ نظره بينما خطفَ شين لفتةً إلى توكا وهي تنهي تحميل الذخائر على الأندرتيكر. اصطف فيدو وبقية أفراد فريق السكافنجرز بينما يملؤون حزم الطاقة الاحتياطية والأسلحة الأخرى.

" فـي الخارج عاصفـة ثلجيـة... كن حذرًا."

" نعم."

أومأَ وسارَ مغادرًا بينما يفكّ وشاحه لربط جهاز الريـد ، ثمّ أعاده وقام بتنشيط الرنين. لم تحظى حزمة الضربات المتنقلة بضبّاطٍ كُثر ، وعليه مُنحوا ضباط الأركان بانتظام حقوق القيادة. يكن لدى حزمة الضربة العديد من الضباط، وبالتالي كان ضباط الأركان يُمنحون بانتظام حقوق القيادة. لم ينادى شـيـن بالقائـد ، ولا يقوم بأي مكالمات على أساس ذلك ، إنّما يستمع لفهم الوضع قبل الإحاطة.

وكان الوضعُ سيئًا. تدافعت رسائل أعضاء السرب بسرعة وتداخلت أصواتهم في ارتباك : الفصيلة الثانية معزولة. نفدت ذخيرتها. لقد علِقنا. نطلب الإنقاذ... الملازمة الثانية إيرينا ميسا ، قتيلةٌ في المعركة.

ظهرت في ذهنـه وجه فتاة هادئة تعمل نائبة قائد وحدة ريتو في سرب كلايمور وهـي على عكسِ طباعه. كانت إلى جانبِ ريتـو واحدة من رفاقه في القطـاع قبل أن تُرسل إلى سرب رأس الحربـة، حتّى وقوع الهجمات واسعة النطاق.

تذكر ابتسامتها المتحفظة والمحادثات القصيرة القليلة التي أجروها. لكنها ليست سوى ذكرى خافتة ، ومع شحذ ذهنه استعدادًا للمعركة ، لم تفعل الذكرى شيئًا لتأجّج أي عاطفة. نفى وعيه إحياء أيّ من ذلك ورماها إلى زاوية مجمدة من عقله.

لا حاجة للعاطفة الآن. أخبره عقله وردّد كلماته مثل النصل الحاد. وبينما وضع يده على الباب ، ناداه صوت من الجانب.

" شـيـن."

وقفـت لينا تكافح لاستعادة أنفاسها وعيناهـا الفضّيتـان غائمتين بالحزن. وكما عادتها ظلّ جاهز الريـد متّصلًا على عنقهـا. ثمّ بصفتهـا قائدتهم سمعت تقرير الوفاة. لذا قمعت مشاعرها بقوّة إرادتها.

" سنبدأ الإحاطة بمجرد استعداد الجميع. سأحاول اختصارها ، لذا يرجى الإسراع عند انطلاقكم."

" عُلِمْ."

فتحَ الباب وسمح للينا بالدخول أولاً. ثمّ تبعهم أعضاء السرب الذين تواجدوا وسماع أصوات الذين تأخروا في طريقهم إلى الساحة في الخلفية.

طاردَ شعرها الطائر وهـي تمرّ حتّى لاحَت ملامحها أمامها ورأى حُزنهـا. لم تظهره كلماتهـا وأفعالـها ، لكن تلك اللحظة لأنّها كتمت داخلها ملتزمة بأساليب قيادتها. إلا أنها لم تنفي أنّ وفاة إيرينا آلمتها.

أمّا هـو ، فلم يأسره الحزن. تحوّلـت عقليته استعدادًا للمعركة التي حرمت فرص تخصيص الوقت على موتِ الرفاق.

 بعد أن عاش في ساحة المعركة لسنوات ، علم أنّ حزن وتحسّر المرء يحتضن بعد انتهاء المعركة ، وإلا فإنه سيتبع خطى أولئك الذين ماتوا.

ولكن هذا الشأن مغاير عندما يطرق قلوب الستـة وثمانـون. أينَ الموت أسلوب حياة. للجميع... ولشـيـن نفسه. جزء منه آمن حقًا ...

شعر بقشعريرة تسري في جسده. لم يستطع أن يرى نفسه إلا وحشا. يسيـر وحده في طريقٍ وحيد مآله ساحة المعركـة وممهدًا بجثث رفاقـه. هـو الوحش الوحيد الذي اعتبر الموت أمرًا مسلّمًا به.

كان ينبغي أن يتعلّم الآن بأنّ أسلوب العيش ليس هكذا. العيش لأجل الموت ، والاندفاع نحو الموت ، والدوس فوق الجثث والتعطّش للنهاية... ليس أسلوبا لخوض الحياة. اعتقدَ أنه فكّر بشأنِ أملٍ في المستقبل وإن لم يستطع تخيّلـه.

في اللحظة التي حاول فيها المضي قدمًـا ، شعرَ بإمساكٍ محكم من أحدهم ليده ولم يفلَت من قبضته. وعندما استدار وجد نفسه ، نسخةٌ أقصر وأصغر سناً وقبل أن ينضج صوته. شـيـن الذي وغَلَ القطـاع وبدأ الناس مناداته بالحاصد بعد أن تركه الجميع خلفهم أمواتا.

ضحكت نفسه...

سأكون أفضل حالاً إذا عشت كأنّ موتي غدًا ، معتقدًا أنّ الموتَ هـو أسلوب الستـة وثمانـون. لا حاجةَ للتفكير في مستقبـلٍ لن أحظى به أبدًا.

وأنتَ كذلك. غازلتَ موتكَ في القطـاع ، وفي الطريقِ إلى هنا فوق الجثث.

وحشٌ مهووسٌ بالموت.

"..........! "

خدعَ نفسه. وفي اللحظة التالية ، حتّى الرعبَ الذي ملأه اختفى تلقائيًا من وعيه. وكان هذا نتاجٌ لتكيّفه مع الحرب الذي دفعته ليكون آلة بشرية.

إنّ السببَ في عدمِ تخلّيه عن هويتـه ليس لأنّه متمسكًا بفخـرِه. بل لأنّ في عمقِه هـو يتمنّى مصيره المحتوم المتمثّل في الموتِ يومًا ما...

-

وكما قال جورين ،انهالَ الثلجُ حتّى غطّى المنطقة بأكملها ، كأنّ احتدام الثلج كان منذ ما قبل الفجر. أعاق الحواجز المكدّسة رؤية أجهزة الاستشعار البصرية ، مما صعبُ على أنظمة التصويـب وأشعة الليـزر اختراقها. لكن ظروفهم نفسها تنطبق على الفيلق. امتاز سرب رأس الحرب بقيادة شين على تحديد مواقع العدو دون الاعتماد على البصـر.

هبّ من وراء الجبال رياح ثلجيّة وأحيانًا من الجانب حتّى لاحَت الغابة الصنوبرية التي تُبرزُ مثل ظلال ضخمة في الأفق في البياضِ الناصع. إذا مروا عبرهـا ، فلن تكون الرياح شديدة.

قاد الأندرتيكر السرب في حذرٍ عبر طريق بعيدًا عمّا يكون الدرب فيه. أين الثلج هشًّا ويتفتت بسهولة في درجات حرارة  تحت الصفر مُحدثًا أصوات طقطقة أثناء خطوهم. نبهه قرب صراخ الأشباح أنهم تسللوا إلى منطقة القتال.

فحص شاشة الرادار ، التي تمكنت بالكاد من التقاط البقع الزرقاء لحلفائهم ، ونادى.

" ريتـو."

تزامن معه عبر الرنيـن مُناديًا ومؤكدًا أنّه لم يكن ميتًا أو فاقدًا للوعي ، لكن رد ريتو جاء متأخرًا ومقلقًا. كما لو كان مشلولًا من شدّةِ الخوفِ حتّى تشنّج صوته وأبَى الخروج.

" الضابـط."

احتوَت نبرته رجفة سمعها شين مرارًا لا تحصى كلّما خاض معه ساحات المعارك. رجفةٌ خانقة وخائفة كلما رأى موت أحدهم أو احتمال موتـه.

" سـيـدي ، أنا ... لا أستطيع أن أصبح مثلهم. مثل السيرين. لا أريد أن أنتهي هكذا، لذ..."

نظر شين إلى وُكْنَته حيث كان ينظر إلى السماء. كان ريتو لا يزال مسكونٌ بذاك الحدث. مشهد الفتيات اللاتي يضحكن بينما يمتنَ موتًا لا معنى له ، وهـو ما يبدو انعكاسا لنهاية الستـة وثمانـون الوشيكة. مثل الدليل على أنّ قسمهم وفخرهم بالقتال حتى النهاية كان بلا معنى. بدأ يشك في الشيء الوحيد المتبقّي له ويسانده.

 " تراجـع ريتـو... خذ جميع الناجين وانسحب من المنطقة."

أخبره ببرود: لا يمكنكَ القتال كما أنتَ الآن. أولئك الذين تحطمت معنوياتهم خوفًا من الموت وجنون المعركة ، والذين شككوا في أنفسهم وتجمدوا ، لم يكن لديهم مكان في ساحة المعركة. وإذا لم يستمع إليه ، فسوف يموت ويتورط في ذلك بقية الموجّهين في سربه.

"...عُــ عُــلِــمْ."

" تدعمنا شيـدن... سرب بريسينجامين قادمٌ خلفنـا. أعد تجميع صفوفك معهم الآن."

أومَأَ وأمرَ مجموعته بالتراجع. بينما تقدم شين للأمام آخذًا مكانهم وحوّل اتّصاله إلى مرؤوسيـه.

" انـتـبـاه إلى سـرب رأس الحربـة. ندخل الآن إلى منطقة النزاع ، بناء على انتشارهم فإنّ قوة من جروولف ومدفعية ستيـر كلا منهما بحجمِ كتيبة بانتظارنا. و..."

من المسافة بينهما ، دقّق في صرخةٍ مروعة ترددت إلى أذنيه مثل الرعد وهو دوي مدفع. أشاروا إلى أولئك الذين استوعبوا الشبكات العصبية لقتلى الحرب : الخراف السوداء ، ونسخهم المتقدمة من كلاب الرعي.

ثم تواجد قائد جيشهم ذو النبرة العالية والواضحة من وحدات الجنود. استوعبوا أدمغة قتلى الحرب المتوفين حديثًا ، فحافظوا على ذكائهم وذكرياتهم ومعرفتهم من وقتهم في الحياة.

"... وراعي. من المحتمل أن يكون ديناصوريـا."

-

امتـازت الديناصوريـا بكونها وحوشًا فولاذيّة ذي أكبر مدافع ناريّة ودروع دفاعية من بين جميع أنواع الفيلق المنتجة. مع الحفاظ على الفجوة بين الوحدات ، تقدّم السرب بقيـادةِ شـيـن شاقًّا خطاه الغابة الثلجية ومتأهّبًا للهجمات. هدفوا إلى اختيارِ تضاريسٍ وعِرة لتقليل توفير موطئ قدم لهياكل العدو الكبيرة وحرية الحركة.

فـجـأة ، انهالَت الثلوج المكدّسة على الصخور الضخمة واحدة تلو الأخرى ، حتّى لاحَت ظلالا قفزَت من العلوِّ كاشفة عن معدنِها الداكن. بدا أنّه دُفن في مقبرةِ الثلوج ، ومع مناورات صامتة مميزة للفيلق ، تحرّكت الديناصوريـا البالغ ارتفاعها أربعة أمتار ووزن ألف طن ، ثمّ صُوّبت واندفعت نحو الأندرتيكـر متقدمة عن الصفوف أمامها.

انطلَت عليه الحيلة.

" إطلـاق ! "

استجابوا دفعةً واحدة نظرًا إلى تنبيههم مسبقًا حول اختبائـه ، بينما تدحرَج شـيـن هاربًا من الهجوم. سرعان ما أمطرته القذائف الخارقة للدروع عالية السرعة مقاس 88 مم.

مع علمه بشأنِ استهدافـه ، استخدم الأندرتيكر طُعمًا في هجومٍ مضادٍ في الوقتِ المثالي.  لكن سرعة رد فعل الفيلق سمحت للراعي بتجنبه. قفز ثقله في الهواء عائدًا وناشئًا على أثرِ هبوطه ضبابًا كثيفًا. سقطت أشجار الصنوبر المكسورة في صوتٍ مدوٍ بسبب اصطداماته.

ثم حوّلَ الديناصوريـا الرشاشين الثقيلين الموجودين أعلى برجه ، كل منهما يستهدف هدفًا مختلفًا. برجٌ عياره 155 ملم ومدفع ثانوي محوري فرّقت صفوف الجاغرنوتـز متجنّبة نيرانها. أثناء قيادة الأندرتيكر ، اتّبع شين مسارًا يتجاوز النقطة العمياء للديناصوريا ، ومتتبعًا الوحشَ المعدني بعينيه.

طريقته في الهجوم...

بدا أنّ الديناصوريـا تنبّأ في تحرّكات شين وفرقته. على الرغم من استخدام الدولتان نظام فـيـلـدري إلا أنّهما امتلكا فلسفات تشغيلية مختلفة. ولأنهما تعملان وفقًا لمفاهيم مغايرة ، فهذا أثّر على تصميم هياكلهما. كما اختلفت الاستراتيجيات التي تتبناها.

استخدمت بـاروشـكـا مـاتـوشـكـا برجًا بعيد المدى عيار 125 ملم ونظامًا للتحكم في الأسلحة عالي الدقة لإسقاط العدو بقوة نيران مكثفة تتطلق بدقة حادة بالليزر.

على النقيض في ريـغـنـلـيـفـز تخصصت في القتال عالي الحركة. حتى عند نشرهما في ساحة المعركة والتضاريس نفسها ، فإنّ المواقع والاستراتيجيات التي ستتبناها مختلفة.

وهذه هي ساحة المعركة في المملكة المتحدة. حيث واجهَ الفيلق بـاروشـكـا مـاتـوشـكـا كثيرًا وجمعت التدابير المضادة لتكتيكاتها. ولكن الـآن ، قرأت الديناصوريا قرارات سرب رأس الحربة الذي يستخدم الريغينليفـز.

مما يعني...

" إنه سـتة وثمانـون".

" نـعـم."

أطلق رايدن تذمّرًا منخفضًا. كانوا وحدهم أنفسهم الذين يعرفون تكتيكات سرب رأس الحربة من الستـة وثمانـون. وكانوا الأكثر خبرة في القتال في البلدان المجاورة والذين يمكن تحويلهم إلى خراف سوداء ورعاة.

علاوة على...

ضيّق شين عينيه مستمعًا إلى الأنين...

هذا الصوت...

...مألوفًا. كان مقاتلٌ إلى جانبه في القطـاع. لم تكن كلماتـه اللامتناهيـة التي ينحب بها مألوفة في ذاكرته ، لذلك هو احتمال في كونه أولئك الأفراد الذين لم يموتوا أمام شين. لكن...

" أنقذونـا."

رحلـت كاي التي تمنّت الأمنية نفسها. اعتُبر معظم الخراف السوداء الآن عتيقين واستبدلوا بكلاب الرعي الأكثر كفاءة. ولكونها أحد الخراف السوداء فيما مضى ، فإنّها من المنتهيين الآن. ولكن اتّضح أنّ القليل منهم ما زالوا محاصرين. بعض أولئك الذين تحولوا إلى رعاة ما زالوا باقين.

عليّ أن أعيدهم. وعدتُ بأخذهم معي. والوعد...لـا يمكن نقضه.

" رايدن... اتركـه لـي. وكما العادة ، تولّى مهمة المواجهة المحيطة والقيادة بينما تغطّيني."

لكن ردّ المُتلقّي تشوّبَ بالشك. " انتظر، ألسنا نغطي إخلاء الآخرين الآن ؟ علينا الاحتفاظ بمواقعنا حتّى وصول سرب ريتو إلى منطقة الأمان. أما عن الفيلق فكل ما نحتاجه هو إبعاده ، لا داع لتكبّد عناء تدميره."

" هـو... ستـة وثمانـون أريد إعادته."

للحظة ، لحفَ الصمتُ رايـدن.

"...عُلمْ. لكن لا تفعلها بجنون وتضغط على نفسك. سأدعم حمايتك."

-

" مجددًا. هـو عازمٌ على تدمير الديناصوريا لوحده."

على بعدِ عشرات الكيلومترات ، تمتمت فريديريكا بمرارة وهي تشاهد المعركة بين الدبابة الثقيلة وبين الـأنـدرتـيـكـر، والتي لا تُرى على الخريطة الرقمية إلا نقاط متحركة.

نكسَت لـيـنا رأسها في خوفٍ عند الهمسة المسموعة. امتلك الفيلق قدرات تفوق الأسلحة البشرية المدرّعة ، ولكن حتى بينهم ، فإنّ الديناصوريا هي النموذج الأقوى. إنها ليست خصمًا يمكن لـفيلدري التي يقودها إنسان أن يواجهها لوحده.

كانت رؤية شين في أسلوب القتال الضروري أمام الديناصوريـا ولـوي باستخدام مواجهة عن قرب لضرب نقاط ضعفه وأدرعه. ولم تكن لينا تنوي الجدال ضد منطقه. على الرغم من خبرتها في قيادة المعارك ، إلا أنها لم تقاتل أبدًا وجهًا لوجه ولا يحق لها الشك في قراراتـه ، هـو الذي نجا من سبع سنوات في معاركِ مميتة.

لكن لم يسع للقلق إلا أن يسكنها. يلتقط مسمعِها صراخ الموجّهين ، " نـوزيـن ، حافظ على مسافة آمنة بينكما." ، " لا يمكننا إطلاق النار عليه عندما تكون قريبًا جدًا." ، " نتوسّل إليك ، تراجع."

ولم يستجب.

لعلّه في تركيزٍ شديد لا يسعه سماعهم ، كما حدث عندما واجه فـونـيـكس في محطة المترو... وعندما قاتل حتّى الموت ضد الديناصوريـا التي أوَت شبح أخيه.

ولأنّه سرعان ما يدخل في عُزلتـه ، كانت حالته تُجزعـها. تأرجحـه على حبالِ الموت... يُوشك أن يُسقطه حقًا ولا يعود أبدًا.

"...شـيـن."

امتلك دومًا قوّة محاربة تبقيه حيًّـا. ولكن مؤخرًا ، بدا...

" أأنتَ بخير حقًا...؟ "

-

كانت دروع الخصم الأمامية سميكة تمكّنها من صدّ الطلقات المباشرة من مدفعه الأملس عيار 155 ملم. حتّى مدفع ريجينليـف عيار 88 ملم لم يستطع اختراقه. كان يبدّدُ الثلجَ  ويدوسُ الأرضَ ووزنه الهائل يسحق الأشجار متّجهًا نحو شين.

قادَ الأندرتيكر بهمجيّةٍ لتجنّبه ، مستخدمًا مراوغات عشوائية للالتفاف على التكوينات الصخرية المعقّدة والنتوءات وجذوع الأشجار الصنوبرية القريبة كموطئ قدم. وبينما يتفادى نيرانه ، حاول استهداف نقاط الضعف في دروعه.

لا شكّ أنه من الستـة وثمانـون. رغم تضاريس الغابة التي لا تناسب هيكله ويندفع إليها بقوةّ وإهمال ، إلا أنّه ذكي في اختيار مواقعه لإخفاء درعه الخلفي العلوي عن الأنظار في جميع الأوقات. اتّخذ هذا الحذر تحسّبًا لمناورات الجاغرنوت الخفيف وواعيًا لتكتيكاته الراسخة في لفِّ نفسه فوق الهياكل بمرساة سلكية وشنّ هجومًا مفاجئًا من الأعلى.

إثبات هزيمته صعبة.

مـدفـع 88 ملم هو سلاحٌ فعالٌ على أيِّ شيء باستثناء الدروع الأمامية ، لكن حفارات الركائز لأرجل ريجينليف قادرة على اختراقهـا إلا أنه بحاجة لسرعة فائقة ، وبما يكفي لإلحاق الضرر بالموجّه.

إنها معركة صعبة ، ولكنهّا لا تعدم فرصة ريجينليف في الفوز. ليست شيئًا مقارنة عندما قاتل شقيقه في ذلك التابوت الذي أسره.

كانا مدفعاه الرشاشان الدواران يزعجناه من وابلِ الرصاص اللذان يطلقانه فيعيقا طريقه. أطلق قاذفة مضادة للدبابات شديدة الانفجار ومزودة بفتيل تقارب ، مما أدى إلى تدمير إحدى رشاشيه. ثم اندفع قاطعًا أحد الأرجل التي تدعم وزنه البالغ ألف طن.

علمَ بعدها أنّ هجومه المضاد قادم. تفادى ركلة ساقه مثل وتد حديدي دون أن ينظر إليها ، ثم الثانية وثالثة بقفزاتٍ حادّة قصيرة ، حتّى غاصت ساقه الخلفية اليمنى عميقًا في الثلج المتجمد.

" تسـك...! "

مُنعَ من الحركة كأنه ابتُلِع ، وبينما نظرَ إلى برج الـ 155 ملم الذي يدور ببطء غريب لاستهدافـه ، قام بتنشيط مفكك الركائز في ساقه المغمورة لإخراجها بالقوة. ففجّر مفك الركائز 57 ملم من البارود ليتسبب في ارتداد قوي سحبها من خلاله واستخدم ساقيه الثلاث المتبقية للقفز إلى اليسار، والهروب من خط النار.

بعد ذلك مباشرة ، تسبّب هدير نيران مدفع الدبابة وموجات الصدمة للقذيفة الخارقة للدروع عالية السرعة التي مرت بجانبه في اهتزاز درع الـأنـدرتـيـكـر. احتاجت الديناصوريـا تأخير قصير لإعادة تحميل القذيفة التالية ، ولا يمكن للتسليح الثانوي على يمين البرج أن يستهدفه من هذا الوضع. بينما دُمّر كلا رشاشيه.

مما عَنى حُرية شـيـن في إطلاق النـار دون أي هجوم مضاد. ضُبطَت أنظاره المتتبّعة لخط بصره ، ووضع اصبعه على زناد مدفع الـ 88 ملم ــــ

لاحَ تحذيرٌ مفاجئ : ضررٌ في ركيزة الساق الخلفية اليمنى.

أعادَ له الصوت الحاد للإنذار رشده ، وحقّق هدفه في تحذير الموجّه. فاتّسعت عينا شين عندما أدرك أنّه في هذه اللحظة ، أوشكَ على أن يكون آلة حربية ــ ووحش مهووس بالموت.

نسي بسهولة تلك الكلمات التي تأمره بالعودة حياً... وتحوّل إلى متجوّلٍ يقتات الموت في ساحةِ المعارك.

أتـاح تشتّتـه لعدوّه فرصة. سمح الإنذار الصاخب في أذنيه للديناصوريـا بتقليصِ مسافةٍ مميتة. ثمّ رفع هيكله الضخم والذي ملأ الشاشة الرئيسية وأرجح ساقيه الأمامية مثل سلاح فتّاك.

"...! "

سحب عصا التحكم للخلف مجبرًا أندرتيكر على القفز ، لكن فات الأوان للتهرب. ومع ذلك فإنّ تصرفه بمثابة رد فعل حكيمة ستخفّف التأثير وإن قليلًا. تركت كلتا ساقيه لمس الأرض وفي اللحظة التالية ، جاءت هزة الاصطدام. رفع ساقه الأمامية اليسرى لصد الضربة ، لكن صوتٌ كسرها مع مرساة السلك ملأ أذنيه. أطلق نظام التحكم تنبيهًا صارخًا.

ثم فقد شـيـن وعيـه.

-

" هـاه...؟ "

مـاذا حـدث ؟

فـوجئت لينا حتّى لم تلاحظ المشهد الذي عرض على الشاشة الرئيسية لفاناديس. لا يمكنها تصديق ما حدث للتو. شيء لم تكن لتتوقعه أبدًا، وتجاوز فهمهـا.

أرسل ومضة نقطة تواجد الأندرتيكر في اتجاهٍ مختلف عن المكان الذي اتّجه إليه قبل لحظة. تحرّك ضد سيطرة موجّهـه وألقي به جانبًا مثل القمامـة ، متدحرجًا على الأرضِ للحظات قبل أن يتوقف. ظل عاجزًا وثابتًا ، حتى مع هجوم العدو عليه مباشرة أمام وجهه.

أتعرّض شـيـن... لهجـوم...؟

حالما استعدّت الديناصوريـا لملاحقتها وقفَ المستذئـب والثعلب الضاحـك في طريقها. كلاهما يطلقا نيران المدفعية مما لفتا انتباه الآلة التي بُرمجت لإعطاء الأولوية للأهداف الأكثر تهديدًا أولاً. وبينما فعلوا ذلك، سارع الجاغرنوتـز المتبقين في تحويطِ أندرتيكـر.

تُركَت ومضتـه ثابتة على شاشـةِ الرادار ولم تتلاشـى إشارة لعدم تضرّره بشكلٍ قاتل. لكنه لـم يتحـرك وانقطع اتصـال البـارا ريـد.

عنَّ مارسيل مُحبطًـا.

" لمـاذا لـم...؟! "

وشعرت لينا مثلـه. كان بإمكانه تفادي تلك الضربة. بل عليـه تفاديهـا. عرفت لينا مهاراتـه خلال رؤيتها يفعل ذلك في جلسات التدريب العديدة ، وفي مختلف نوعيات المعارك. كانت قدرة ريغينليف على المناورة عالية جدًا من شأنها أن تلحق الضرر بجسد الموجّه العادي ، لكن شين قادهـا بسهولة.

لا ، هـو تجاوزَ ما رأت أنه قادر عليه. شغِلَ التابوت المعدني لمدة خمس سنوات طويلة لم يستطع في عدة أوقات تحمل نيران الرشاشات ، ومع ذلك ، اندفع إلى صفوف العدو مشتبكًا معهم بأسلحة المشاجرة دون تلقي ضربة قاتلة واحدة. طوال هذه المدّة نجا من قطـاع المـوت.

لن يتلقى ضربة مباشرة من فيلق واحد. حتى لو كان راعيًا.

إذن... لماذا ؟

ذهولـها اللحظي استدرجته لتلفت إلى ضباط التحكم. كانت ريغينليف مجهزة بأنظمة متعددة لم تكن لدى الجاغرنوت المصممة على أنها طائرة بدون طيار.

" كيف هي علاماته الحيوية ؟! "

" نبضه وضغط دمه وتنفسه كلها ضمن المقبـول. لكنه لا يستجيب للتنبيهات..."

أدلَت فريدريكا بتعليقٍ الخاص وبوجهٍ شاحب. أطلقت عيناها القرمزيتان توهجًا يُظهر تفعيل قدراتها الخارقة.

" لا يبدو أنه يعاني من أي إصابات خطيرة. ليس إلا فاقد الوعي. رايدن والآخرون ينادون عليه ، لكنه لا يستجيب."

" اسرعوا واسترجعوه ! شيدن ، انشري سرب بريسينجامين لتغطيتهم! "

*  *  *

بصرفِ النّظر عن ثقافة البُلدان ، فـإنّ طابع غرف المشافي نفسه من ناحية الجدران البيضاء ورائحة التّعقيم. تاهَ شين في ذِهنه حالما فتحَ ستائر جفنيه ، متمعّنًا في السقفِ المجهول الذي شعرَ وأنّه سبق له رؤيته. من حيث المبدأ ، وُجبَ الحفاظ المرافق الطّبية نظيفةً لمنع العدوى. وعليه طُليت باللون الأبيض حتّى تبرز الأوساخ.

أدركَ للحظة غرقِه في تساؤلاتٍ لا معنى لها ، فدفعَ يديه إلى الشراشف يرتكز ويجلس. ثمّ استعادَ وعيه كاملًا ما إن لاحظَ ظلًّا على حافةِ رؤيته من عينه اليسرى ، أين الشريط اللاصق يستبيح عرض جبهته ولامسها بأنامله ، فشعر بملمسٍ جافّ من قطعِ الشاشِ المتجمّعة. ثمّ على جرحٍ آخر فوق عينه حيث بقيت الندبة.

ندبة ذكرى قتاله مع شقيقه في عمقِ أراضي الفيلق آنذاك ، والخالية من مرافقٍ طبية أدّت إلى تولّيه خياطة نفسه لتترك علامة. كان خصمه آنذاك فرد من الديناصوريا ، آلةٌ ضخمة لم تشتّته ولم يبعد نظره عنه. ضغط من هذه الذكرى أسنانه ببعضها محبطًا وحفرَ أظافره في جلدِ جبهته.

هذا لم يحدث من قبل. لم يفقد تركيزه أبدًا بسبب سؤال يثقل على ذهنه ويسمح لعدو بالتفوق عليه.

وخلف الستائر الرقيقة المرتبطة بغيرِ إحكامٍ ببعضها البعض ، سمع صوت حفيف القماش قاسي الملمس للزيّ العسكري... حيث استيقظ من يجاوره على سرير آخر.

" آه ؟ استيقظت أخيرًا؟ "

حالما رنّت كلماتها على مسمعِه ، فتحت الستارة لتُضيف على بصرِه ضوء الإنارة خلفها ، فأعماه للذي اعتادتا عيناه ظلمة قمرة القيادة. بينما ومَضت حدقة زوجٌ من الأعين متباينة اللونين. إحداهن نيلةٌ داكنة والأخرى أبيض ثلجي.

لوّحت بيدها تجذب وعيه. صاحبة البشرة البنيّة وشعرها القرمزي.

" يا."

"... لمَ أنتِ هنا ؟ " ردّ شين مستفهمًا بنصفِ أعينٍ مغلقة بينما تضاحكت شيدن.

" ومَن التي تمنّيتها أن تكون ؟ اعتبرني تحيّة لا تسرّك يا حاصد الأرواح الصغير ؟ يٌقدّم رايدن تقريرًا نيابةً عنك ، وجلالة الملكة تنظف فوضاك ، لذلك أتيت لمراقبتك...فـكما تعلم ، أنا من أخرجك من ساحة المعركة تلك ؟ "

"………"

نظر حوله ، وفهم أنّه في جناح المستشفى في قاعدة الاحتياط ، أين يمكثون المرضى ذووا الجروح الطفيفة والذين لا يحتاجون إلى رعاية مكثفة. انتبه لتجريدهم له من بدلته المدرعة السميكة وطيّها بجانبِ زيٍّ إضافيّ ، حيث احتمالية إعاقتها علاجه. وعند ملاحظته للأقمشة لمسَ عنقه فجأة ولم يشعر بوشاحه ، والذي كان من المؤكّد نزعهم إيّاه أثناء معالجته.

لاحظت شيدن ندبته الكبيرة التي تحيط عنقه ، ولكنّها لم تبد أي تعليق.

" قال الطبيب أنّ رأسكَ لم يصطدم بشيء وعليه لا توجد علامات بارتجاجٍ في المخ. وللتّأكد من سلامتك والغرز في جبهتك سترتاح لليوم وغدًا."

وجّهت إبهامها نحو جبهتها مبتسمةً ثمّ اختفَت وهي تواصل سؤالها :

" أتتذكر ما حدث؟ "

" تقريبًا."

يتذكّر بوضوحٍ إلى حدّ التّمني إن كان بإمكانه نسيانه.

"... ماذا عن الديناصوريا ؟ "

" أهذا أوّل ما تسأله عنه...؟ اتّضح أنه من الراعي وفرد سابق من الستة وثمانون... من المُحزن القول أنّه هرب. لكن هدفنا لم يكن هزيمته في المقام الأول."

" والجاغرنوت ؟ "

" بدا أنّه قابلًا للإصلاح بطريقةٍ ما. على الرغم من أنّ الميكانيكي... آه ، المسمّى جورين ؟ كان يواجهُ وقتًا عصيبًا ، لذا أظهر وجهك له لاحقًا. كان يصرخ حول انتهائك دومًا من تدمير مركبتك ولم تنضج بعد."

" نعم..."

أفقدها التعثّر للخلف القدرة على التأثير ولكن أن تقدر على امتصاصِ ركلةٍ مباشرة من الديناصوريا ، ثمّ تخرج من ضررٍ يمكن إصلاحها كانت نعمة إلهية.

" إنّه محقٌ في قوله. أسبّب له المتاعب مجددًا."

الآن ، أخذت شيدن دوره في تضييقِ عينيها.

" أأنتَ مدركٌ لما تقوله أم ماذا ؟ إنهم لا يهتمون بتلفِ مركبتك بقدرِ إصابتك. أيّها الأحمق."

نُقل شين مباشرة إلى القسم الطّبي بينما توجّهوا بالأنـدرتيكر المحطّمة إلى القاعدة. والتي نقلت صورة مقلقة إلى جورين حالما رآها.

"... لا أصدق ارتكابك هذا الخطأ الغبي. مهلًا..."

انحنَت بجذعها للأمام محتفظةً بجلوسها على الكرسي القابل للطّي. نظرت إليه بجدّيةٍ خالية من علامات السخرية ، أعينٌ باردة لمن نجا لسنوات عديدة من ساحات دماء قطاع الستـة وثمانـون ، وإن لم تقضِ من الوقت مثل شين.

"... أأنتَ حقًا بخير ؟ "

"………"

طأطأ رأسه متجنّبًا بصرها. وفهم حاله حتى وإن لم تسأل.

لم يكن بخير.

لم يستطع معرفة المستقبل الذي يهدف إليه ، وطوال الوقت الذي قضاه في عذابه ، لم يعثر على قيمةٍ يتمنّاها أو أي طريقة لملء فراغه الذي يكبر داخله. علمَ أنّ الاستمرارَ بالعيشِ ليس عبرَ الاندفاع إلى الموت ، ولم يسعه ما حدث إلّا أن يدرك هوسه بالموت الذي يعانقه. ظنّ أنّه والموتُ حدقتان تناظران بعضهما ، ولكن الحقيقة أنّ كلّ وهمه هـو ذريعة لتجنّب التشبّث بالمستقبل.

والآن لم يعد قادرًا حتى على التبديل أثناء المعركة ، وهو ما كان قادرًا عليه دائمًا من قبل. حتى الآن ، وأثناء القتال ، امتلكَ قدرة التّخلي عن التفكير فيه ونسيانه ، ولكن مع تضخّم الألم وإعاقته ، تصدّع شقٌّ من الشكِّ في نفسه ، ولم يعد بإمكانه إنكار معاناته من مشاكله.

" لستَ وحدكَ من تأثّر بما حدث في قاعدة القلعة آنذاك. ذاك المشهد المنفر السّيئ بدا كما لو انتهينا جميعنا به. لكن ليس عليك أن تشغل فكرك فيه الآن ، مضى وانتهى في الوقت الحاضر."

ثمّ اكتنزت البرودة داخل نظراتها نحوه.

" دعني أخبركَ بما ستسمعه لاحقًا. في حالتكِ الآن ، لن تكون جزءًا من القوة الهجومية في العملية التالية ، يا قائد العمليات. سأنصحُ لينا أن تبقيكَ في وضع الاستعداد في المقر الرئيسي. بالنظر إلى قدراتك عليكَ العودة إلى القاعدة... وتقود المعركة من مسافة بعيدة. هذا لا يختلف عن ما قلته لريتو ، إذا لم تستطع التركيز أثناء المعركة ، فلن تكون سوى عبئًا على الجميع."

" أعلم." تجرّع المُرَّ من ردّه.

كانت محقّة... تلك الكلمات هـي نفسها التي أخبر ريتو بها. وبعد امتثاله زفرَت شيدن آخر أنفاسها وواصلت.

" همف ، حالتك النفسية سيئة. أنت لا ترد عليّ حتى... نَل قسطًا من الراحة ولا تُزعج عقلك في التفكير. أصيبت لينا بهرعٍ شديد بسببك ، لذا احرص على الإصلاحِ حين..."

التقطَت مسامعهما طرقَ كعبها العالي للأرضَ مندفعةً إليهما.

" شين! قالوا أنّ شين استيقظ..."

ألقَت صنّارة أعينها لتصطاد رؤيته على عجلٍ ، حيث توقّفت في مسارها بعد ركض نسيَت فيه كرامة القائدة وأخلاقها الأنثوية. ثمّ للحظة احمرّت في خجلٍ من مراقبته يرتدي قميصه الداخلي دون بدلة الطيران ، فهزّت رأسها تكنس الأفكار المبعثرة في ذهنها وأفضَت من مدمعِها الدّمع تخاطبه :

" شين... الحمد لله..."

تسمّرَ نظرها فوق عيناه والتوَت رقّة ملامحها في ألمٍ تشعره مع الشاش المُلتصق بالجرحِ تحته. في المقابل تداركَ شين أنّ ندبةَ عنقه ظاهرة لها بعد خلعهم لوشاحه مع بقيّة بدلته. فوضع يده فورًا عليها يخفيها داخل راحته. 

لم يخبر لينا أنّ شقيقه من ألحقها به ولم يملك نيّة مشاركتها هذا السّر. ولتحقيق هذه الغاية ، سارع في منعها من رؤيتها. وردّة الفعل هذه جعلها تحبس أنفاسها للحظة. بدورِه هو لم يرَ حزنها بينما يطأطئ رأسه هاربًا من تلاقي أعينهما.

" إصاباتك..."

" ليس إلّا جرحا على صدغي ولا شيء آخر."

كان باستطاعته مشاركتها جروحه الصغيرة المبعثرة في أماكنِ أخرى ، لكنّه لم يذكرها وبالكاد تذكّرهن من فقدانه لشعور الألم بهن. في نظره لا يوجد حاجة في الاكتراث بالإصابات الطفيفة.

" على الرّغم من قولك ، لكن باستطاعتي رؤية الضمادات... أقسم... تلقّيتُ تعليمات من الطبيب العسكري بالرّاحة ليومين ، لذا لا تفعل دون ذلك وعد إلى غرفتكْ."

"...المعذرة."

" نعم.  أخشى أنكَ لن تفلت من العقاب هذه المرة ، أيّها الضابط... ماذا حدث؟ هذا ليس من طبعك."

" آه ، جلالتك. سبقَ وأن تحدّث معه في هذا الشأن ، لذا لا تجبري نفسك على توبيخه كثيرًا."

مبادرة شيدن في التدخّل بينهما تبعه تجاهل لينا لها. بينما اكتفى شين من تذوّق المرّ على أثر طأطأة رأسه ، فنهض من السرير مرتديًا سترته المطويّة.

" شرد ذهني... وفقدت التركيز. سأحذر من تكراره."

" فقدت تركيزك...؟ "

تردّدت لبرهة ثمّ قررت حاجتها إلى توبيخه من منصبها هذه المرة. وعليه رفعت حاجبيها وخاطبتها بنظرةٍ مُلطّخة الصرامة عُنوة.

" ما أفقدك هو الأشياء التي قلقتَ بشأنها مؤخرًا أليس كذلك؟ هذا سبب تعثّرك. أأنا مخطئة ؟ "

"………"

" لكنّي حرصتُ على إخبارك أنّه سينتهي بمشكلة إذا استمرّ بالتّأثير على العملية. وعليه طلبتُ منكَ أن تحصل على المشورة أو تتحدّث إليّ إذا لم تتمكّن من حلِّها لوحدك... سأستمع إليك مهما لديكَ من حديث. هذا واجبي... وما أريده. إنّي أراكَ دومًا وكأنّكَ مُطارَد أو تُدفع إلى الحائط محاصر... جميعنا قلقون عليك شين... ما بك ؟ "

أثناء تدحرج كلماتها خفّت كشرتها تدريجيًا ، وعاد الإخلاص والبساطة إلى عينيها الفضّيتين... لكنّه أشاح بوجهه بعيدًا عنها.

لم يستطع أن يخبرها أنه عامل ضارّ بالعالم الذي ترغب فيه. ولا يزال متجهًا نحو الموت بدلاً من المستقبل الذي تأمل منه. أنّه لا ينتمي إلى جانبها كما هو الحال الآن ، ومهما أراد تغيير هذا إلّا أنه لا يعرف كيف.

لا يريد من بين الجميع أن تعرف هـي بشأنِ فراغه المتآكل داخله.

" لا شيء."

تجهّم وجهها في قلق.

" لا يمكنكَ قولها بمثلِ هذا الوجه. الحديث عنه سيجعلكَ تشعر بالتّحسن ــــ"

" لا يوجد شيء."

" أنتَ تكذب... تكرّرها دائمًا لكنك لستَ بخير! إذا كنتَ في ألمٍ ، فلن أمانع من إعارتك أذنًا... أريدكَ أن تُخبرني. أنا ، امم ، أريدُ دعمكَ و..."

فجأة ، شعرَ بتدفّق موجة من مشاعر الغضب سَرت في جسده خلال جدالهما العقيم ، واندفع بملءِ فمه صوتًا قاسيًا عصفَ في الغرفة.

" قلتُ لكِ لا يوجد شيء... لا علاقة له بكِ. ولا أريد التحدّث عنه معك."

صفعته لحظة الوعي عندما أدركَ نبرته وما قاله. لكن فاتَ الأوان على الّتي اتّسعت عيناها في تجمّدٍ اتجاهه. ثمّ تبلّلتا ، وكأنّ شقًا قد مرّ عبرَ فضّيها وكسر.

"... لماذا تقول هذا ؟ "

غلّفت صوتها بقشعريرةٍ لامسته ولم يسمعها من قبل.

" تقول لا شيء بينما تُناقض وجهكَ الذي يصرخ بحقيقةٍ مُغايرة. أنكَ في ألمٍ ودوامةٍ من عذاب ، ولكنّك لا تفصح عن أي شيء أبدًا. ألا تريد التحدث معي...؟ ألستُ أهل للثّقة ؟ أأنا حقًا لستُ جيّدةً كفاية لمساعدتك ؟..."

انسكبَ الدّمع وأمطر خدّيها مثل الماء الذي يشقّ السد وأمام أنظار شين الذي تسمّر في صدمة. أدركَ أنّ عليه ما يقوله ليوقف العاطفة المكسورة ولكنه سارَ مع تأرجح عقله ولم تخرج منه أيّ كلمات.

وبقيَ انهيار لينا شاهدًا على صمته.

 

" ألا نقاتل معًا...؟ "

 

تردّد صراخ سؤالها ، ودون انتظار الإجابة استدارت واختفَت خلال ركضها كما أتت.

" آـ آه ! جلالتك... لينا ! "

أسرَعت شيدن خلفها لكن لم يلتقط شين سوى طرقات حذائها الثقيل المُبتعد حتّى غابت عن مسمعِه. وذلك لم يمكّنه من التّحرك إليها.










  *   *   *

 

كم ظلّ واقفًا ؟ في هدوءِ وحدته بعد رحيل ضجيج خطواتهن. ثمّ انتشلَ وعيه بعد لوعة في ملاحقتِها ، لكنّه اكتفى بعمليةٍ من الشّهيقِ والزّفير المسموع وأبلغ طبيب المستوصف عن مغادرته إلى غرفته.

وما إن خطَى عدة خطوات ، صدحَ بجانبه صوته متطفل.

" ألن تلاحقها ، نوزين ؟ "

"...أكنت تشاهد ؟ "

وجّه انتباهه إلى فيكا المُستند بظهرهِ على الحائط المجاور لباب المستوصف.

" يُوجد أجواء أحيانًا يصعب على المرءِ تفويتها. ورغم قُسوتي إلّا أنّي على معرفة ما إذا كان هذا وضع يجب أن أتدخل فيه أم لا."

ثمّ جال بنظرِه إلى نهاية الرّدهة ، مشيرًا إلى وجهةِ لينا بينما استجاب شين بزفيرٍ قصير.

" أعلم أنّ على عاتقي دين اعتذار. لكن..."

علمَ أنّه المخطئ الوحيد فيما حدث ، ولكنّه لم يستطع فهم أين ارتكب خطؤه. كان هجومه وإيذائه لها خطأ واضح. لكن الذي آذى لينا لم يكن كلماته القاسية ، بل التبادل الذي دارَ بينهما قبل الصراخ. وهو ما جهلَ حوله وعن خطيئته المرتكبة في نظرِ لينا. 

إذا حكم على حواره معها ، فسيستنبط أنّ المشكلة تكمن في عدم إخبارها ما تودّ سماعه. وهـو على قناعةٍ أنّ مشاكله التي يعاني منها ليست مرتبطة بها ، وعليه لم يرغب في التسبّب بقلقٍ وأن يكون عبئًا عليها. يريد أن يحتفظ بألمه الذي إن عبّرَ عن بالكلمات سيجد نفسه في رداءٍ ينظر له بشفقة.

" إنّ الاعتذارَ عن خطئٍ أجهلَ ارتكابه... من شأنِه أن يؤذيها أكثر."

كل ما فعله هو إيذائها. آنذاك ـــ كما الآن.

" هذا يجعلني... حزينة جدًا."

أسقطَ فيكا عن وجهه الوَسيم ابتسامته المعتادة وأمالَ رأسه ملقيًا كلماته.

" يا لكَ من جبان."

أحدثت كلماته فوضى الدهشة على تعبير الموصوف. 

" جبان...؟ "

"نعم ، ولا أتحدّث من حيث القتال. في الجبهات أنتَ شجاع إلى حدِّ التهور ، ودائمًا ما نظرت إلى خطورته. ولكن..."

أثناء استنادِه الكامل على الحائط بذراعين معقودتين ، قامَ بثني جذعه للأمام مقتربًا ورافعًا رأسه للأعلى نظرًا لفرق طول شين القليل عنه. وحرصَ على مواجهةِ أعينه الإمبراطورية البَنفسَج وأعين العقيق الأحمر. بين الوحش والدّموي.

" أستطيع أن أعرف في اللحظة التي أنظاركَ بها أنكَ تقمع أفكارك في مكانٍ ما."

كان يتظاهر بغرقهِ في التّفكير ، حتّى يُوقف وخزَ الأفكار التي تزعجه.

" لا يدور أمركَ حول جهلكَ عَن أخطائك. إنّما أنت لا تريد التفكير فيها. حدثَ ذلك فيما يتعلق بعائلتك أيضًا ، وعليه أدركت أنّ الأمر ليس بعدم استطاعتك التّذكر ؛ بل برغبتك. لا تريد لمس ندوب الجروح القديمة... حقيقة قولكَ أنك لا تعرف ما الخطأ الذي ارتكبته ، هـو في الواقع شيء لا تريد التفكير أو الأمل فيه."

" هذا..."

حاولَ غريزيًا إنكارَ ما تلاه على مسمعه. ليتمكّن من أريحيّةِ قول تخلّيه عن مستقبلٍ لا يملكه. كانت هذه طريقته في التفكير ، حتّى أدركَ أن المشكلة لا تكمن في عدم استطاعته بل برغبته المعدومة من الجذر. لأنّه توّجَ الموت خاتمةً لكل مستقبل الستة وثمانون.

وفي هذه الحالة ، شعرَ بلزومِ اعترافه أنّ طريقته في الشعور والتفكير بعدمِ امتلاكه مستقبل ، كانت خاطئة. لأنه استطاعَ الظفرَ بأملٍ ورغبة يحتويها... ولكن الخطيئة كامنة في سوداوية نفسه. وفي لحظة إدراكه حاول بللا وعيٍ قمع براعمه الناشئة ، متظاهرًا بعدم حدوثها.

لم يفوّت صاحب أعين البنفسَج وميض العاطفة وضَحك.

" لم أخبركَ بالمناسبة... تعرّفتُ على والدك ، وتحدّثت معه من قبل. مثل زيلين ، كان والدك ليشا نوزين باحثًا في الذكاء الاصطناعي. أأخبركَ عن سببِ تبادلنا ؟ سيكون من الجيد أن تستمع إليّ ، إذا لا يمسّ جروحك الرطبة."

"........؟!"

انتشلَت الكلمات أنفاسه وأسرتها.

" كن فتىً صالحًا... شين..."

بدا وأنّه تذكر فجأة ، رغم علمه أن الكنز الثمين الذي حفظ صوت والدته ووجهها المُبتسم ، والده وشقيقه... كان موجودٌ منذ زمن طويل. نعم يتذكرْ. في الوقتِ نفسه لا يريد ذلك.

ليس الأمر أنّ التذكر سيجعله يكره ما احتفظ به في أعماقِ ذكرياته. لكنّه على قناعةٍ أنّ تلك الذكريات كانت متشابهة جدًا مع الأشياء التي تمنّى التشبّث بها. أنّها السعادة التي وصفتها لينا. ولذلك لم يسمح لناصيته أن تستدرجها وتذكّره بها.

خشيَ في التفكير بتلكَ السعادة ، وأن يرغب في تذكّرها حيث يمدّ يده إليها ويتمنّى حدوثها لكي تُعاد من جديد...

 

يفزعه هذا.

 

"... ربما أنتَ على حقّ."

" اعترفت أخيرًا. عادة ما يفضل من في سنّك الموتَ على السماح للآخرين برؤية نقاط ضعفهم. لكن هذا مصدر إزعاج لمن حولك فإذا تألّمتَ ، قل ذلك. أما عن مليزي ، حسنًا لن أكفّ عن ما سأقوله لك لأن مشاهدتكما على هذا الحال أصبحت مزعجة للغاية. تقول أنكَ لا تريد أن تكون عبئًا ، لكن رفضك الاعتماد عليها لا يُظهر سوى عدم الثقة ، وهذا يؤلمها."

هزّ الأمير كتفيه ، غير مدرك أنّ تصريحه تجاهلَ ما يناسب سنه وتعاليه.

" عليكَ الاعتذار لها إذا استطعت... هذا من واقع الخبرة ، ولكن إذا لم تقل الكلمات التي عليكَ قولها في الوقت المناسب ، فسيبقى لكَ النّدم عندما تختفي فرصتك."

"...أنتَ لطيفٌ بغرابةٍ  اليوم ، يا ثعبان الأغلال."

ردّ شين ساخرًا في محاولةٍ لإغاظته ، ولكن فيكا لم يمانع.

" آه... بسبب ليرش."

ضاقت عينا شين عند بروز اسمها.

" أخبرتكَ تلك الفتاة البالغة سبع سنوات بشيءٍ لم ينبغي لها قوله. لذا حاولت الاعتذار في محادثتنا. لا أشعر عادةً بالقلق بشأنِ اضطراباتك الداخلية ، لكن بما أنّها ساهمت في تفاقمها ، لم أستطع الوقوف مكتوف الأيدي وتجاهلك."

ثمّ واصل فيكا حديثه بصوتٍ خالٍ من العاطفة التي سكبَها قبل لحظات ، محدّقًا في شيءٍ ذهب بعيدًا ولم يعد بالإمكان الوصول إليه أبدًا.

" أنت هنا تريد أن تجد السعادة مع أحد ما."

"………"

" لا يهم ما تفكر فيه حقًا. ولكن إذا كان هذا هو شعورك حقًا..."

لبُرهة تذكّر شين لحظة إدراكه أنّ ليرش فكرة مستوحاة من الفتاة التي هي أخت فيكا بالرضاعة. فبينما لم يشارك فيكا عنها أبدًا ، أفصحت ليرش القليل. من هي حقًا التي تمنّى أن يصبح سعيدًا بجانبها...؟

" إنّ عدم تمنّيكَ إيّاها الآن ، أتعتقد حقًا سيُجنّبكَ الحزن...؟ لن تجني ذلك. سواء شئتَ السعادة أم لا ، مآلكَ تذوّقَ الخسارة ، والأخيرة تؤلم. الألم الذي لا تطيقه روحك."

رسمَ بسمةً بسيطة تكاد ترفع زوايا شفتيه. ومع ذلك واصل بغضبٍ نابع من صدق قلبه.

" مَن تتوق إليه لا يزال حيًّا. هذه فُرصتك في البوح بما في داخلك ، وأقترح عليكَ أن تنتهزها في الحال. لأنكَ إذا فقدتها... فلن تنال كنز محادثتها مجددًا. متأكدُّ أنكَ تدرك هذا بكلّ آلامك."

-

شكّلت القاعدة العسكرية في المملكة التي مكثوا بها مصدر مخاوف لشيدن التي لم تعتد عليها ، ولا حتّى ثقافتها المختلفة عن كل من قطاع الستـة وثمانـون والاتّحاد. كذلك التخطيط البنائي الأساسي لهياكلها. وقد بُنيت هذه القاعدة الاحتياطية لتكون مربكةً عمدًا لتضليل المتسللين ، مما وضعها في تنقّلٍ صعب.

ولكنّها تساءلت عن أيّ مدى حقًا يمكن للينا الذهاب والاختفاء ؟ تلك الّتي ترتدي أحذية خرقاء ذات كعب وسيّئة في الجري. بعد البحث في كل زاوية ، تمكّنت أخيرًا من الّلحاقِ بجلالتها ، والتي انحَنت على مكتبٍ في زاويةِ غرفة إحاطة مهجورة. بجانبها جلست جريث بصُحبةِ تعبيرٍ مندهش من سلوكها المفاجئ ، بينما علَّق رايدن وقوفه في المنتصف فلا هـو قريب من حساسيّة لينا وليس ببعيد ، منزعجًا كما بدا لأنّه لم يستطع كسر الصمت. فنظرَ إلى شيدن وحرّك شفاهًا صامتة.

ماذا حدث ؟

بادلته المقابلة بالمثل.

 تشاجرت مع الأحمق شين.

أوه ، هذا هو السبب.

اختتم رايدن تبادلهما القصير بإسقاطِ كتفيه متعبًا وشعرت شيدن بالمثل. لم يغِب عن الجميع حالة شين المضطربة ولكنّه عادة ما يبقي مشاعره مكبوتة ، تمامًا مثلما تتصرّف هـي ولذلك تعاطفت معه. لكن أن يُحدث هجومًا على لينا ، من بين الأناس أجمع؟

بدا شين هادئًا للوهلة الأولى ، لكن الحقيقة أنّه امتلك فتيل من شأنه أن يحترق في أيّ لحظة. وكان من الصّعب ملاحظة شعلته الخافتة ، فهـو إذا لم يعجبه شيء ، يظلّ صامتًا وغير مبالٍ بأولئك الذين لا يربطه بهم علاقة متينة ، وإن وجّهوا العداء نحوه.

وحقيقة أن شين ولينا تشاجرا... تعني أنه لم يتمكن من الحفاظ على تلك اللامبالاة والنبرة الغاضبة. لعلّ ما أظهره هو لرؤيته أنّ لينا من المقرّبين إليه ــــ أو من يودّ أن تصبح على مقربةٍ منه.

ولكن بغضّ البصر عن أفكاره ، يحكي الواقع مشهدَ سيّدتها وهي متكوّرة أمامها. المشهد الأول التي أبصرته وصعب عليها معرفة رايدن قبل ذلك الذي التزم الصمت من تردّده في الحديث ، وبعد اندفاعها إلى الغرفة ، رأت جريث. صبّ السكون مجلس لينا وهـي مكبّلة الرأس ، بينما انتشر شعرها الفضي الطويل على كتفيها المرتعشين مثل فراشة غمرت أجنحتها بالمطر.

" اممم... أأنتِ بخير ، جلالة الملكة ؟ "

بصوتٍ مكتوم ، تمتمت لينا بردٍّ مع الحفاظ على طأطأةِ رأسها.

" أعتذر."

"... عن ماذا ؟ "

" عَن..." ثمّ شهقتْ. " مظهر من تدعى قائدة تبكي أمام مرؤوسيها ما إن رفضها أحد جنودها..."

تجلّى هذا الشأنَ بشكلٍ مُخزٍ في ظنِّها بعد تجمّعهم حولها. بينما أدلَت جريث التي تجاورها الجلسةَ بابتسامةٍ مُقوّسةٍ بمرارة.

" أشعر وكأنني أتلقى اللوم قليلًا."

رفعت الّتي تدفن رأسها في جُحرها بتعبيرٍ مُتفاجئ من بيانها.

"...لماذا ؟ "

أغفلَت في حديثها عَن التّهذيب نظرًا لمدى تزمتها عادةً ، لكن لم يُمانعها أحد خاصةً جريث الّتي أذهبَت المرّ من ابتسامتها.

" من المؤكّد أنّ القادة لا يظهرون مشاعرهم أمام مرؤوسيهم. لكن ذلك عندما تكون أعمارهم أكبر سنًّا منكم يا أطفال. نُوضع في مناصبنا عندما نكون في السّن الذي يمكننا التحكّم فيه بعواطفنا بشكلٍ أفضل قليلًا ، ولهذا السبب يتوقّع الناس أننا لن نصرخ أو نبكي. "

يصبح المرء ضابطًا عادةً بعد إكمال تعليمه العالي ، مما يعني أنه يصل إلى أدنى رتبة مكتبية وهي ملازم ثانٍ في العشرينيات من عمره على أقربِ تقدير. ومع ذلك يُعامل مثل المبتدئين من قبلِ ضباط الصف المخضرمين ، ولا يمكنه تولّي قيادة وحدته إلا بمساعدتهم.

على الرغم من أنّ القدرات الفردية مختلفة ، إلا أنّ الترقية إلى رتبة ملازم أول أو نقيب تستغرق عدة سنوات ، ولن تصبح عقيدًا قبل الثلاثينيات. إنّ الغريبَ في الواقعِ الآن هو الحصول على مقعدِ الملازم الأول والنقيب في سن المراهقة ، ناهيك عن لينا ، التي بلغت رتبة ضابطة ميدانية.

" إنّ الواقع الذي ألقى هذه المسؤوليات على كتفكِ منذ صِغرك واختطفكِ من فرصة معرفة مشاعركِ حتّى آلَ حالكِ إلى هذه الفوضى... هو خطأنا نحن الكبار ، نحن الذين لم نتمكّن من إصلاح الثغور قبل أن تصل إلى الحافّة. لذلك لا داعي لأن تحصّني نفسكِ بالمثالية بهذه الطريقة. "

أسدلَت لينا من حاجبيها بتعبيرٍ يرثى لها.

" لكن أنا... كان من المخطّط أن أكون مثالٌ للموجّهين..."

أدركت لينا أنّ هذا هو ما وجدت صعوبة في تحمّله. لم تكن تهتم بكرامة رتبة الضّابط بقدرِ ما إن شعرَ الستـة وثمانـون بخيبةِ أملٍ منها. أن لا يروها إلّا... شابّة هشّة تنفجر في البكاء عند أقلّ ألم.

سبقَ وذرفت دموعًا بائسة أمامه وهذا زادها حرجًا ، لأنّها بكلِّ يأسٍ أرادت ألًا تظهر له في هيأةِ الأميرة البكّاءة التي هي عليها الآن.

" جميعنا رأى عملكِ الجيّد ونجاحكِ في الوصول إلى ما أنتِ عليه الآن ، ولن يفكّرَ أحد فيكِ باستخفاف إذا ذرفتِ بضع دموع. بل ربّما سيوافقون اعتقادهم بأنّكِ أصبحتِ أكثر جاذبية... ألستُ محقّ ؟ "

يعلم الجميع أنك نجحت، لذا لن يفكر أحد فيك بشكل سيء بسبب بضع دموع ذرفها. بل قد يعتقدون أنك أصبحت أكثر جاذبية بسبب ذلك... أليس كذلك؟"

أصابته بأسهمِ شفنِها له وهو شتّت نظراته متجاهلًا عمدًا مزاجها الحادّ. ظنّت جريث للحظة أنا أرادت توجيه النظرات للّذي لم يكن هنا والمُسبّب الأول لدموعها ، لكنها لم تتعمّق أكثر ، وعادت إلى لينا بسؤالٍ واضح.

" تشاجرتِ مع شين مجدّدًا ؟ "

أحزنها الاعتراف بذلك ومرّة أخرى تلألأت مقلتيها بالدّمعِ والانسكاب.

" بدا وكأن شيئًا ما يزعجه منذ زمن. اعتقدت أنه لا يزال متوترًا من تراكمات العملية الأخيرة ، لكنه مؤخرًا ازدادت تصرفاته الغريبة. وعليه أخبرته أنني سأستمع إليه ما إن كان مستعدًّا للتحدّث."

استنشقت الملقّبة بالملكـة الدّمويـة سيلان أنفها مثل طفل صغير وأكملت.

" قال عنه لا شيء. كما ولن يخبرني... لم يثق بي ولن يعتمد عليّ أبدًا."

احتفظ كلا جريث ورايدن بلفظٍ صامتٍ مـن " أوه..." في ذهنهما. واتّفقا على أنّه بلا شك ستتأذى لينا من ذلك.

القائد نوزين هو حقًا صبيّ... تأمّلت جريث هذا الوصف داخلها.

يجب أن أسحب ذاك الأحمق إلى هنا وأن يبادل مكانه معي.  بدوره رايدن خاض في أفكارٍ مغايرة عن مجموعة المواساة الحالية.

" صرخَ قائلًا لا يريد التحدّث عنه معي... أنا..."

" يا إلهي..." لم تستطع جريث ألّا تدحرج عيناها. " حسنًا... فهمت. ولكن ألم أخبركِ من قبل ؟ أنّ الاختلافَ وبعض التجاوزات اتّجاه بعضكما البعض أمر طبيعي. إذا لم تتجادلا ، فسوف أتساءل عما إذا كنتما بعيدين جدًا. كلما اصطدم قلبان ، كلما أصبحا أقرب. إذا كان بإمكانكِ القتال والتصالح... فقد يكون من الأفضل لكِ القيام بذلك خلال حربكما هذه."

" إنّها محقة ، جلالتك. ألم تخبريني بنفسكِ أنّ العداوة تؤلّف المحبّة."

"………"

لكن لينا لم تقتنع بذلك في هذا الموقف.

"...إذا كنت رايدن..."

ما إن عادت للحديث تفاجأت من نبرة صوتها وكأنّها طفل متجهّم.

" إذا كنت رايدن أو ثيو ، لكن شين استشارني وتحدّث معي. كان ليستند بشكواه علي."

على عكسي. التحفَت الكلمتان الأخيرتان قبحًا أجبرها على ابتلاعهما في غصّة. شعرَت لينا بواقعها ومسافتها عندما رأت تحدّثه إلى رايدن ، ثيو ، أنجو وكورينا، وكذلك مارسيل ، معاصره من أكاديمية الضباط ، بينما هـي في دائرته ليست منتمية إلى مكانها. حتّى أنّ شعور الطرد تلتمسه أحيانًا مع فيدو ( الذي لا يستطيع التحدث ) ، وفيكا وداستن.

بدا مختلفًا معهم على عكس ما كان عليه عادةً عندما يتحدث معها. مثل تعبيره حولهم وهـو أكثر فظاظة ، وإهمالاً ، وعشوائيةً ، و... نعـم ، غير متحفظ. وكأنه لم يكن متردد وبلا قيود. يتحدّث إلى من هـم في ذات المكانة معه ، وهذا الشعور أحبط لينا.

" أتساءلُ عن صحّةِ ما قلتِه..." اجتاح رايدن شعورًا مفاجئًا غمره الحزن.

رأت عندما رفعت رأسها إليه ابتسامته لها والتي تحمل ندمًا عميقًا.

" في النهاية نحن من الستة وثمانون مثله تمامًا ، وهو حاصدنـا... وعلى الرغم من قدرتنا القتال معًا حيث يقف ، لكن لا يمكننا أن نفعل أكثر من هذا لأجله... ليس مثلك."

-

" قائد."

استوقفه ريتو الذي وجده في انتظاره عندما عاد إلى مسكنه في القاعدة.

" سمعتُ عن إصابتك... إنها خطئي. أعتذر."

"...لـا."

هزَّ شين رأسه بخفة نافيًا إقحام خطأ ريتو فيما حدث ومحاولة إلقاء الّلوم عليه في حالته. فـحتّى يكون صادقًا ، هـو مثله أين أصابهم أسهم الشكوك ولم يكن لوحده. وبدورهِ المقابل ألقى عيناه الكبيرتان العقيقيّة المُزرقّة ملؤها النّدم والألَم.

" قائد. في العملية التّالية... الاستيلاء على جـبل التـنين فـانغ ، إيه..."

"... أتفضّل البقاء في المقر الرئيسي؟ "

أنهى القائد جملة مرؤوسه الذي تلعثمَ في تردّده. لا تزال العملية مُخيفة عند المقارنة إلى مدى فرق القوى بينهم وبين الفيلق. ومغادرة ريتو ستكون ضربة مؤلمة لتوزيع هذه القوى... لكنّه لا يجبر أحدًا لا يريد القتال في المعركة. إنّ الذي يذهب إلى تلك السّاحة ضد إرادته... نادرًا ما يعود.

ولكن أظهر ريتو نفيًا من بقايا قوّته.

" لا ، على العكس. من فضلك لا تُخرجني من العمليّة. حتّى قدوم الموعد سأكون قد حللت هذا الشأن بشكلٍ صحيح."

" لكن... ألست خائف؟ "

ألم يكن خائفًا من الموت الذي ينتظره في نهاية المعركة...؟ من المصير الوحيد للستـة وثمانـون؟

" بلى."

أجاب بعد عراك في الشّفاه لاحت زرقاء شاحبة. أجاب دون تلميع أكذوبة على نفسه ، محتفظًا بالخجلِ في نظراته الثابتة اتّجاه قائده. ومع ذلك...

 " لكنني... لا أريد الهروب من القتال ، وأكره رؤية حدوثه."

القتالُ حتّى النّهايـة. هذا ما اختاره فرد من الستـة وثمانـون ولن يقبل بقُبحِ الهرب. لا يمكنه أبدًا الانزلاق في مثلِ هذه الهاوية.

" لا أريد... التّخلي عن هويتي."

حتى وإن لفَحه الشكّ في عبثيّة هذه الهويّة.

 

-       نهاية الفصل الثاني.


[كادر العمل]

ترجمة وتدقيق: pandoravanitas@

تبييض وتحرير : abdHD__@

تعريب الغلاف وتنسيق المجلد: abdHD__@

ملون الصور التوضيحية الثالثة : TheVisionary29@





التعليقات

إعدادت القارئ

لا يمكنك تغير لون الخلفية بالوضع المظلم
تغير نوع الخط غير متاح بالوقت الحالي
إعادة ضبط